كان تأسيس بيت الحكمة في بغداد علي أيدي العباسيين حدثا بارزا وبالغ الأهمية في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية. في بادئ الأمر، كان بيت الحكمة خزانة كتب عثروا عليها العرب أثناء الفتح الإسلامي ودخول المسلمين إلي بلاد الروم والفرس ومصر حيث وجدوا مكتبة الإسكندرية وبروز الثقافة الإغريقية وعدد كبير من المخطوطات والكتب في شتي المعرفة والعلم. وكانت من العوامل التي استعملت في بيت الحكمة صناعة الورق و الترجمة وتحتل الترجمة في الفكر والثقافة العربية مكانا مرموقا.كان نشاطا مكثفا في القرن الثامن و_التاسع الميلادي. دعا النبي (صلعم) إلي مخاطبة الناس بألسنتهم، ولا زالت هذه الوصايا نموذجا يحتذى به. - بعد مرحلة من التدبدب و التردد في حركة الترجمة، زمن الخليفة الثاني عمر (رضي الله عنه) والتي كانت خاصة بالإدارة. جرت بعض المبادرات الفرضية ومنها أول كتاب في الطب وهو فارسي التأليف انتقل إلي اللغة العربية. - يمكن القول بان الترجمة مرت بمرحلتين، في بادىء الأمر-مرحلة الترجمة غير المباشرة حيث استعملت الفارسية او السريانية كوسيط ثم هناك مرحلة للترجمة وهي مباشرة ومن دون لغة وسيطة . كان الاهتمام منصبا على الرياضيات، الطب، الفلك الفلسفة. كان اريسطو المعلم الأول، وشارحه الفارابي حيث يعتبر المعلم الثاني. وقام العالم محمد ابن إبراهيم الفزاري بترجمة كتاب - السند هند - من اللغة الهندية, ثم نجد كتب للبطولميس، وأريسطو وجمعت تلك الكتب في خزانة تعد الانطلاقة للحملة ثقافية فريدة من نوعها و نواة للحضارة العربية الإسلامية. و جذور بيت الحكمة يعود إلي زمن الخليفة يعقوب المنصور حيث شجع و واصل حملة الترجمة ويترك لابنه هارون الرشيد، الفكرة و منهجية العمل الثقافي و البعد الحضاري. زمان هارون الرشيد يتميز باهتمام بالغ للعلم والمعرفة وأغناء الفكر العربي بالمزيد من المعارف المختلفة. كان جمع الكتب أثناء الحملات العسكرية من التعليمات الأمير. وأرسل جماعات من العلماء لفحص المكتبات والمخطوطات وجلب منها النادر والنفيس والمفيد ونقلها إلي بغداد. وهكذا أصبح لديه عددا كبيرا من الكتب فعندئذ شيد الرشيد خزانة لحفض هذه الكتب من الضياع وكثير من المؤرخين يعتقدون وجود بيت الحكمة كمؤسسة علمية وثقافية للترجمة، والمطالعة والبحث ثم الحوار والمذاكرة في عهد الخليفة هارون الرشيد (809م) و هو الأول من وضع النواة لبيت الحكمة في بغداد . كان قد عهد الرشيد بترجمة كل الكتب من اليونانية إلي العربية, ولكن، لم يبلغ بيت الحكمة ذروة نشاطه العلمي إلا في أيام الخليفة العباسي المأمون 832 م - فكان يتميز بعقل مستنير وفكر حر وثقافة واسعة. أحدث تغييرا كبيرا في فكرة الثقافة للدولة العباسية وذلك راجع للعلاقة بينه وبين علماء زمنه من عرب، فرس وعجم و ثقافته الشخصية . أدرك الخليفة بأن بناء الحضارة العربية الإسلامية و ازدهارها مرتهن بالتفاعل والحوار بينها وبين الحضارات الأخرى والإفادة من كنوزها,لان ما توصل اليه علماء تلك الحضارات من نتائج علمية هو ملك للبشرية جمعاء انطلاقا من هذه الفكرة النبيلة,فتح المأمون أبواب الترجمة من الحضارات الأخرى إلي العربية و إن كانت قد بدأت في العصر الأموي. لكن في عصر المأمون أصبحت الترجمة سياسية وإستراتيجية عامة للدولة العباسية و أصبحت تشمل جميع العلوم والمعارف السابقين ولذلك حول الخليفة الخزانة إلي مؤسسة ثقافية عرفت ببيت الحكمة و هو مشروع كبير يهدف إلي خزن الكتب والترجمة والتأليف والنسخ وأيضا احتضان مسالة الحوار بين الحضارات وتبادل العلوم والآداب والفنون فيما بينها. لقد حصل الخليفة على مخطوطات تراث الحضارات الاخرى من داخل العلم العربي والإسلامي وخارجه,وذلك من أماكن عديدة مكتبة الإسكندرية جزيرة قبرص,حيث أرسل المأمون إلى حاكمها البزنطيني يطلب منه كتب الفلاسفة اليونان.