ظاهرة تكريم المبدعين ظاهرة ثقافية وسلوك حضاري في حياة أي مجتمع كونه يحفز ويحافظ على التوازن الفكري والنفسي للنخب المثقفة من شعراء وأدباء وفنانين تشكيلين، غير أنه، وبحسب ما تمليه ذهنيات تابى التغيير ولا تريد تخطي اشياء ماعادت نافعة ولا لائقة سواء لشريحة المبدعين او للحراك الثقافي ككل وهي متفشية في عالمنا العربي، لا يُعترف بالمثقف والمبدع الا اذا تمدد في قبره وتاكد انه لن ينهض ابدا.. عندها يفزع الكل ويجري أولو الأمر من مسؤولين وقائمين على الشان الثقافي لإقامة احتفاليات التكريم وتنظيم الملتقيات والندوات على شرف رحيل المبدع فكأنما يعربون عن فرحتهم بمغادرته الحياة وتخلصهم منه.. وان كنا لا نعارض تكريم المثقفين الراحلين لما يحمله من عرفان لأعمالهم وما أضافوه للحقل الثقافي والمعرفي، فإننا نتساءل مع جل المثقفين والمبدعين الذين استجوبتهم ''الحوار'' على هامش فعاليات ملتقى الادب الشعبي العربي الثاني، متى نقلع ونكف عن هكذا حرمان وتنكر وتجاهل للمثقف فقط لانه موصوم بالحياة ويعاني من شبهة الحاضر ونجري لتبجيله والاحتفاء به فقط لاننا تاكدنا انه ماعاد هنا.. مات وغاب عن الوجود؟ الدكتور جورج سعادة: استنكر الدكتور وشاعر الزجل جورج سعادة من لبنان ظاهرة تكريم المبدع بمختلف أشكاله بعد مماته، معتبرا ذلك انتقاصا من قيمته ولا تقدم له أي إضافة له لأنه في حكم الغائب ولا يرى ولا يحس بطعم ولذة تكريمه لا من بعيد ولا من قريب، واصفا حالة الفنان العربي بالمزرية لأن المبدع إجمالا في البقاع العربية يعيش حالة هزم مستمرة وحنين دائم إلى وطنه وإلى حالة مجتمعه، فهو يحتاج إلى مساعدة ومساندة الآخرين له خاصة من السلطات الرسمية في البلاد، وهذا حسبه ما تفتقر إليه حكومات الدول العربية، حالة الفنان في الوطن العربي تنذر بالخطر إذ هناك من لا يتوفر على قوت يومه ويستدين أموالا حتى يتمكن من الاستمرار في هذه الحياة، ويقول جورج إنه يعرف الكثير من الحالات التي تعاني من ضيق العيش وتحيى حياة ضنكى، رغم أن المبدع يفرط في صحته ويستهلك طاقته ويتآكل داخليا كل ذلك في سبيل انتاج مادة فكرية تستعمل كمرجع يستمد منه حلولا لتساؤلات تطرحها التنمية البشرية والاقتصادية، لذلك يرجو من القائمين على الهيئات الثقافية والفنية في بلداننا العربية أن يهتدوا إلى تكريم المبدعين قبل أن تغلق جفونهم ويغادرون عالم الأحياء ويلتحقون بعالم الأموات لأنه حينها لا يجديه التكريم نفعا ولا ضرا، فالتكريم بالنسبة للمبدع وهو حي يزيد من قيمته ويضاعف أعماله وطاقة مما يمكنه من مواصلة إنتاجه وعطائه. الشاعر التونسي عبد اللطيف المرزوقي: تكريم المبدع بعد موته لا يجدي نفعا الاعتراف بالمبدعين والتفاخر بأعمالهم في دولنا الوطنية العربية صار أمر ا مفروغا منه، إذ ينتظرون حتى يموت أصحاب القرائح الجادة والأقلام السخية والأفكار النيرة ثم يصدرون في حقهم نصوصا تقضي بتكريمهم وتبجيلهم، وللأسف الشديد يقول المرزوقي إن هذه الظاهرة السيئة عرفت طريقها إلى كل الدول العربية من الخليج إلى المحيط، فالمبدع لا ينظر إليه إلا بعدما تنطفئ شمعته ويوارى جسمه التراب، وهذا في نظري لا يجدي نفعا ولا يزيد من الأمر إلا تعقيدا وحطا من قيمة المفكر والفنان والرسام والأديب والشاعر وكل من يمت للثقافة بصلة في العالم العربي، ولنا مثل في أبو القاسم الشابي الشاعر التونسي العظيم الذي وافته المنية في عمر الزهور - 42 سنة- تاركا وراءه زخما شعريا كبيرا حيث وضعت أعماله في دواوين ومجلدات ونقشت أعماله في كبرى الجامعات لكن كل هذا لم يضف للشابي أي شيء، والسؤال المطروح هنا ما جدوى التكريمات والاعترافات بعد وفاتنا وخروجنا