مراصد إعداد: جمال بوزيان التكريم أثناء الحياة وبعد الموت اعترافات بعباقرة جاءت متأخرة رغم إنجازاتهم بيقين إن الأعمار بيد الله وبيقين لا خالد إلا الله الأحد.. الموت حق يقول جل وعلا: إنك ميت وإنهم ميتون الآية رقم 30 من سورة الزمر. الموت أمرُّ حق... لكن حين نسمع بفقدان إنسان ما تظهر خصال لم نسمع بها سابقا وتبدو قيمته وتتجلى منزلته العالية ويندم بعض ممن عاشوا معه على مواقف ضده ويقول فيه الإعلام والشعراء وغيرهم أقارب وأباعد ما لم يقولوا فيه وهو حي ويعرض آخرون أغلفة كتبه إن يكن مفكرا أو أديبا أو شاعرا... ويذكرون أقواله إن كان حكيما وينشرون أمجاده إن كان بطلا ويعددون صفاته إن كان نبيلا.. وربما كان محاصرا وربما كان لا يجد ما يأكل ويشرب وربما ليس له مال لشراء دواء وربما ظلم كثيرا سرا وعلنا.. وفجأة بعد وفاته يكثر النواح والصياح والبكاء والعويل وقد كان بين ظهرانيهم دون وزن اجتماعي وقد يكون ذا كفاءة عالية جدا ولا يهتمون به ربما له فضل سري وعلني على فئات واسعة وربما كان صاحب حق في أي مجال وسلبوا حقوقه أو أخفوا عنه حقائق وربما له مواقف عظيمة لدفع أخطار ومعالجة أزمات وحل مشكلات لكنها طمست وحدثت الكوارث. سألنا أساتذة وكتابا عن حدوق هذا النفاق الاجتماعي وظهور دعاية للمتوفى أو استدراك حقيقي... وسألنا: لماذا لم يوضع في منزلته حين كان حيا؟ ولماذا سكت أمس مداحو اليوم؟ حتى أن كثيرين ينشرون صورا لهم معه ولم ينشروها وهو حي ولماذا لم تظهر تلك الأحاسيس الرقيقة أمس؟ ولماذا لم تقل له عبارات جميلة ونبيلة تليق بمقامه الكريم ويسمعها بقلبه قبل أذنيه؟. وسألنا أيضا عن أسباب الظاهرة السلبية وأسرار النفس البشرية في ذلك... وطلبنا اقتراحات لإنزال الناس -عامة خاصة- منازلهم أثناء حياتهم وتكريمهم بما يناسب شخصياتهم وكفاءاتهم وإنجازاتهم. ***** التكريم المناسب لكل مجتهد... أ.د.فرح بن عزوز في الواقع من الشائع أن لا يحصل بعض الأفراد على التزكية والتقدير الذي يستحقونه إلا بعد وفاتهم.. ويمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى عوامل مختلفة منها: * طبيعة الإدراك البشري: فهم يميلون إلى التركيز على الحاضر والفوري وغالبا ما يتغاضون عن مساهمات أولئك الذين مهدوا الطريق لهم. * التحيزات والأحكام المسبقة المجتمعية: قد يتم تهميش بعض الأفراد أو المجموعات أو التقليل من شأنهم خلال حياتهم مما يؤدي إلى التقليل من قيمة إنجازاتهم. * مرور الوقت: يمكن أن يوفر الوقت منظورًا أكثر وضوحًا مما يسمح لنا بتقدير تأثير وأهمية عمل الفرد بشكل أفضل.. هناك أمثلة عديدة لأفراد لم يحظوا باعتراف واسع النطاق إلا بعد وفاتهم مثل: * فنسنت فان جوخ: كافح الرسام الهولندي ما بعد الانطباعي لبيع لوحاته خلال حياته وكان غير معروف إلى حد كبير لعامة الناس ومع ذلك اكتسبت أعماله شعبية هائلة بعد وفاته ويعد الآن أحد أعظم الفنانين في كل العصور. * نيكولا تيسلا: قدم المخترع الأمريكي الصربي مساهمات رائدة في مجال الكهرباء والاتصالات اللاسلكية ولكن لم يتم الاعتراف بعبقريته بشكل كامل إلا بعد وفاته ويعد اليوم شخصية ذات رؤية ساهمت في تشكيل العالم الحديث. * آلان