هو ذلك السلسبيل الذي تفتق تحت أقدام سيدنا إسماعيل، ابن الخليل عندما كان وأمه يشرفان على الهلاك، بوادٍ غير ذي زرع ٍ عند بيت الله المحرم، وهنالك جاء المدد "ماء"، تتدفق عجائبه ومعجزاته، أجيالاً وقروناً. ولأن آل إبراهيم من ولد إسماعيل استوطنوا بأمر خالقهم الوادي المقفر في ذلك الحين، كان لا بد من ربط وجودهم بمقومات، بدأت ب "الماء"، واتبعت ب "الكعبة"، فقامت على جنباته الحضارات، وتحنك به الأنبياء، ثم أمّه بعد ذلك البشر، معتمرين وحجاجا وما برحوا في ازدياد وتتابع، وزمزم تزيد لذة وتفجراً وإبهاراً * جاءت مياه زمزم قبل كل ما أحاط بها من مناسك ومقدسات. فمن أين أتى زمزم، ولماذا؟ هل بغيره يمكن أن نرى كعبة أو حجيجاً أو معتمرين؟ بلا زمزم هل كان إسماعيل الذي تفجر تحته سيعيش؟ وبدون الماء النقي هل يمكن لقريش أن تستوطن الموقع الطاهر فتنجب لنا خير البرية؟ بل حتى الآن ما زال سقيا الحرمين، شيئاً لا يطاق بلا زمزم . فما يشربه الحجاج في الحرمين شهراً واحداً ربما لو سألنا المختصين، لفاجؤونا بأن ثمنه لا يطيق دفعه أحد ! * جاء زمزم، وغدا من بعد تفجره ذهاب هاجر وإيابها بين جبلي ( لصفا والمروة ) ، سُنة، تذكرنا لو نتفكر بقيمة الماء المبارك، وخطورته العظمى ! * من هذا الإنسان "إبراهيم"، من يكون؟ ماذا فعل حتى جعل المسلمين واليهود والنصارى إما أبناءه، أو مجبرين على اتباع خطواته والسير على خطى زوجه وأبنائه، إن هم أرادوا القربى من الله؟ جاء واد أقفر، ففجرت تحت قدمي ابنه قناة تتدفق إلى قيام الساعة. شرفه الله ببناء بيت من حجارة. فجعله الله مقدساً، وآية وقبلة. نقصته (طوبة في البناء) فأرسل الله له حجراً من الجنة (أبيض مثل الثلج)، فكان الحجر الأسود. جمع أحجاراً على هيئة سلم يصعد عليها أثناء بناء الكعبة، فغدت (مقاماً) وآية استحقت الخلود. * ليس ما سبق إلا عناوين من قصة إكرام الله لأبينا إبراهيم! ماذا عن بيت المقدس التي كان حرماً آخر؟ وماذا عن الأنبياء الذين جعلهم الله حصراً في ذريته؟ وماذا عن نبينا الذي كانت أبوته منتهى الشرف؟ ودينه الذي كان استئنافاً لحنيفية إبراهيم؟ أي ربنا: من إبراهيم، حتى تذكره في 62 مرة في آخر كتاب لك نزل من السماء؟ إلاهنا الجميل البديع، ما كان ليترك سؤالاً خطراً كهذا معلقاً، فقد كاد الكون كله يسخره مولانا تحت لواء هذا المخلوق النبيل "إبراهيم". أجابنا: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، "إن إبراهيم لأواه حليم". أما أنت أيها القارئ فإن أحببت الانتساب إلى إبراهيم أو أن تكون إبراهيما آخر على قدرك، فبوسعك ذلك، فباختصار شديد يقول لك من عرف خصائص إبراهيم، ربنا "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرنياً ولكن كان حنيفاً مسلماً". ثم أضاف "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، والله ولي المؤمنين " . إنه بكل لهجات العرب والعجم " منا، ونحن منه ". * * رئيس أهم شركة مياه في العالم : * وجدت ماء زمزم أنقى مياه حللت في أجهزتنا * * يشير سياق الآيات القرآنية، إلى أن إبراهيم قصد الوادي، لغاية تبينت فيما بعد له ولمن بعده، إلا أنها في ذلك الوقت كانت غامضة بالنسبة لهاجر، التي غادرها إبراهيم، تاركاً إياها وابنها إلى مصير بالتعبير المعاصر يعد "مجهولاً"، حتى ألحت عليه بالسؤال "آلله أمرك بتركنا"، فأجابها بحزن الزوج والأب، "نعم"، فقالت