فلبى الحاكم طلب الخليفة. وحصل أيضا علي كتب من القسطنطينية وذلك بعد المراسلات فتمت بينه بين الإمبراطور البيزنطيين. ومن العلماء الذين سافروا إلى القسطنطينية نذكر يحيى بن مأسويه، والحجاج بن مطر، يحيى بن البطريق,وغيرهم,وكان هؤلاء جميعا من المسيحيين النساطرة، وكلهم يتقنون اللغة اليونانية. ووصلت كذلك مخطوطات أخرى من كنائس بلاد الشام و الرافدين وذلك عن طريق العلماء العرب المسيحيين. لما وصلت كل هذه الكتب إلي بغداد بدا التصنيف و الترتيب وفقا للأصول المرعية وفتح المأمون جميع أبواب العمل و شجع المترجمين والعلماء والأطباء و الأدباء. أول معيار لهذه المهمة - الكفاءة العلمية - والنداء موجه إلى كافة العلماء الأوفر حضا، ماديا ومعنويا الدين اشتهروا بالدقة والنزاهة العلمية. -لقد أنفقت الدولة العباسية أموالا طائلة علي بيت الحكمة ونشاطاته العلمية. دفعت مبالغ ضخمة للحصول علي مخطوطات ونقلها، ومبالغ أخرى للمترجمين والعلماء والإداريين وأعمال النسخ و الرصد و الصيانة..... لم يكتف المترجمون والباحثين في بيت الحكمة بالترجمة والنقل وإنما قاموا بتفسير الكثير من الكتب، والنقد والتصحيح, بل إن بعض الكتب الترجمة الأولى أعيد النظر فيها وخاصة تلك التي لا تتسم بالدقة والوضوح والفصاحة. حوار للحضارات لم يقتصر دور"بيت الحكة" علي الترجمة، وما يرتبط بها من نشاطات علمية,وإنما كان أيضا مركزا للتأليف والمناظرة والبحث العلمي,لا سيما انه كان يضم مكتبة ضخمة ساعدت العلماء على القيام ببحوثهم ومشاريعهم العلمية عدد الكتب بالتقريب مليون كتاب وتأكد المصادر التاريخية على ان الخوارزمي حقق كل أبحاثه في بيت الحكمة وهو أمين البيت أي مشرف وعالم بجانب عدد كبير من علماء الفلك الذين حققوا اكتشافات علمية إعتمادا على المرصد الفلكي الذي كان ملحقا ببيت الحكمة. والواقع، هو أن أعظم ما تم انجازه في بيت الحكمة هو الحوار بين الحضارات التي التقت علي ساحته، وبخاصة الحضارات العربية الإسلامية و اليونانية الفارسية والسريانية الهندية. كان لقاء للتفاعل فيما بينها وتبادل العلوم والآداب و المفاهيم والمناهج. كان بيت الحكمة ملتقي لعدة طرق واتجاهات أصبح مجال إبداع وجهود تراكمت مع الزمن و شكلت تراثا للإنسانية جمعاء. والحوار لا يكون ممكنا إلا بوجود الحرية و سياسة التسامح التي أنتجتها الدولة العباسية آنذاك ولم يمنع احد من أهل العلم علي اختلاف مللهم ودينهم,من المناظرات في عدة مسائل و ان كانت صعبة و لم تفرض ثقافة نفسها عن الاخري، وهذا ما جعل الحوار، بين الحضارات يتسم بالهدوء و العقلانية والموضوعية واحترام الآخر,وتبادل المعرفة والآداب و التي شكلت في النهاية رصيدا ثريا للحضارة الإنسانية. ولا شك أن الحوار بين الحضارات كان عاملا مهما في انتقال العرب والمسلمين إلى مرحلة الإبداع النبوغ - وبعد معرفة العلوم الإغريقية اظهر العرب قدرتهم على استيعاب التراث اليوناني وعن قدرتهم على نقده وتجاوزه من ناحية وعلى استخدامه في تلبية حاجات المجتمع الإسلامي الفكرية منها والمادية من ناحية أخري. وحركة الترجمة اهتم بها أيضا الخواص من الأثرياء وأصحاب المحلات الكبيرة,والأغنياء المثقفين وعند بعض العلماء في بيوتهم أسسوا مكتبات أصبحت مثالا للأجيال نذكر منها مكتبة ابن الجزار القيرواني عائلة ابن المنجم عوامل تطور الترجمة في العصر العباسي : لقد كانت هناك عوامل عديدة شجعت علي انتشار الترجمة... 1- تشجيع الخلفاء والأمراء وإعطاء المثل. 2- اهتمام العائلات الكبرى بترجمة المعارف الأجنبية 3- الحرية الفكرية والتسامح بين الجميع. 4- رغبة في العلم و رفع المستوى الثقافي للمسلمين بالعلم نزدهر و نتطور . لقد حافظ معظم الخلفاء العباسيين علي لغة القران وحثوا أهل العلم على دراستها والتعمق في معانيها و معرفة مكوناتها .فغدت بغداد منار للإشعاع الفكري ولا ننسى الدور الذي لعبه اكتشاف وصنع الورق في نشر الثقافة العربية في المجتمع لقد اذكى الإسلام جذوة المعرفة في النفوس ودفعها إلي التعلم دفعا قويا، وأسس الكتاتيب لتعليم مبادئ القراءة الكتابة، واهتموا في تعليم البنات وتحفيظهن القران وخاصة سورة النور. وظهرت لأول مرة في بغداد الموسوعات الطبية منها "فردوس الحكمة"للطبري و هي أول موسوعة عندنا في الطب يهمنا أن نؤكد علي أن الغرب الاروبي هو الذي قطف أخيرا، ثمار هذا الحوار بين الحضارات.وهو الذي أفاد من نتائجه العلمية و الأدبية في انطلاق نهضته الحديثة .فقد تسلم الغرب هذا التراث اليوناني القديم ,و قد اكتسب برعاية العرب و المسلمين له حضورا جديدا وحياة جديدة. وانتقال المعرفة والعلم من العرب إلي الغرب موضوع جلستنا المقبلة . وأخيرا دمتم في رعاية الله وحفظه _ "وقل ربي زدني علما- "