في ظل تصاعد الصراع الديني_ الديني في المشهد السعودي، وظهور فتاوى لامست أعمق قضايا المجتمع السعودي والتطرق لها من قبل علماء ورجال دين من خارج المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية، حتى وصف الأمر بأنه اتسم في هذه المرحلة بأنه صراع داخل التيار الديني المحافظ أو بين أعضاء الفريق نفسه كما يصف المتابعون. وفيما لزم الدعاة الجدد وبعض الذين وصفوا بالإصلاحيين المتنورين مثل أحمد بن باز، والشيخ أحمد الغامدي عدم التعليق على فتاوى أثارت ضجة كبيرة، كان أبرز الحاضرين فيها الشيخان عبد المحسن العبيكان والشيخ عادل الكلباني بفتاوى عديدة، أبرزها فتوى إرضاع الكبير للأول، وفتوى إباحة الغناء للثاني، لتشتعل الردود عليهما ودفاعهما وبياناتهما المتكررة تارة للتوضيح وتارة للرد. وبلغت تصعيداً عالياً منتصف الأسبوع الحالي بتبادل الردود بين خطيب المسجد الحرام الشيخ السديس والعبيكان من جهة، وبين الكلباني ومن استنكروا فتواه من جهة أخرى. وبين الاثنين معاً وظهور المفتي العام للرد والتوضيح على فتاواهم من جهة أخرى عبر عدد من وسائل الإعلام. »سخونة« المشهد لم تتوقف داخل الحدود باستنكار إعلامي وصل بعضه إلى التهكم على المرحلة، فالحضور الإعلامي الخارجي كان متواجداً وراصداً، ولعل من أبرز ذلك تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية وصفت فيه ما يحدث في المشهد الديني السعودي أنه (خضم حرب فتاوى) تطرح العديد من التساؤلات وتبحث عن الجهات التي يمكن أن تقف خلف ذلك الحراك الذي أثار جدلاً كبيراً حول قضايا حساسة، وحتى وقت قريب لم يكن يتم تناولها بمثل هذه الجرأة والبساطة. واستعرض التقرير أبرز الفتاوى التي أثارت جدلاً، وذكر منها بشكل خاص فتوى »جواز إرضاع الكبير« وفتوى إباحة الغناء، مستغرباً تسجيل ذلك الطرح في دولة يرى أنها تطبق أعمق تعاليم الدين الإسلامي، واصفاً الوضع بأنه في حقيقته يمثل مواجهة بين »رجال دين متشددين« وبين »تقدميين وقضاة وعلماء« ليتلقف الإعلام ذلك ويتم وصف الوضع بأنه »فوضى الفتاوى«. احتدام الصراع الديني - الديني ووضع التقرير الشيخ الكلباني في واجهة الحضور الأبرز، واصفاً إياه بالشيخ المتميز ب»أدائه في قراءة القرآن الكريم، وأنه »أول إمام أسود للحرم المكي« يخرج بفتوى »اعتبر فيها أنه ليس في الإسلام ما يحرِّم الغناء، مع موسيقى أو من دون موسيقى«، في بلد يمنع الموسيقي باستثناء »بعض أنواع الفولكلور، فالموسيقى تبقى ممنوعة في السعودية عدا في مناسبات قليلة«. وأشار التقرير أيضاً إلى مواجهات الكلباني مع خصوصه واضطراره تحت وطأة الردود والاستنكار أن يوضح »بأنه لا يقصد الغناء الذي فيه »المجون والإسفاف«، مشيراً بشكل خاص إلى أن فتواه لا تشمل أغاني الفيديو كليب وأغاني كالتي تغنيها الفنانتان اللبنانيتان هيفاء وهبي ونانسي عجرم«. ونسب إليه القول إنه حتى الفنانة اللبنانية الشهيرة يمكنها أن تكون ممن »تشملها الفتوى إذا قدمت أغنية »ذات كلمات هادفة«. واستعرض التقرير تالياً فتوى الشيخ عبد المحسن العبيكان وما أثارته فتواه حول »جواز إرضاع الكبير« من خلال رأيين. في الأول أيد العبيكان فكرة إرضاع المرأة للرجل البالغ إذا ما أرادت أن تختلط به في الحلال. واعتبر أنها في هذه الحالة تصبح بمثابة أمِّه بالرضاعة وبالتالي يصبح محرماً لها ويمكنها الاختلاط به. وقارنها التقرير »بفتوى مشابهة صدرت في مصر العام الماضي وأثارت الكثير من الجدل«، مشيراً إلى أن تلك الفتوى أثارت »ردود فعل غاضبة وساخرة في المملكة والعالم«، مستشهداً بأنه »حتى أن ناشطات نسائيات سخرن بالإشارة إلى أنهن سيقمن بإرضاع السائقين الآسيويين الذين يجدن أنفسهن مضطرات للاختلاط بهم من أجل التنقل في السيارات، إذ القيادة ما زالت حكراً على الرجال فقط في السعودية، وذلك بحسب تقارير في