تورينج: لعب عالم الرياضيات وعالم الكمبيوتر البريطاني دورا محوريا في فك شفرة إنجما خلال الحرب العالمية الثانية مما ساعد على تقصير مدة الحرب وإنقاذ عدد لا يحصى من الأرواح. ومع ذلك تمت محاكمته لاحقًا بتهمة المثلية الجنسية وتوفي منتحرًا وصارت مساهماته الآن مشهورة على نطاق واسع ويعد رائدًا في علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. تسلط هذه الأمثلة الضوء على الحقيقة المؤسفة المتمثلة في أن بعض الأفراد قد لا يحصلون على التقدير الذي يستحقونه خلال حياتهم. ومع ذلك فإن تراثهم لا يزال يلهمنا ويؤثر علينا ولا يمكن إنكار مساهماتهم في المجتمع. في النهاية يجب أن نحرص على أن يكون التمجيد صادقًا ونابعًا من القلب. فالتقدير الحقيقي لا يكون فقط بالكلمات بل أيضًا بالأفعال التي تُظهر الاحترام والتقدير للمستحقين.. إن الاحتفاء بإنجازات الآخرين يعزز من روابط المجتمع ويُعلي من قيم التعاون والتضامن مما يؤدي إلى بناء مجتمع أكثر تماسكًا وقوة. *** كان عظيما رحمه اللّه.. شهادة ناس ملاح ! أ.نور الدين العدوالي وأخيرا ترجّل الفارس القمقام فُلان بن فُلان ... فقدت السّاحة الإعلاميّة قامة شمّاء فلان بن فلان ... خيمة الشّعر تلتحف السّواد برحيل شاعرنا الغطمطم فلان بن فلان ... فاجعة عظمى في الحقل التّربويّ إثر انطفاء شمعة أستاذنا القدير فلان بن فلان ... منصّات مسارحنا في حداد بعد رحيل الممثّل فلان بن فلان ... بيوت الرّحمان تبكي أيقونة القرآن في رحيل إمامنا فلان بن فلان ... وهلُمَّ جَرّا. هذه وأخرى عناوين بالبند العريض تفاجئنا بها واجهات الصّحف اليوميّة وتنتشر في مواقع التّواصل الاجتماعيّ انتشار النّار في الهشيم فور سماع نبإ وفاة أيّ شخص من هؤلاء أو غيرهم والطّامّة الكبرى التي صارت ظاهرة اجتماعيّة لا تخفى على أحد أنّ هذا الميّت الذي تحوّل فجأة -وبُعَيْدَ وفاتِه- إلى نجم مشهور لم يكن طيلة حياته شيئا مذكورا لدى هؤلاء الذين يتباكون الآن على رحيله! وهنا نتذكّر جميعا ما أدركناه من كلام آبائنا وأجدادنا الأوّلين: ( كي كان حيّ مشتاق تمرة وكي مات علڨولوا عرجون) وهو ما عبّرتُ عنه شِعرا في إحدى قصائدي قائلا: عِشْتُ عُمرّا في عَفاف رَغْمَ فَقْر شَاقَ قلبي شِقَّ تَمْر مِن ثِمارِ فَوْرَ مَوتِي قامَ قَومِي في خُشُوع عَلَّقُوا عُرجُونَ رَطْب فَوقَ دَارِي ولئن كنّا ندرك يقينا أن الدّعاء للميّت ثابت عن حبيبنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في قوله: استغفروا لأخيكم واسألوا له التّثبيت فإنّه الآن يُسأل إلّا أنّ حديثنا عن التّباكي فور موت أحدنا ينصرف -أي الحديث- إلى هذا الغلوّ في تعداد مناقب الميّت في حين أنّه عاش منسيّا أو مقصيّا أو مهمّشا... ولقد يكون كرّس حياته كلّها لما فيه خير وصلاح مجتمعه ووطنه وأمّته وله في ذلك بصمات وآثار لكن لم تنتبه إليه لا جهة خاصّة ولا مؤسّسة رسميّة وعاش في صمت ليرحل في صمت. وهنا نجلد ذواتنا بهذا التّساؤل: كم عظيم وأدنا وكم نافع قتلنا وكم مصباح متوهّج أطفأنا وكم نجم أخفينا... حتّى لكأنّ مرايانا المشوّهة تصرخ في وجوهنا: أين كنتم حين كان هؤلاء السّادة العظماء أحياءً؟ ثُمّ لِنَفرضْ جَدَلًا أنّ هذا الميّت عادت إليه روحه وانتفض من تحت التّراب عائدا إلى الحياة -ولو لدقائق معدودات- ألا يمكن في أحسن الأحوال أنّ يتّهمنا بالنّفاق أو أن يهرول خلفنا واحدا واحدا بالّلحود والحجارة أو أن يتأمّل مليّا في وجوهنا دون أن يقول لنا: ما أروعكم وأنتم تكذبون وتدّعون الحبّ والإخلاص والوفاء. أذكر أنّ مدير مؤسّسة توفاه اللّه إلى رحمته الواسعة وخرج خلفه حشد غفير لتشييع جنازته يتقدّمهم المسؤول الأول في القطاع وحاشيتُه إضافة إلى زملائه في المهنة الذين كانوا يتباكون وفي الوقت نفسه يباشرون اتصالاتهم ويتودّدون إلى مسؤولي القطاع لعل أحدهم يظفر بخلافة المنصب بعد رحيل صاحبه. وممّا لا يختلف فيه عاقلان ولا يتناطح فيه كبشان أنّ المشيّعين سرعان ما ينسون صاحبهم عند أوّل لفّة عائدين من المقبرة حتى لكأنّه ما عاش بينهم يوما وما ترك خلفا وما بصم على أثر وتبقى القضيّة مطروحة للدّراسة والتّحليل من زواياها المختلفة. *** شخصيات وطنية وعالمية لم تنل حقها من التكريم أ.حورية منصوري ماذا لا نقدر قيمة الناس إلّا بعد فقدانهم ورحيلهم عنّا؟ لماذا بعد فراقهم نقف على أطلالهم وقبورهم ونرثي مزاياهم وتضحياتهم وأعمالهم ومناقبهم بل ربما نتذكر أبسط ما عملوا سواء أكانوا هؤلاء أهلا أو شخصيات عالمية قدمت للبشرية جميل صنيعها في مجالات عدة. هناك شخصيات أدبية لامعة ورموز علمية وحتى نجوم رياضة عاشوا ولم نعرف عنهم شيئا لا من ناحية شخصياتهم كأفراد ولا حالاتهم الاجتماعية حتى غادروا الدّنيا هناك.. أشهر لاعبي كرة القدم جزائريون لعبوا إبان الثورة أدوارا مهمة لرفعهم العلم والتعريف بالقضية بعضهم مهمشون لا يجدون بيتا يأويهم بعد كبر سنهم ومرضهم.. وهناك ساسة عاشوا بيننا حافظوا على القيم النبيلة وكانوا من أهل الذّمم ثقافة ودينا وحنكة وحكمة قادوا شعوبهم إلى برّ الأمان وكانوا ممن عقدوا السلام في العالم لكن لماذا غفلنا عن إنجازاتهم وعن مهاراتهم في تسيير شؤون الشعوب بقيادتهم الرشيدة كرؤساء الجزائر وكثير من رجالاتها في مجالات متنوعة... التاريخ يشهد على إنجازاته ومروءته وله دليل خطاباته الأخيرة وتبقى وصية للشباب الجزائري... ولكل جواد عثرة كما يقال والكمال لله سبحانه... فلنترك كل ضمير يحكي بصدق بداخله ما أنجزه المرحوم وآثاره الخالدة وبصمته البارزة التي انطبعت وتبقى على راية الوئام والسلام بين الجزائريين الأحرار. لماذا بضمير وإنسانية لا نعطي كل مجتهد في جميع الميادين استحقاقاته تقديرا لأعمالهم ولو بالإشادة والإطراء الجميل تحفيزا له. فكم من فلاسفة عاشوا في اعوزاز وفقر مدقع ولا من انتبه لهم إلا بعد مماتهم.... قد نالوا وحازوا الرثاء الذي لبس معطف المدح والثناء لطالما كانوا بحاجة إليه في حياتهم وماتوا تعساء بؤساء. اللامبالاة وعدم الانتباه أفقدنا الذوق العلمي والاجتماعي والأدبي والسياسي. وحتى الصلة الحميمية بين الأفراد. فما عدنا نعيش إلا أنفسنا وحين نفقد أحدا من هؤلاء نقف على رموسهم لنرثي طباعهم وخلالهم وأعمالهم وإرثهم العلمي والأدبي. ما الذي يستفيده ميت بعد أن نبني له تمثالاً نمجده به؟ لماذا ننتظر أن تموت موهبة حتى نقدر قيمتها؟ أين كان الثناء والتحفيز من حياتهم؟ وأين كان التقدير من دفعهم للأمام لتقوى عزائمهم؟ فكم من تمثال قد نصب عاش صاحبه مهزوما لا مؤازر له وعاش في الحضيض... حقيقة تنتابنا الحسرة ونحن نعد شخصيات تمر في ذاكرتنا كشريط في مناسبات من خلال أعمالهم التي ما منحناها أهمية يوما ولا تفاخرا. في أمثالنا الشعبية المخلدة مثل شعبي هو عصارة تجربة لمحنك حكيم تركه ومات ربما وأكيد لاحظ الفرق بين قيمة الإنسان في حياته وبعد مماته عند أهله وخلانه... فقال متحسرا: (حين كان حيا اشتاق تمرة وحين مات علقوا على قبره عرجونا). آخر شخصية لهذا العام 2024 توفته المنية كان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إثر سقوط مروحية كانت تقله وبعض الشخصيات المرافقة له. ربما الكثير لم يكن يعلم من عامة الناس قيمة هذا الرئيس العلمية والدينية والقضائية ومساهماته تجاه بعض القضايا المصيرية الحالية. كثيرة وجمة هي الشخصيات التي رحلت عنا دونما علم منا... حتى الإعلام لم يعطهم حقهم ولا أنصفهم وما أولاهم أهمية وهم ربما أيضا أحياء. *** قد يحبك الجميع بعد موتك...! نسيمة أندلسي حين الموت نسمع ونقرأ عن غرائب وعجائب ما يقال أثناء الجنائز سواء في المقبرة أو في بيت العزاء ودون شك هو بعيد عن الواقع وبعيد عن المنطق وتلك الأحاديث تضر بالمتحدث عن المتوفى بالدرجة الأولى المتوفى انتهى أجله. مثلا نسمع عبارة: قد يحبك الجميع لكن بعد موتك . هذه العبارة حقيقة وواقع حال يرددها الكثيرون في مناسبات عديدة. بعد موت إنسان ما قد يبكيه البعيدون قبل القريبين في حالات كثيرة وينشر ذلك في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ويهرولون لحضور مراسم دفنه وهذا الذي لم يطرق بابه ربما شهورا أو سنين وكان مريضا أو حدثت له أزمة ما وغير ذلك!. إنسان آخر قد يلغي مواعده ويعدل برنامجه من أجل أداء واجب العزاء وبمنطق معكوس... كم تمنى المتوفى أن تتاح له بعض الدقائق فقط من الاهتمام وهو حي يرزق؟ في المقبرة أو في بيت العزاء قد تسمع من الحضور من يتحدث عن المتوفى بكلام طيب وجميل وغير ذلك من الأوصاف التي يمكننا أن نطلقها على حديثه وحديث غيره لكن المفارقة العجيبة أنه كان يوما ما خصمه اللدود وكان يوصفه بكلام بذيء وقاس يندى له الجبين حين سماعه. وذاك المعزي يذكر موقفا حدث له مع المتوفى ولم يهتم له وكأنه يبرز خصاله الحسنة ما دام الطرف الثاني أفضى إلى ربه ولكن هيهات الملائكة تسجل كل شيء... حالات كثيرة يسردها فلان وعلان عن علاقتيهما بالمتوفي وعن خلافات أو سوء في أمور كثيرة ما كانت لتحدث ربما كانت ابتسامة حينذاك تكفي لفض أي نزاع أو خلاف وينتهي الأمر.. أمراض نفسية ما تزال تنخر أجسام المجتمعات بمثل تلك السلوكيات البعيدة عن القيم النبيلة.. نعم النماذج لا تعد ولا تحصى في مثل هاته الحالات في بلدان كثيرة من العالم نقرأ عن عباقرة لم يتم تكريمهم إلا بعد وفاتهم وربما يوجد من لم يكرم حتى يومنا هذا... إذن تجب إعادة الاعتبار للكفاءات ولغيرها ممن تركت بصمات مهمة جدا في وقتنا الماضي والحالي ونهتم بها ونكرمها أثناء حياتها وحتى لا نظل نكرر عبارة: قد يحبك الجميع بعد موتك فقط . ***