بقلم: عبد الباقي صلاي * لا أحد يستطيع أن يستغني عن التكنولوجيا الحديثة وما جلبته من محاسن جمة مهما ادعى ذلك لأنها تشكل الجزء الأكبر من حياتنا في هذا العصر الذي يموج بالمتغيرات كما أن لا أحد في المقابل يستطيع أن يسيطر على متدفقات هذه التكنولوجيا وتفرعاتها عبر الكثير من المحطات الحياتية لأي مجتمع على وجه الأرض.لأن التكنولوجيا الحديثة باتت من حيث ما تقدمه من فوائد أو حتى مضار لصيقة بالفرد المعاصر سلبا أم إيجابا. ولا غرابة إذا ما اعتبرنا أن الإنسان الذي يعيش العصر الحالي بكل تناقضاته أضحى مع هذا الشلال المنهمر للتكنولوجيا المختلفة يبحث دائما عن الأجود وعن الأنفع.لكن في المقابل يحاول أن يهرب قدر ما استطاع عن سجن هذه التكنولوجيا التي سجنت الناس في سجن واسع وجعلتهم يتقوقعون على أنفسهم ويحاصرون ضمن نطاق ضيق لا يخرجون منه أبدا.بل إن التكنولوجيا الحديثة أسهمت بقسط وافر في تفتيت المنظومة المجتمعية من حيث كونها شغلت الناس عن بعضها البعض لا سيما الأسرة الواحدة التي كان الترابط بينها يشكل الحلقة الأهم في حياة أي أسرة.وكما جعلت الحياة العصرية وتعقداتها الناس تغترب عن بعضها وتعيش الغربة وهي في بيت واحد كذلك التكنولوجيا الحديثة التي لم تمهد فقط للغربة الأسرية وإنما كرستها وقننتها وجعلتها ضمن نطاق الحياة اليومية لأي فرد من أفراد المجتمع.وقد أعجبتني قصة لمعلمة أرادت من خلال هذه السطور أن أنقلها للقارئ ليقف عندها بالعمق وبالرؤية الصائبة وهي قصة بالفعل أصبحت في عصرنا تشكل اليوميات والسلوك المستمر مع هذه التكنولوجيا : طلبت المعلمة من تلاميذها في المدرسة الابتدائية أن يكتبوا موضوعاً يطلبون فيه من الله أن يعطيهم ما يتمنون. وبعد عودتها إلى المنزل جلست تقرأ ما كتب التلاميذ فأثار أحد المواضيع عاطفتها فأجهشت في البكاء.وصادف ذلك دخول زوجها البيت فسألها : ما الذي يبكيكِ ؟فقالت : موضوع التعبير الذي كتبه أحد التلاميذ.فسألها : وماذا كتب؟ فقالت له : خذ إقرأ موضوعه بنفسك ! فأخذ يقرأ : إلهي أسألك هذا المساء طلباً خاصَّاً جداً وهو أن تجعلني تلفازاً !!! فأنا أريد أن أحل محله ! أريد أن أحتل مكاناً خاصاً في البيت ! فتتحلَّق أسرتي حولي وأصبح مركز اهتمامهم فيسمعونني دون مقاطعة أو توجيه أسئلة أريد أن أحظى بالعناية التي يحظى بها حتى وهو لا يعمل ! أريد أن أكون بصحبة أبي عندما يصل إلى البيت من العمل حتى وهو مرهق وأريد من أمي أن تجلس بصحبتي حتى وهي منزعجة أو حزينة وأريد من إخوتي وأخواتي أن يتخاصموا ليختار كل منهم صحبتي. أريد أن أشعر بأن أسرتي تترك كل شيء جانباً لتقضي وقتها معي ! وأخيراً وليس آخراً أريد منك يا إلهي أن تقدّرني على إسعادهم والترفيه عنهم جميعاً. يا ربِّ إني لا أطلب منك الكثير أريد