في درجة حرارة منخفضة جدا وسيل من الأمطار المنهمرة وجدناهن يحملن محافظهن مسرعات الخطى لبلوغ المسجد، فبالرغم من تقدم السن والمرض.. لكن الإرادة ترصدها في أعينهن والثبات والعزم على المضي في طريق العلم وحفظ القرآن الكريم، وكلهن أمل في تغيير حياتهن إلى الأفضل متناسيات هموم تراكمت على كاهلهن وخطت معالمها على وجوهن بفعل تعاقب الأعوام، ليصبح هدفهن الوحيد تأدية الصلاة حسب أصول الدين. "الشروق" تنقلت إلى مدرسة محو الأمية بمسجد العربي التبسي وشاركت الأمهات دراستهن. خالتي عيشة، رشيدة، لويزة، نعيمة وغيرهن كثيرات، هن سيدات بعضهن تجاوز الستين عاما لكنهن يتمتعن بإرادة فولاذية يندر وجودها، حملن حقائبهن وكراريسهن متحديات المناخ وظروفهن الشخصية للتعلم. تبدأ الدراسة في قسم محو الأمية مباشرة بعد صلاة الظهر حيث تحضر الأمهات لينتظرن بكل شغف انطلاق الدرس وبمجرد ما علمن أن جريدة "الشروق" حاضرة معهن في مسجد العربي التبسي بحسين داي، لمشاركتهن الدرس فرحن كثيرا ودعين الله كي يساعدهن في الإجابة الصحيحة. أخذنا مقعدنا في آخر الصف وبقينا نراقب ما يحدث في القسم وكلنا اندهاش من الشغف الكبير وحب العلم المتوافرين بداخل كل واحدة منهن، حتى قدمت إحدى الأمهات باحثة عن مقعدها وطاولتها اللذين يبدو أنه قد أخذتهما أخرى، ولما كثر الحديث والهمس، استدارت أخرى طالبةً منهن الصلاة على النبي والسكوت حتى يباشرن درسهن في الوقت الذي راحت إحداهن تبحث عن ورقة وقلم بعدما نسيت أدواتها في المنزل.
أجواء أقسام محو الأمية لا تختلف عن المدارس عاد الهدوء نسبيا بعدما شرعت المعلمة "أم حسام الدين" في ترديد الدعاء الافتتاحي ومراجعة أدعية سقوط المطر والرعد. ولا تختلف الأجواء داخل قسم محو الأمية كثيرا عن السائدة في المدرسة، حيث كانت الأمهات يتفاعلن مع الأسئلة ويتنافسن في الإجابة عنها. ولأن درس الأسبوع الماضي المتزامن مع 8 جانفي وهو اليوم العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار راحت كل واحدة تذكر أهمية العلم الذي ترى "أم الجيلالي" أن بفضله يتحرر الإنسان من غبن الأمية. وبعد كتابة التاريخ، طلبت المعلمة منهن نقله على الكراس المقسم على ثلاثة أجزاء، الأول للدروس والتمارين، والثاني للأدعية، أما الثالث والأخير فخاص بالحساب، ليليه عنوان الدرس "الحروف المكسورة " مع التشكيل. وكانت جميع الأمهات مركزات في الدرس، مستمعات بكل أهمية ويرفعن أصابعهن للإجابة أو الصعود إلى السبورة للكتابة، في الوقت الذي كانت فيه المعلمة تشرح بأسلوب مبسط مستعملة "الدراجة" حتى تصل إليهن المعلومة بسهولة وتكسر الروتين بالمزاح كي لا يشردن أو يشوشن.
طرائف وروح المنافسة تشعل القسم ولا يخلو الجو من بعض المواقف الطريفة التي تحدث داخل القسم، حيث كانت إحدى الأمهات تنتهز فرصة استدارة المعلمة لتحكي لصديقتها عن مشاكلها الصحية ومعاناتها مع بعض الظروف التي منعتها من القدوم للدراسة، فيما كانت أخرى تحكي عن مشاكلها مع كنتها، بينما عبرت إحداهن لصديقتها عن إعجابها بلوحتها والقلم الذي تكتب به فردت الأخرى بأنها اقتنتهما من محل قريب إلى منزلها، فطلبت منها جلب لوحة لها هي أيضا وقلما مثل الذي تملكه، فردت بأنه من النوعية الجيدة وهو غالي الثمن. وتوجد روح التنافس والغيرة أيضا عندهن فبعدما سلمتنا المعلمة كراس الأم "ح. ص"، واطلعنا عليه منظما ومرتبا اشتعلت الغيرة داخل قلوبهن، فراحت كل واحدة تطلعنا على كراسها وخطها وطريقة تزيين كراسها والعناية به. وعندما طلبت منهن المعلمة وضع بعض الكلمات في جمل ردت إحدى الأمهات: "نشطت المعلمة تاع العجايز"، أما أخريات، فكانت إجابتهن حول من يحصل على سكن اجتماعي أو من يفوز في قرعة الحج.
