بقلم: عبد القادر حمداوي* هل بدأ تاريخنا سنة 1962 كما يزعم رؤساء فرنسا ألم يسبق يوغرطة تاريخ فرنسا بأكثر من نصف قرن فضلا عن كون هذا هو بدايتهم وكون ذلك حلقة من سلسلة بدأت قبله بكثير إذ سبقه عمه مكيبسا وجده ماسينيسا وجد أبيه غايا وآخرون. إن تاريخ جذورنا وأصولنا وعروقنا وأسسها ترعاها عاداتنا وتقاليدنا العريقة ونسهر عليها ونفنى فيها ونتغذى منها. فتاريخنا البعيد لم يبدأ سنة 1962 كما يدعي الببغاوات. إن التراث ليس الآثار التاريخية فقط وليس الكتب والمخطوطات فحسب بل أيضا العادات الصالحة والتقاليد التي تحفظ لها جزءا من كيانها وتوطد مظهرا من مظاهر وحدتها وهو السلوك العام المشترك بين جميع أفراد الأمة. ويبقى أن هذا التراث لا يؤخذ هكذا على علاته بحسناته وويلاته بل يراجع كما يراجع كل شيء غير منزل ويغربل وينتقى منه الأصلح والأوفق للتبصر في ذلك كله دائما هو مصلحة الأمة. وما أعظم فقهاءنا الأمجاد الأفاضل عندما تركوا لنا تلك الكنوز من تفاصيل التشريع بفضل اجتهاداتهم الحية المتواصلة وتطرقهم حتى للدقائق والجزيئات وتصورهم حتى لما يشبه المستحيلات من الفروض والاحتمالات للسبق إلى إيجاد الحلول لها قبل حدوثها وما أروع تلك القاعدة الذهبية المنبئة عن عبقريتهم والمتمثلة في الاستصلاح والاستحسان. لقد جاءت فرنسا بعد العصور الجامدة الخامدة الهامدة بعد عهود الظلام لتصفية هذه الرواسب كلها ولاستئناف الإرث الصافي الزاهر لروما لحفيدتها البكر فلنا نحن الأولى فحتى في عهد الاستعماري بل حتى في العهد الوثني والمسيحي قبل الإسلام. كانت لهذه البلاد أيضا أدوارها الثقافية وحضارتها وذكرنا أمثلة كثيرة في عدة مناسبات. ويكفي أن نشير إلى شرشال مثلا فالملك يوبا الثاني ملك شرشال في ذلك الوقت هو الذي وضع أول خريطة للجزيرة العربية. وهو أول من وضع دائرة معارف حسب المراجع الأوروبية دائرة معارف شاملة للعلوم الإنسانية لأنه حتى أرسطو في مدينته أو أفلاطون في أكاديميته وغيرهما حتى هؤلاء لم يضعوا دائرة معارف بمعنى الكلمة لجميع معارف الإنسان بجميع العلوم والفنون البشرية في ذلك الوقت حتى جاء يوبا الثاني ملك الجزائر فوضع دائرة معارف كاملة شاملة. وكذلك في مداوروش في شرق البلاد كان هناك أيضا ابوليوس المعروف الذي كان مرجعا في قرطاجنة في القانون والآداب والفلسفة والطب. فالدولة الجزائرية في العهد العثماني التي دامت ثلاثة قرون ومعنى هذا أيضا إلغاء حوالي قرنين من عمر الدولة الزيانية الجزائرية التي كانت عاصمتها تلمسان كما تعلمون. فالعصر الحديث يبتدئ سنة 1553 وهي السنة التي فتح فيها المسلمون اسطنبول القسطنطينية على يد محمد الفاتح ذلك الصنديد الكبير نحن نقول فتح القسنطينية والنصرانية والصهيونية تقول سقوط القسطنطينية من تلك السنة يبتدئ العصر الحديث وتنتهي القرون الوسطى بالنسبة إلى أوروبا الدعاية الاستعمارية الفرنسية. وقاد الأمير عبد القادر المقاومة الشعبية ففي سنة 1832 بدأ مقاومته في محاربة الاستعمار. أما الدولة الجزائرية العثمانية التي وضع لها الغزو الفرنسي حدا يوم تم تحويله 1830م. فكانت منذ 1516 وقبلها كانت الدولة الزيانية منذ الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي أي أنه كانت لدينا دولة في العصر الحديث منذ الدولة الزيانية نفسها. تعددت العبقرية عند العرب وتجلت عند علماء ولفلاسفة أفذاذ والذين بهروا العالم بما توصلوا إليه من بحوث واكتشافات علمية مذهلة. في الوقت الذي كانت فيه أوروبا في الجهل والتخلف والخرافة وكانت أبعد ما تكون عن روح العلم وحينها أرادت أوروبا أن تنفض عن نفسها غبار الجهل والخرافة بعد أن تنبهت إلى ما وصل إليه العالم الإسلامي من حضارة