بثقة المؤمنة برحمة الله ونبوة زوجها "إذاً لن يضيعنا". وهنا بدأت قصة زمزم. فلم يلبث إبراهيم أن غاب عنه طيف زوجته هاجر، حتى ابتهل إلى الله متوسلاً "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " ، فتتابعت فضائل الله على إبراهيم وذريته، وأتباع دينه حتى اليوم . * ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وقصص زمزم لم تزل تروى وتحكى، و يمكن إيجاز أبرزها في المحطات التالية : * - تروي كتب التاريخ، أن قبيلة "جرهم" العربية، استغربت ذات مرة، وهي ترى الطير يحلق فوق الوادي، وهو الوادي الذي عهدته بلا زرع ولا ماء كما قال الله، فأرسلت موفدها، فوجدت الماء غير مصدقة ما ترى من هول الصدمة والفرحة، وإلى جانب الماء أمنا هاجر وابنها إسماعيل، ولم يزل صبياً، فاستأذنوها في النزول عليها ومجاورتها، على طريقة الباحثين عن الكلأ والمراعي حتى اليوم، فأذنت لهم، وهكذا تربى إسماعيل بينهم وتزوج منهم، فغدا عربياً، ونشأ ما عرف عند المؤرخين ب"العرب المستعربة"، وهم أفضل العرب، الذين كانوا من ذرية إسماعيل، ومنهم بطون قريش، وأشرفها بطن النبي عليه الصلاة والسلام. فقامت على حياض ذلك المبارك حضارة مكة التي أخذت تتعاظم، حتى بعث النبي عليه الصلاة والسلام، فانتهى إليها الشرف والسؤدد على النحو الذي يزداد يوماً بعد آخر، إلى قيام الساعة. و"زمزم" تعني على أشهر الأقوال "قف" بلغة هاجر، التي جعلت تجمع الماء المتدفق، * - بعد أن غدت زمزم "بئراً" نظراً لعوامل الطبيعة المحيطة، دفنت لأسباب يصعب الجزم بأسبابها، فاختفت معالمها، وغاب ذكرها بين سكان المنطقة، حتى كان عهد جد النبي عبد المطلب بن هاشم، فرأى في المنام أن آتياً يأمره بحفر مكان محدد في المنطقة المجاورة للكعبة المشرفة، فلما تكرر المنام مرات عدة، عرف أنه حق، فأخبر قومه بالخبر، وكانوا فيما يروى بلغتهم بعض الروايات عن زمزم لكنهم لا يدرون أين موقعها بالتحديد. فلما أبلغهم بالخبر آزروه على الحفر، وساندوه، على أنهم مجرد أنصار له في مهمة اختاره الله لها قصداً. فلما بلغوا فوهة البئر طمع القوم وكادوا يتقاتلون، ينازعونه المجد الذي خص به. إلا أن عبد المطلب بحكمته وثباته استطاع إقناع قريش بما أراد، ولكنه نذر بسبب الموقف المحرج الذي وقع له، أن يذبح عاشر ابن يرزقه الله إياه، شكراً لله على ذلك، فهو ما كان لتطمع قريش في نزع الكرامة التي خص بها لو كان له أبناء يحمونه، وهو يومئذ في مرحلة مبكرة من حياته، وليس معه إلا ابنه الحارث فيما ذكر. مضت الأيام، فرزق الله عبد المطلب بأبناء كان عاشرهم عبد الله أب نبينا عليه الصلاة والسلام، فكان لا بد من ذبحه وفاء بالنذر الذي أخذ على نفسه، ولكن قريشاً بحكمتها أقنعته بالعدول عن الذبح إلى الفداء، والدية، فقاموا على طريقتهم في ذلك الوقت بإجراء ميزان لما يمكن أن يشكل فداء لعبد الله، فجعلوا يضعون في مقابله عشر من الابل فيرجح عبد الله، ويزيدون عشراً أخرى، حتى بلغ عدد الابل مائة، فتساوى معها عبد الله، فكانت دية القتيل في قريش منذ ذلك العهد مائة من الابل. فذبحها عبد المطلب، وترك الناس والطير والسباع تأكلها على جبال مكة ووديانها. وبقي عبد الله حراً طليقاً، مباركاً، أتى من صلبه خير البرية. وكان جميع ذلك من أجل زمزم! * - حصر عبد المطلب سقيا الحجاج بزمزم في أبنائه، فيما عرف بمهمة " السقاية " التي كانت عرفاً