فقط أن أعيش مثل أي تلفاز !!. انتهى الزوج من قراءة موضوع التلميذ وقال : يا إلهي إنه فعلاً طفل مسكين ما أسوأ أبويه !! فبكت المعلمة مرةً أُخْرَىْ وقالت : إنَّه الموضوع الذي كتبه ولدنا ويقول ناقل القصة أنه فور التفاعل مع هذه القصة الحقيقية تذكر حينها قصة ذاك البروفسور الإنجليزي الذي لم يدخل التلفاز بيته ولما سُئِلَ عن السبب قال : لأن التلفاز يفرض علينا رأيه و لا يسمح لنا بمناقشته ويُنَغِّصُ عَلَيْنَا حَيَاتَنَا !! مؤكدا على أن : التقنيات الحديثة بدأت تسرقنا من أهلنا أطفالنا بل تسرق مشاعرنا وعواطفنا أنترنت. بلاك بيري واتس اب وماسنجر !! . نعم إنها التكنولوجيا الحديثة التي يجب أن نتوخى الحذر والحيطة منها ونعرف مكمن الداء منها فهي تشكل القنبلة الذرية التي تفتك بالمجتمع وتعطله عن واجباته الترابطية الأسرية وتحطمه في النهاية.فلا جدوى من استعمال هذه التكنولوجيا بإفراط كبير دون الوقوف عند مضارها التي هي كبيرة وكبيرة جدا.ويمكنني أن أنقل ما تفضل به الدكتور جاسم المطوع حول الإدمان على النت وهو الجزء الأكبر الذي أصبح يشغل الناس وأصبح يلهي الناس وأصبح حتى يدمر الناس : من علامات إدمان النت 1- أن يستخدم يوميا 2- الانعزال عن الناس 3- فوضي في الوجبات وتقل فترات الأكل 4- الدخول للنت في كل لحظة. 5- تشعر بالتوتر والضغط النفسي إذا لم تستخدم النت 6- عندما يكون النت هو استمتاعك الوحيد وينطبق هذا الكلام علي جميع الأجهزة والألعاب الإلكترونية . لسنا نقلل من فوائد التكنولوجيا الحديثة ولسنا نسفّه دورها الفاعل في حياتنا كونها تسهل علينا أشياء كثيرة لكن في المقابل أصبحت مع مرور الوقت آفة ومخدر يجب الوقوف عند مضارها ويجب الحذر منها والبحث عن مخرج منها.ورسالتي أيضا للسلطات الجزائرية من هذا المنبر أن تبحث كيف توقف شلال المواقع الإباحية كما هو معمول به في الدول الخليجية وأن تعطي هذا الأمر أهمية قصوى من أجل الحفاظ على عقل شبابنا نظيفا لأن الطامة كبرت وتنذر بزلزال قد لا يبقي ولا يذر. حتى وإن دخلنا في عصر الرقمنة فهذا كفيل بأن يجعلنا نحسن تدبير التكنولوجيا والإنترنت على وجه أدق في حياتنا التي أصبحت أسيرة لا تحتمل هذا الشلال المنهمر الذي أخذنا عن الحياة البسيطة المملوءة بالسكينة. الحضارة منطلقها الحقيقي من التكنولوجيا وتفرعاتها لكن أخشى ألاّ تستمر معها لأنها مع مرور الوقت تبيّن أن التكنولوجيا تقتلنا بصمت ونحن لا ندري.تقتل أحلامنا في التواصل مع من نعيش معهم وتقتل أيامنا بأننا نضيعها في إخطبوط الشبكات المتعددة.فعليا عصر التكنولوجيا حطم المجتمعات ودمرها من حيث لا تدري.وإذا كانت المخدرات تذهب بالعقول فإن التكنولوجيا مدمرة للحياة فقط لو أحسنا استعمالها بالكفيفة التي تجعلنا نحن من يقود بوصلتها.