مما يروى من قصص السلف الصالح أن عبد الله بن المبارك كانت له جارية، أمرها ذات يوم أن تجهز له ماءً دافئاً ليتوضأ به، ولكن الجارية نسيت الماء على النار حتى اشتدت حرارته، ثم أخذته ليتوضأ به ابن المبارك فوقع الإناء من يدها عليه، ولشدة ألمه قرأت الجارية في وجهه علامات الغيظ والنقمة، فما كان منها إلا أن قالت له: والكاظمين الغيظ. فقال لها ابن المبارك: كظمت غيظي، ثم قالت له: والعافين عن الناس. فقال لها: عفوت عنك، ثم قالت: والله يحب المحسنين. فقال لها: أنت حرة لوجه الله. نقرأ هذا الموقف لواحد من أعلام السلف الصالح الذي هذب الإسلامُ نفسَه، وزكى من روحه حتى أدرك كما علمه سيد البشرية صلى الله عليه وسلم أن قوة الإنسان لا تُقاس بحجم جسده وقوة عضلاته، وإنما تقاس قوته بمقدار قوته على التحكم في نفسه، والسيطرة على انفعالاته، مناقضاً بذلك فكر الجاهلية الذي عبر عنه عمرو بن كلثوم عندما قال: ألا لا يجهلن أحد علينا.... فنجهل فوق جهل الجاهلين وكأنه يريد بذلك أن يسن قانوناً عنوانه _إن علاج الجهل إنما يكون بشدة الجهل_، وهذا ما تعارف عليه العرب في جاهليتهم. فجاء الإسلام وخفف من هذا الطغيان، وأقام أركان المجتمع على دعائم الفضل والإحسان، فإن تعذر الوصول إلى ذلك فلا مناص من العدل الذي يجعل الإنسان لا يعاقب غيره إلا بمثل ما عوقب به، وتلك غاية لا سبيل لتحققها إلا بهيمنة العقل الراشد على غريزة الغضب وثورتها لدى الإنسان، والإسلام في علاجه لمشكلة الغضب وثورته في الذات الإنسانية يدرك أن الخلق تتفاوت درجاتهم في الثبات أمام المستفزات والمثيرات، فمنهم ظالم لنفسه تستخفه التوافه حتى تخرجه عن نهج الحق وجادة الصواب، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات لا تستفزه الشدائد مع مرارة وقعها فيحتفظ عند ثورة الغضب برجاحة عقله وكريم خُلقه، موقناً أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين ثقة المرء بنفسه، وبين الحِلم على الجاهلين، والتجاوز عن هفواتهم، فعظماء الرجال حقاً هم قومٌ ركبوا متن الكمال فحلقوا به في سماء الفضيلة للحلم في نفوسهم مستقراً ومقاماً فاتسعت صدورهم وعذروا الناس من أنفسهم، والتمسوا المبررات لأغلاطهم فإذا ما تعدى عليهم سفهاء الناس نظروا إليهم من قمة الخلق الكريم نظرة العَفُو الحليم شعارهم في ذلك أين الثرى من الثريا، والحلم في معناه وإن تقارب مع الصبر، إلا أنه في الحقيقة يختلف معه، فالحلم كف النفس عن الثأر أو مقابلة الأذى بمثله، والصبر تحمل المكروه. كما أن الحلم مقترن بالقدرة على الانتقام والعقوبة، في حين أن الصبر يرتبط بما لا طاقة للإنسان به، والحلم نقيضه الغضب أما الصبر فنقيضه الجزع، وقد يجتمع الحلم والصبر في الإنسان فيكون حليماً صبوراً كما في قول الله سبحانه وتعالى _وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ_ النحل 126. فترك العقوبة هنا يمكن أن نطلق عليه صبراً أو حلما، والحلم صفة من صفات الله عز وجل، إذ إنه سبحانه يطلع على معصية العصاة، ومع ذلك لا يستفزه غضب إلى المسارعة في الانتقام منهم مع أنه سبحانه هو القاهر فوق عباده والقادر عليهم، والحلم كذلك صفة من صفات الأنبياء والمرسلين، يقول سبحانه في حق إبراهيم عليه السلام _إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ_ هود 75. ويقول سبحانه في حق إسماعيل عليه السلام _فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ_ الصافات 101. وفوق ذلك، تأتى الآيات القرآنية لتحث على هذا الخلق الرفيع، يقول سبحانه _خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ_ الأعراف 199. ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وسيرته هذه الآيات القرآنية من إطارها النظري ليترجم عنها بعمله وسلوكه، فقد روى البزار من حديث أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه شيئاً فأعطاه ثم قال له: أأحسنت إليك؟ فقال الأعرابي لا ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا عنه ثم قام، ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال له: أأحسنت إليك؟ فقال نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك، فقال الأعرابي: نعم، فلما كان الغد جاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفوراً. فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة... فأخذ لها من قمام الأرض فردها هوناً هوناً حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم، حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه لدخل النار. وهكذا نرى الرسول الحليم لم تأخذه الدهشة أول الأمر لجفوة الأعرابي ونكرانه، إذ أن تصوره يعبر عن صنف من الناس رُبِّي على الغلظة في التعبير، وعدم المبالاة بالكلمة، فلم يعاجله بعقوبة تقضي عليه، وإنما هذب نفسه بعفوه وحلمه حتى فاض لسان الأعرابي بالثناء عليه، ومن ثم أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحلم وكظم الغيظ، والقصد في الغضب. فقد روى أبو داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال _من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيِّره في أي الحور شاء_. وروى ابن أبي الدنيا عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال _من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً_. وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال _ثلاث من كن فيه أواه الله في كنفه، وستر عليه برحمته، وأدخله في محبته: من إذا أُعطي شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر_. ومع وجود هذه الآثار والوصايا التي تحث على العفو والحلم، نقرر أن واقعية الإسلام ترى أن الغضب غريزة بشرية شأنها شأن ما أودعه الله في الإنسان من غرائز، ومن ثم فإن لها دورها الذي خُلقت من أجله، لذا عمل الإسلام على تقويمها لا مصادرتها ليسير بها نحو الاعتدال من خلال تقديم النصائح والتوجيهات ليصل بها إلى المستوى المطلوب إذا ما انتهكت محارم الله عز وجل. وعلى هذا، فلا بد من وجود قدر محمود من الغضب لدى كل إنسان يزع به من خلت نفوسهم من مبادئ الإيمان وسطوة الضمير.