في الجاهلية جاء الإسلام فأقره . * - بعد بعثة النبي، حفلت أفعال النبي والصحابة بتعظيم الماء المبارك، ووردت فيه أحاديث وآثار، نصت على أنه خير ماء على وجه الأرض. قال رسول الله - صلى الله عليه -: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء السقم " رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه. * ماء زمزم نبع في أقدس بقعة على وجه الأرض : عند بيت الله الحرام، وقرب الركن والمقام، وقد اختار رب العزة هذا المكان عند بيته المعظم ؛ ليكون سقيا لحجاج بيت الله الحرام وعماره وزواره وجيرانه . * وفي حديث طويل لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين جاء إلى مكة ودخل الحرم، وبقي ثلاثين يومًا، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "متى كنت هنا؟ قال: قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك ؟ قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عُكَنُ بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال - صلى الله عليه وسلم -: إنها مباركة، إنها طعام طعم" رواه مسلم. قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: "وشاهدت من يتغذى به- ماء زمزم- الأيام ذوات العدد، قريبًا من نصف الشهر وأكثر، ولا يجد جوعًا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يومًا " انتهى . * - ماء زمزم شفاء من السقم: لما ورد آنفًا من حديث ابن عباس "... وشفاء من السقم ". فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يشربون من ماء زمزم، ويصبون على رؤوسهم ووجوههم، ويدعون الله عز وجل بما شاءوا، وقد أثر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان إذا شرب من ماء زمزم قال: " اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كل داء " . * - ماء زمزم لما شُرب له: فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ماء زمزم لما شُرب له". وذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن لفظ (ما) في قوله - صلى الله عليه وسلم: "لما شرب له" من صيغ العموم، فتعم أي حاجة دنيوية أو أخروية . * - من السنة حمل ماء زمزم من مكة إلى الآفاق: فقد كان يحمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويأمر بحمله في الأداوي والقرب، وكان يصبه على المرضى ويسقيهم. فإن فضله لعينه، لا لأجل البقعة التي هو فيها. * - من السنة الشرب من ماء زمزم عند الفراغ من الطواف بالبيت وقبل البدء بالسعي، و صبه على الرأس . وكذا شرب ماء زمزم عند الفراغ من أداء المناسك . * - غُسل بماء زمزم قلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم -: فقد شُقّ صدره الشريف - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات كما في صحيح البخاري: مرة وهو ابن أربع سنوات وكان عند مرضعته حليمة السعدية، ومرة وهو ابن عشر سنوات، ومرة حين نبئ عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي إليه، ومرة رابعة ليلة الإسراء والمعراج حين عرج به إلى السماء الدنيا . * - من المثير للدهشة ما تم اكتشافه من خصائص هذا النبع الطاهر، كما يروي المهندس السعودي المختص في المياه يحيى كوشك، والذي تشرف بالعمل في البئر الطاهر. فكان مما روى: "بئر زمزم تستقبل مياهها من صخور قاعية تكونت من العصور القديمة، وذلك عبر ثلاث تصدعات صخرية تمتد