بقلم: عبد الباقي صلاي* تشكل اللغة في معاشنا أكثر من ضرورة فمنها يكون المنطلق الحضاري ومنها يكون المنتهى الذي يفضي إلى توظيف كامل للقوى والقدرات الفكرية لخدمة المجتمع والأمة.فبدون اللغة لا يستقيم الحوار والتوافق الذهني.فاللغة هي ترجمان العقل عبر اللسان من أحسن التوظيف فقد أحسن رسم معالم القوة الحضارية ومن لم يحسن التوظيف الأمثل والأشمل لها تدحرج نحو حضيض لا نهضة بعدها. وكل أمة بلغتها تفتخر وتعتز وتكابر لكن كل أمة ورؤيتها في تفسير ما تعنيه اللغة في حياتها ومعاشها.فهناك من يرى اللغة من ترف القول لا تعني شيئا سوى أنها وسيلة تواصل بين أفراد الأمة حتى لا تتقاطع مع الطبيعة الحيوانية.وهناك من يعتبر اللغة كمنهج يعتز به ويرسم من خلاله دروب المجد نحو التقدم والازدهار. ولقد احتلت معضلة اللغة مكانة كبيرة ضمن دائرة الجدل ومحاولة التفسير دون وقوف على حقيقة مطلقة. فهناك من ينظر إلى اللغة على أساس أنها منطلق التقدم والحضارة وهناك من يعتبر مجرد الخوض في ماهية اللغة تضييع للجهد وللوقت. وما يزال الجدل قائما في الوطن العربي الذي فقد بوصلته الحضارية من قرون فلم يعد هذا الوطن العربي ينتج مفهوما قيّما تستطيع الأجيال الاعتماد عليه كدليل على رقي اللغة العربية وأنها- أي اللغة العربية- تستطيع أن تشكل البديل الحضاري الذي يعرفه العالم قبالة اللغة الإنجليزية. فكل ما هنالك أن الجدل قائم حول رمزية اللغة العربية وقدسيتها لدى المسلم وكون اللغة العربية تمثل لغة أهل الجنة يوم القيامة.على الرغم من أن هناك من المتحدثين باللغة العربية يهود ونصارى ولا ينتمون عقديا للإسلام ولا يعتبرون من حيث المبدأ من أنصار مفهوم أن اللغة العربية تمثل لغة أهل الجنة. الجدل قائم حول قدرة اللغة في مجابهة التحدي العالمي واكتساب المعرفة ومن ثمة اكتساب التقدير والاحترام.لكن لو توخّينا الحقيقة نجد أن اللغة التي يتوجب احترامها هي تلك اللغة التي تتقوى بقوة أهلها التي ترتكز على ركيزتي العلم والاقتصاد.فلا يمكن للغة مهما امتلكت من المفردات القوية أن تكون على احترام مطلق إذا ما كانت في بيئة أمة تتسقط العيش على أبواب الغير واقتصادها بالكاد يقيم أود ساكني هذه الأمة. لأن الاحترام من جنس الاحترام والقوة تتأتى من ذات القوة لتخلق قوة أخرى نرمز لها بالحضارة. إن أساس اللغة الفكر وأساس الفكر التجاوب مع متطلبات العصر وقد تنطلق أمة من خيط ضوء تراه في الأفق وتعمل من خلاله لهدف سامي وقوي.ويندرج أساس الفكر تحت بند تقوية الترابط الحضاري لأي أمة على وجه الأرض.فدون فكر لا يكون هناك تمايز بين ما يصلح لواقع وما لا يصلح لهم.ولأن الفكر هو الشيء الذي نستطيع أن نميز به بين الخير والشر فإن اللغة هي التي تتحكم في كل التفسيرات من خلال التعبير والمحاكاة. عندما أقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : من تعلم لغة قوم آمن شرهم أخشى من أن هذا الحديث غير صحيح لأن القاعدة في فهم الحديث النبوي الشريف هي النظر في مدلول الحديث ذاته وقوة مغزاه وعلى اعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتحدث إلا بخير وأنه أرسل رحمة للعالمين فإن اعتماد هذا الحديث من باب تأويل لغوي ينم عن اختلاف ثقافة عن ثقافة أخرى وكأن الشر قادم من أمم أخرى جزيرة العرب تجهل لغتها.ولهذا يقول الشيخ عبد الله عبد الرحمن في سياق آخر قد يكون تفسيرا لما نطرحه : اللغات ليست قوالب فارغة بل هي مرتبطة تماما بالثقافة التي تمثلها ونقل العلوم من لغة إلى أخرى يمر عبر التعرف على ثقافة تلك الشعوب بجوانبها المختلفة الاجتماعية والأخلاقية والفكرية وهذه أخطرها بشهادة واحد من أهل أهَمِّ تلك الحضارات وأقواها أثرا وهي الحضارة اليونانية التي قال الراهب الرومي في شأنها لملكهم: سَيِّرْها فإنك تثاب عَلَيْهِ فإنها مَا دخلت فِي ملة إِلاَّ وزَلْزَلَت قواعدها . (إخبار العلماء بأخيار الحكماء/ للقفطي) وعلى ذلك فلا بد من الأخذ على حذر من تلك الروافد وعدم الثقة المطلقة فيها والاقتصار على العلوم النافعة وتجنب ما هو شر محض أو ما يغلب شره خيره .وعندما نخوض في مجال الترجمة اللغوية بين اللغات المختلفة فإننا ندخل في سياق آخر يعرف بالتقابل اللغوي الذي ينطلق من فهم آخر لمعالم اللغة التي تتلاقى وتأخذ عن بعضها معاني الترجمة دون الحرفية المطلقة. إن اللغة عنوان حضارة أي أمة وقد لا نتنكر لما يعرفه الكثيرون ويدركونه أن قوة أي أمة تنعكس على اللغة وتجعلها مهابة الجانب.فأمريكا اليوم قوية وقوتها جعلت لغتها أقوى بما تفرضه مخابر العلم.ولا أحد يستطيع التنكر أن اللغة الانجليزية هي لغة العلم ولا أحد يستطيع أن يدير ظهره لتعلم اللغة الإنجليزية حتى ولو كان يعرف عشرات اللغات.ومنه فإن الإنسان هو من يصنع قوة اللغة وقوة معانيها حتى وإن كانت لغة ميتة. الإسرائيليون نهضوا بلغتهم العبرية من الرماد وباتوا ينشرونها عبر العالم لأنها تمثل قوة إسرائيل في المنطقة واليابانيون والصينيون على ذات المنوال أصبحت لغتهما من اللغات التي تثير اهتمام الأمم الأخرى.وحتى تركيا في العقد الأخير أضحت لغتها مثار اهتمام الكثير من الشعوب وتمثل تعلمها رمزية كبرى لما تحمله من فائدة اقتصادية في المستقبل.وحتى اللغة العربية وإن كان أهلها يعيشون الوهن والضعف فإن اللغة العربية تمثل خزانا للعالم من حيث الكم وليس الكيف.وتعلم اللغة العربية لدى هذه الأمم هو القدرة على التعامل مع أكثر من 700 مليون عربي وإن كان العدد لا يعبر عن حقيقة ما نطرحه.لأن اللغة التي نتحدث عنها تختلف عن العامية التي يحسنها ملايين من العرب.وعليه فاللغة العربية تبقى في الوقت الحاضر هاجس الأمم الأخرى بدليل تأسيس قنوات باللغة العربية تنقل ثقافة الآخر للعرب باللغة العربية !.