الشغف بتعلم القرآن الكريم يشجعهن على تحدي برودة الطقس ولأن كل وواحدة منهن تخفي قصة، انتظرنا انتهاء الدرس مع أذان صلاة العصر للتقرب منهن لمعرفة سبب ارتيادهن مدرسة محو الأمية.. تحكي لنا السيدة "عزيزي" 68 سنة، أنها تدرس في محو الأمية منذ 20 سنة فبعدما أدخلت أصغر أبنائها التسعة المدرسة بدأت في التعلم وهو الآن يبلغ من العمر 26 ربيعا، لكنها لم تواظب على التعليم باستمرار ففي كل مرة تنقطع بسبب زواج أبنائها، أما حاليا وتقريبا منذ نحو 3 سنوات أصبحت حريصة أكثر، فهي ترغب في تعلم القرآن، وعندما تسمعه ولا تجيد قراءته تبكي، أما حاليا فهي تجيد القراءة من المصحف وتطمح إلى حفظه كاملا. تقول "نعيمة" 45 سنة، درست في المدرسة حتى السنة الخامسة بعدها أصيبت بمرض ألزمها الفراش فانقطعت عن الدراسة ونسيت كل ما تعلمته وهي الآن تدرس في محو الأمية منذ 8 سنوات، توقفت لمدة 3 سنوات بعد ولادة ابنها وعادت إلى الدراسة لكن مشكلتها تكمن في النسيان وهذا لم يثنها عن تعلم القرآن والقراءة حتى تسهل عليها حياتها، ويصبح بإمكانها استخراج الوثائق ومباشرة أمورها، فعندما يتمكنّ من حفظ سورة قرآنية يغادرن المسجد وهن يذرفن دموع الفرح.
أمهات يرغبن في تمديد الساعات وزيادة دروس إضافية أما "حسينة"، 66 سنة، فسبق لها أن درست لمدة 8 سنوات وتوقفت 3 سنوات لظروف خاصة لتعود مرة أخرى، وهي أكثر إصرارا على مواصلة دراستها وحفظ القرآن فهي تسعد كثيرا للالتقاء بالأمهات، وقد تمكنت من حفظ سور: مريم، نوح، الكهف، الرحمان. في حين عبرت "معمري حنيفة"، 66 سنة، لم يسبق لها الدراسة، عن مدى سعادتها لتمكنها من القراءة في المصحف، فهن يدرسن ثلاث مرات في الأسبوع ويوم الأربعاء هناك حلقة لحفظ القرآن الكريم، فقد تعودت على الأجواء الروحانية والإيمانية في المسجد وإذا اضطرت إلى الغياب فتشعر بالانزعاج. بينما أكدت لنا "لعواش فطيمة"، 63 سنة، رغبتها في زيادة ساعات الدراسة فقد كانت تصلي في السابق بسورة الفاتحة والإخلاص فقط، أما الآن فحفظت 5 سور قصيرة منها الفلق، الناس، الكافرون وتريد حفظ سور جديدة بل المصحف كاملا. وذكرت لنا خالتي "عيشة"، 83 سنة، أكبر تلميذات الفصل سنا، وتدرس منذ 16 سنة، أنها لن تتوقف عن التعلم حتى تموت وقد حفظت 4 أحزاب كاملة.
أمهات رفضن قراءة القرآن بالفرنسية وصممن على تعلم العربية وتوجد في القسم أمهات متعلمات أيضا لكنهن لا يعرفن العربية، فقط اللغة الفرنسية، مثل خالتي "لويزة" التي تربت وتعلمت خلال الحرب في المدارس على أيدي الفرنسيين، فلا تعرف اللغة العربية، فقط الدارجة والفرنسية، فسجلت في محو الأمية. وكذا خالتي "مليكة"، فقد سجلت في محو الأمية مباشرة بعد إحالتها على التقاعد وهي تزاول دراستها حاليا منذ قرابة 17 سنة، وتعلمت الحروف والسور القرآنية بعدما كانت تعرف الفرنسية فقط، ولكن عند قراءتها المصحف باللغة الفرنسية لم تكن تشعر بالراحة لذا قررت تعلم العربية وهي الآن تقرأ من المصحف مباشرة وتستوعب جميع معانيه وتشعر براحة كبيرة.
المعلمة أم حسام الدين: لابد من توفير كتب محو الأمية كي يسهل علينا معرفة مستوياتهن اعترفت المعلمة "أم حسام الدين"، الحاملة لشهادة الدراسات الجامعية التطبيقية في علم النفس"توجيه مدرسي ومهني"، بحرص إدارة المسجد على توفير مختلف الوسائل للأمهات المتمدرسات في محو الأمية، لكن المشكل يكمن في غياب الكتب التي لابد من تعميمها على هذه الفئة حتى يتمكن المعلمون من التعرف على المستوى الحقيقي للمتمدرسين، مضيفة أن التعامل مع كبار السن صعب مقارنة بالصغار، فالفئة الثانية بالإمكان التحكم فيها من خلال الملاحظات، أما كبار السن فلابد من احتوائهم والوصول إلى قلوبهم قبل تعليمهم، فلو لم يحبوا المعلمة لما قدموا للدراسة وليس من السهل الوصول إلى القلوب، فتعليمهم يتطلب صبرا، ولولا فضل الله وخوضها تجربة اجتياز شهادة البكالوريا سنة واحدة قبل ابنها البكر لوجدت صعوبات في تأدية مهمتها. واستطردت أم حسام الدين قائلة: عند إلقاء الدرس تنشغل بعض الأمهات في سرد قصصها ومشاكلها مع كنائنها فعلى المعلمة إعادتها إلى الدرس بطريقة تراعي فيها سنها وظروفها، سواء كانت صحية أم معيشية، فمن خلال الأقدمية تتعرف المعلمة على ما تخفيه كل واحدة منهن، الأرملة، المطلقة، المريضة.. وتدرك الفروق الفردية التي لابد عليها من مراعاتها، فكل واحدة تخفي حكاية ولها ظروفها الاجتماعية الصعبة، كما يوجد في القسم أمهات لا يجدن اللغة العربية بل الفرنسية فقط لذا قدمن للتعلم فلابد من التحدث بالفرنسية أيضا لكن ما يشتركن فيه هو الإرادة والرغبة في التعلم لقراءة القرآن الكريم.