وتقدم في كافة مجالات العلم والفكر لم تجد بدا من التلمذة على يد العالم الإسلامي والفكري العلمي والجلوس أمام تراث المسلمين مجلس المتعلم من الأساتذة. فراحت أوروبا تعب من معين الحضارة الإسلامية عبا وتنهل من حياتها نهلا فأحيت نهضتها على أساس الحضارة الإسلامية وانكب الأوروبيون على الكتب العربية كان يقول غوستاف لوين وإذا أراد المرء تصور تأثير الشرق في الغرب وجب عليه أن يتمثل حال الحضارة التي كانت عليها شعوبها المتفائلة فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب وأما الغرب فكان غارقا في بحر من الهمجية. وخلال تلك الفترة الطويلة من الاحتكاك بين الفريقين انتقلت كثير من معالم الحضارة الإسلامية إلى أولئك الأوروبيين المتخلفين. * تزوير للتاريخ ودخلت ألف كلمة وكلمة من اللغة العربية إلى اللغات اللاتينية وقد اثبت المنصفون من الأوروبيين على قلتهم ما للعرب من فضل على الحضارة الأوروبية وبخاصة في اكتشاف المنهج التجريبي فها هو غوستاف لوين يقرر ذلك بقوله أنه أول من أقام التجربة والترصد اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم وقد أبدى هذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب. وقال أن العرب ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها الأوروبيين وليست لأمر لقد أنكروا فضل العرب عليهم بل أنهم قاموا بسرقة التراث الإسلامي حيث نهبوا المكتبات العربية المليئة بالمخطوطات الرائعة في كافة فروع المعرفة. مئات الآلاف من المخطوطات في جامعاتهم من يطالع فلسفات بعض فلاسفتهم نجدهم يتأثرون تأثيرا قويا للفكر الإسلامي كما نجد ابن سينا وابن رشد في تأثير على فلاسفة أوروبا. فعمر الخيام واضع اللبنات الأولى لعلم الهندسة البغدادي ومكتشف القانون للحركة ابن نفيس سبق وليم هارفي في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى. الخوارزمي سبق علماء أوروبا جميعا في تأسيس علم الجبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وابن الهيثم مؤسس علم البصريات الحديث عندما ما جاء الأوروبيون في الحملات الصليبية وهم يظنون أنهم سيجدون قوما من الهمجيين فإذا بهم يجدون هرما في قمة المدنية والحضارة والرق والاخلاق والتسامح الديني واكتشفت أوروبا مدى جهلها وتخلفها أمامهم فبدأ تبحث وتستلهم الفكر والعلم. عاشت دولة الإسلام في الأندلس ما يربوا على ثمانية قرون منذ أن تم الفتح لها على يد القائد العظيم طارق ابن زياد 711م حتى سقوط غرناطة1492 م. لقد كانت الحضارة العربية في الأندلس فاقت كل تصور فيما وصلت إليه من علم وفكر. وكانت بعض المدن فيها مراكز علمية كبيرة وكانت تعج بالعلماء والفلاسفة والفقهاء وغيرهم لقد اثروا في أخلاق الناس فهم الذين علموا الناس والشعوب النصرانية وحاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان لقد أصبحت الأندلس مركزا اتفاقيا يتبع ثورة على أوروبا بكاملها بفضل العرب في جميع المجالات. وكانت قبلة للعلم تجذب طلابه على مختلف أجناسهم وديانتهم وكان بها أعداد كثيرة من طلاب أوروبا ومن هنا كانت جامعاتها نعمة وكانت على كتب العرب إقبالا شديدا لا يعرفون علما ولا أدبا ولا لغة غير علوم العرب وآدابهم ولغتهم. هل الأمة تضرب صفحا عن تاريخها وتمحو سجلها؟ فليس التاريخ كما يظنه كثيرون مجرد تدوين لأحداث تم أو وقائع مضت فالتدوين ما هو إلا خطوة أولى مبدئية تتمثل في نقل المحفوظ إلى المكتوب وتختلف عن ذلك عملية التأليف التاريخي فهي مرحلة أرقى من مجرد التدوين وفيها تتم عملية إعادة قراءة وإعادة فهم التاريخ المدون. لقد وصل الأمر بعلم التاريخ أنك تجد رجل الشارع يظن في قرارة نفسه أنه عارف كل شيء عن تاريخنا.