الصحف الخليجية«. وأوضح التقرير أن العبيكان عاد أيضاً إلى الواجهة قبل أن يغادرها بفتوى »جواز تأخير صلاة الظهر إلى آخر وقت لها« بسبب ارتفاع الحرارة غير المسبوق، وأنه -أي العبيكان- مع ذلك يوصف وينظر إليه »على أنه من الوسطيين الذين يودون تطبيق الشريعة الإسلامية بمزيد من اللين في السعودية«. هذه الفتوى أيضاً أثارت بدورها ضجة وردوداً على أعلى المستويات في »المؤسسة الدينية السعودية«، في إشارة إلى انتقاد خطيب المسجد الحرام الشيخ عبد الرحمن السديس لها وأنه -بحسب التقرير- وصفها ب»الغش في العقيدة والعبادة«. وصولاً إلى قمة الهرم في المؤسسة الدينية مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز الذي صرح بأنه »إذا خرج من هو غير مؤهَّل للفتوى نوقفه عند حده ونمنعه من التجرؤ على الله، حتى لا يُحسن الظن به فيُقلَّد في خلاف الشرع«. ونسب التقرير إلى آل الشيخ قوله رداً على الكلباني »بأن العلماء لديهم »جرثومة التحريم«. وقال إنها »كلمة خطيرة لأن العلماء لا يحرِّمون بأهوائهم وإنما يحرِّمون بالدليل من الكتاب والسنة«. وأنه »إذا كان الطبيب الجاهل يُمنع من العلاج فكيف بالمفتي الجاهل الذي يفتي الناس بغير علم؟ هذا أحق«. بالإضافة إلى تطرق المفتي إلى فتوى »جواز إرضاع الكبير« وأنها »بلا شك أوقعت بلبلة، ونحن لا نتهم المفتي بسوء قصد لكن أقول هذه الفتوى لما صدرت وأصر عليها لم تحقق الغرض المقصود بل كانت سبباً في السخرية من الشرع والقدح في أحكام الشريعة، وأن شخصاً ابن أربعين سنة قد يمكَّن من ثدي امرأة ليرضع منها، وإن قال قائل بوضع الحليب في إناء، وإلى آخره، والمهم أن العقول ما تحملتها ولا استساغتها«. آراء من زاوية مختلفة وخلص التقرير إلى أن الحكومة السعودية تسعى بسبب ذلك الصراع إلى أن تكون هناك »جهة واحدة مسؤولة عن إصدار الفتاوى، على أن تكون تحت إشراف هيئة كبار العلماء. والمعروف أن القضاة في السعودية جميعهم رجال دين وتلعب الفتاوى التي يصدرونها دوراً محورياً«. وأن عدداً من السعوديين يأمل -بحسب تعبير التقرير- في »أن تأخذ الفتاوى بحقيقة العصر وبالمتغيرات الجذرية التي طرأت على الحياة، قبل أن يستشهد بحديث لعضو مجلس الشورى السعودي السابق محمد آل زلفة وقوله إن »الناس تحكمهم الأفكار القديمة، وهم باتوا يكوِّنون عقلية جديدة، وكثيرون ينتظرون هذه الفتاوى (التحديثية) منذ زمن طوي«. وقال »نحن جزءٌ من هذا العالم وعلينا أن نبني نظاماً قضائياً يلاقي احتياجات العصر«. كما أشار في الختام إلى الحراك الذي تسبب فيه مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكةالمكرمة أحمد الغامدي بأطروحاته الجريئة، وكذلك دعوة عضو مجلس الشورى حمد القاضي في مداخلة أمام المجلس إلى تنظيم »الفتاوى«، والحد من »فوضى الفتوى«، بسبب الحرج الذي يسببه صراعها في بلاد الحرمين. وكتب الصحافي، داوود الشريان، في صحيفة »الحياة« أن »الفتوى لم تعد تسلية تلفزيونية، إنها قوة تصنع التشدد والانغلاق، وتفضي إلى الانفتاح والتطور، الفتوى هي سيدة الموقف«. آل الشيخ: تنظيم جديد قادم للإفتاء وفيما لا توجد أي إشارات مؤكدة على قرار رسمي، في ظل وجود معارضين أيضاً لتقنين الفتوى وعدم حصرها في جهة دون أخرى، تبقى المرحلة مهيأة لظهور فتاوى أخرى أو تصعيد في الوضع الحالي الذي يبدو غير مسبوق حتى الآن. الجدير بالذكر أن آخر ظهور لمفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ في قناة »المجد« الفضائية ألمح إلى شكل من أشكال تقنين الفتاوى وتأطيرها ضمن مؤسسة الإفتاء الرسمية، بقوله: »هناك تنظيمٌ جديد للإفتاء سيتمُّ من خلاله وقف كل من هو غير مؤهَّل للفتوى عند حده«، مضيفاً أنه »إذا خرج مَن هو غير مؤهل للفتوى سنوقفه عند حده ونمنعه من التجرؤ على الله، حتى لا يُحسن الظن به فيُقلَّد في خلاف الشرع«.