*الشيخ راغب السرجاني تربص المتربصون بالمؤمنين.. هالهم أن توجد دعوة أخلاقية إيمانية راقية في مجتمعهم المليء بالموبقات والكوارث الانحلالية.. فزعوا من كلمة لا إله إلا الله.. هربوا من الإسلام وحامليه.. وانطلقوا ينهشون في أجساد الصالحين معلنين بكل وقاحة أن جريمة المؤمنين أنهم يقولون ربنا الله!! شعر بعض المخلصين أن هذه قد تكون النهاية وأن المشروع الإسلامي في طريقه للفشل وأن اجتماع أهل الفسق والفجور سيقضي على أحلام الأتقياء.. شعر البعض بهذه المشاعر الحزينة فذهبوا مسرعين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كَحَلّ أخير يطلبون فيه أن يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله بالنصرة فهو مُستَجاب الدعوة قريب من الله.. كان المتكلم عنهم هو خباب بن الأرت رضي الله عنه وكان عذابه على أيدي الكفار رهيبًا فقد كُوِي بالنار حتى امتلأ ظهره بالحفر!! ماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ردُّ فعله هو رسالتنا للراغبين في تطبيق شرع الله والطامحين في أن ينالوا درجة العاملين المجاهدين الصابرين.. يحكي خَبَّاب بن الأَرَتِّ -رضي الله عنه-فيقول: شَكَوْنَا إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْم أَوْ عَصَب وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. *رسائل واضحة إن هذا الموقف الجليل ليعطينا رسائل واضحة تبين لنا طبيعة الطريق وصفته: الرسالة الأولى: سيظل أهل الباطل متربصين بالمؤمنين حتى مع وضوح الرسالة وجمال الأخلاق فليس هناك أعظم من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم وليس هناك أروع من جيل الصحابة بأخلاقهم الدمثة وسلوكياتهم الراقية ومع ذلك لم يمنع هذا التمايز الأخلاقي الواضح جنودَ الفساد من التعدي الصارخ وغير المبرَّر على المؤمنين وإن كانوا يعلنون حججًا تافهة يتذرعون بها أمام المراقبين أنهم ما قاموا إلا نصرة للحق وحفاظًا على الوطن وهذا الدين -كما يدَّعون– يُفرِّق المكَّيَّين ويصنفهم إلى مُلتزم بالعقيدة الإسلامية وغير ملتزم بها ومن ثَمّ فحفاظًا على وحدة الوطن لا بُدَّ من سحق هذه الطائفة المؤمنة. عندما نرى هذه الصورة الفجَّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا نستغرب ما يحدث الآن مع أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه إذن سُنَّة كونية. الرسالة الثانية: في رواية من روايات هذا الحديث -وهي في البخاري- وصف خباب بن الأرت -رضي الله عنه- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندما بدأ في الرد أنه قَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وهذه علامة غضب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعلَّ البعض يتعجب من غضبه صلى الله عليه وسلم من طلب خباب فهو لم يطلب إلا الدعاء والنصرة ولكن الذي دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هو إحساسه أن خبابًا -رضي الله عنه- قال هذه الكلمات وهو في حالة من حالات الإحباط والإحباط ليس من شيم المؤمنين ولا يجوز لهم أصلاً.. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}.الحجر: 56. فهذه رسالة إلى جموع المؤمنين على مدار التاريخ: أن شعوركم ب اليأس في مرحلة من مراحل الدعوة -ايًا كانت هذه المرحلة- هو شعور يُغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثَمّ فهو يغضب الله عز وجل ولا ينبغي لمسلم أن يسمح للإحباط أن يتسلل إلى نفسه. الرسالة الثالثة: ذَكَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبابًا بالتاريخ فأشار إلى أقوام عُذِبوا وأُوذوا أكثر من العذاب والأذى الذي تعرَّض له خباب فبالقياس إلى ما سبق يعتبر أن ما تعرض له خباب والصحابة أهون بكثير مما مضى. الرسالة الرابعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جَزَمَ بشكل قاطع أن الله سيتم هذا الأمر الإسلام.. وليس هذا إتمام دعوة فقط ولكن إتمام تمكين أيضًا حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه وأقسم على ذلك وأكَّده بمؤكدات لغوية متعددة. الرسالة الخامسة: على عِظَم هذه الأمنية.. أمنية تمام الإسلام وتمكينه.. إلا أن الأمر النبوي المباشر هو ألاَّ نستعجل.. فلله حكمة في التأخير وهو قادر -سبحانه- على نصرة المؤمنين وكشف أوراق الفاسدين بكُنْ فيكون ولكنه يؤجِّله لأجل معلوم فوجود العجلة من المسلمين قد يكون علامة ضعف يقين أو قلة صبر أو بوادر إحباط.. وهذا كله خطير ومرفوض ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. بل يجب أن يعمل المسلمون في جدّ واجتهاد وفي حميَّة ونشاط حتى وإن كانت الأحداث التي يشاهدونها غير مُشجِّعة أو توحي في اعتبارات الكثيرين بغلبة أهل الباطل على أهل الحق.. والله سينزل النصر حتمًا في الوقت الذي يريد وبالطريقة التي يريد. إن هذا الموقف المتفائل ليس موقفًا فريدًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شبيه أو مثيل.. كلا إنه موقف متكرر رأيناه كثيرًا.. رأيناه في كل سنوات مكة في تعدي أهلها عليه.. ورأيناه عند عودته من الطائف ورأيناه عند هجرته إلى المدينة وترك الديار والأهل والأموال.. ورأيناه عند اضطراب دولته في أول عهدها ورأيناه في مصيبة أحد وكذلك عند حصار الأحزاب وعند الاصطدام مع الرومان وعند إرجاف المنافقين وغير ذلك كثير. إنها السُّنَّة الماضية.. مهما بلغ الألم فستكون له نهاية ومهما اشتدَّ الظلم فسيأتي زمن العدل ولا يأتي الفجر إلا بعد أحلك ساعات الليل. إنها ليست أحلام فيلسوف أو أمنيات مُصلِح إنما موعود رب العالمين.. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ . يوسف: 110. ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.