من الكعبة المشرفة والصفا والمروة وتلتقي في البئر " . * وينقل الكاتب السعودي عمر المضواحي عن المهندس فخري بخش مدير مبيعات مياه (أفيان) الفرنسية في شركة البحراوي السعودية قوله: إن شركة فرنسية اخترعت جهاز دقيق للغاية في تحليل تركيب المياه، وجاءت إلى السعودية لتسويقه. وقام ممثل الشركة بعرض إمكانيات الجهاز الحديث أمام مندوبي وكلاء المياه المحلاة والمعدنية المستوردة إلى السوق المحلي تبين فيه أن ماء زمزم كان أنقى المياه التي تم اختبارها في هذا الجهاز " . * ويصف المهندس يحي كوشك مصادر مياه بئر زمزم بقوله : " المصدر الرئيسي فتحة تحت الحجر الأسود مباشرة وطولها 45 سم، وارتفاعها 30 سم، ويتدفق منها القدر الأكبر من المياه " . * والمصدر الثاني فتحة كبيرة باتجاه المكبرية (مبنى مخصص لرفع الأذان والإقامة مطل على الطواف)، وبطول 70 سم، ومقسومة من الداخل الى فتحتين، وارتفاعها 30 سم. وهناك فتحات صغيرة بين أحجار البناء في البئر تخرج منها المياه، خمس منها في المسافة التي بين الفتحتين الأساسيتين وقدرها متر واحد . كما توجد 21 فتحة أخرى تبدأ من جوار الفتحة الأساسية الأولى، وباتجاه جبل أبي قبيس من الصفا والأخرى من اتجاه المروة . * ويبلغ عمق البئر 30 مترا على جزئين، الجزء الأول مبني عمقه 12.80 متر عن فتحة البئر، والثاني جزء منقور في صخر الجبل وطوله 17.20 متر. ويبلغ عمق مستوى الماء عن فتحة البئر حوالي أربعة أمتار، وعمق العيون التي تغذي البئر عن فتحة البئر 13 مترا ومن العيون الى قعر البئر 17 مترا " . * ويقول عند حديثه عن ضخ مياه زمزم: "بعد أن وضعت أربع مضخات قوية جدا كانت تعمل على مدار 24 ساعة، وبمعدل ضخ وصل إلى 8000 لتر في الدقيقة. كان منسوب المياه من الفوهة 3.23 مترا، وكانت القراءة تتم كل نصف دقيقة، حتى وصل منسوب المياه في داخل البئر إلى 12.72 مترا، ثم وصل إلى 13 . 39 مترا، وفي هذا العمق توقف هبوط الماء في البئر . * ولما تم توقيف المضخات بدأ الماء يرتفع حتى وصل إلى 3.9 مترا خلال إحدى عشرة دقيقة". وسجل مشاهداته بقوله: " لن أنسى ما حييت هذا المنظر الرهيب، كانت المياه تتدفق من هذه المصادر بكميات لم يكن يتخيلها أحد، وكان صوت المياه وهي تتدفق بقوة يصم الآذان". * وينفي الكوشك وهو مدير عام سابق لمصلحة المياه بالمنطقة الغربية أن تكون لعمليات حفر الأنفاق في الجبال وحفريات الأساسات العميقة للأبراج السكنية المحيطة بالحرم أي تأثير في التركيب الجيولوجي لمسار مياه زمزم أو اختلاطها بمصادر أخرى سواء من الآبار أو غيرها. * وقال : هذا لم يحدث أبدا . وشرح مزيدا للتوضيح : " وفقا للدراسات التي قمنا بها وجدنا أنه عندما تهطل الأمطار على مكةالمكرمة ويسيل وادي إبراهيم يزداد منسوب مياه زمزم زيادة طفيفة في البئر . * ولكن عندما تهطل الأمطار على المناطق المحيطة بمكة كالطائف وغيرها تزداد المياه زيادة عظيمة في بئر زمزم. ومعنى هذا أن المصدر الأساسي للبئر هو الجبال المحيطة بمكة والتصدعات الصخرية الموجودة فيها. وفي كتابي (زمزم) توجد صورة أخذت عبر الستالايت مرفقة بتحليل يبين أن كل هذه التصدعات الصخرية متجهة إلى بئر زمزم " . * - أخيراً وخلال رمضان هذا العام دشنت الحكومة السعودية مشروعاً جديداً لتعبئة زمزم، وتسهيل اقتنائه لسكان مكةالمكرمة والحجاج والمعتمرين . وهو مشروع كلف نحو 300 مليون دولار . *