من هذا العالم، صراحة أود العيش لحظات التكريم بأم عيني وأحس بطعمه ولذته وأنا في أوج عطائي لأنتج الأكثر وليس كما يقول المثل الشعبي عندنا ''كي كان حي اشتاق تمرة ... بعد ما مات علقولو عرجون''. الحمد لله أنني تحصلت على جوائز كثيرة وحظيت بإعجاب الجمهور في بلدي تونس وفي الوطن العربي وسجلت حضوري في عديد المهرجانات التي نظمت هنا وهناك، لكن يبقى الشاعر الذي هو لسان حال مجتمعه ويتوجع لهموم أبناء شعبه، مهمشا ومنبوذا ويعيش حالة قهر من الداخل، أرجو من الحكومات العربية أن تلتفت إلى مبدعيها ومفكريها قبل مغادرة هذا الكون الفسيح الذي يتسع لكل كائن حي، وتكريم الأحياء عن أعمالهم هي إضافة نوعية تجعلهم يبدعون أكثر ويعطيهم حافزا معنويا للإنتاج والعمل الجاد. الشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة: الاحتفاء بالتاجرب الجادة واجبة وإن لم توافق مزاجنا الفكري من جهته أوضح الشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة أن ظاهرة تكريم المبدعين وذكر خصالهم الحميدة بعد موتهم لم تكن حكرا على الثقافة الجزائرية إنما هي عقلية عربية، مضيفا أن الموت عند الإنسان في الثقافة العربية يرتبط بالكمال وبالتالي يربطون احترامهم للميت على أساس أنه مكتمل، وإذا أسقطنا هذه الحقيقة الأنتروبولوجية على المفهوم الإسلامي لوجدنا دعما لها بحيث أن الإنسان الحي بالضرورة خطاء وأن سجل أخطائه مازال مفتوحا، وبالتالي فإن احترامه قليل، أما وإذا غلق سجله وغادر هذه الحياة يصبح شخصا مطهرا ونزيها، نحن نفهم الموت على أنه تطهير وأن علاقتنا بالحياة مهزوزة ومكسورة وقائمة على الشبهة، لأن الذي يحب الحياة كثيرا شخص مشتبه به في ثقافتنا العربية الإسلامية، وعليه أعتقد أن هذه الامتدادات التراثية أثرت على هذا السلوك الثقافي وهو أننا لا نحتفي بالتجارب إلا إذا مات صاحبها، وهذا الأمر يجب تجاوزه من خلال إعادة علاقتنا بالحياة إلى مجراها الطبيعي وأن نكون أبناء الحياة وإذا جاء الموت كنا أبناء الآخرة، أما أن نكون أبناء الموت قبل أن يأتي ونكون سفراؤه بالحياة وهو لم يكلفنا بذلك أمر غريب جدا وبشع، بالمقابل لا يمكن أن نقول عن التكريم سوى أنه تقليد طيب مهما كانت نوايا القائمين عليه لأن يدخل في ثقافة الاعتراف وعليه لا بد من تكريسه في مشهدنا الثقافي والسياسي والاجتماعي والإعلامي، علينا أن تكون لنا الجرأة وأن نعترف بالتجارب الجيدة والجادة مهما كانت حتى وإن لم توافق مزاجنا الفكري وعلينا أن نعترف بالجيد حتى نخلق نوعا من التراكم والإمداد والتواصل. الشاعرمحمود ناجي: الميت لا تنفعه سوى قراءة الفاتحة على روحه تأسف الشاعر الفلسطيني محمود ناجي من مسألة تكريم المبدع بعد الممات، واصفا الظاهرة بالمخزية وغير انفعية على الإطلاق لأن التكريم لا يصح إلا في حياة أصحاب الأعمال، والمبدع حساس بطبعه لذلك وجب الاعتراف به في حياته قبل مماته لأن أي تكريم يأتي بعد تركنا هذه الدار والتحاقنا بالدار الآخرة يعد هدرا للوقت، فبعد وفاة الإنسان مهما كانت صفته لا شيء ينفعه سوى قراءة الفتاحة على روحه الطاهرة عدا ذلك لا شيء يجده نفعا. الشاعر أحمد بوزيان: كان مشتاق تمرة.... كي مات علقولو عرجون تساءل الشاعر الشعبي الجزائري أحمد بوزيان عن المستفيد من وراء تكريم المبدع بعد رحيله عن هذه الحياة، قائلا إن التكريم الذي يكون على هذه الصورة لا ينفع ولا يضر المكرم على الإطلاق لأنه لم يعد يلامس هذه الحياة فما الفائدة من تكريمه والاحتفاء به وهو في أحضان الثرى، ولا أرى في تكريم الميت سوى تلك المبالغ المالية أو الشهادات الشرفية التي تسلم إلى أهله وذويه ونكون بذلك قد كرسنا المثل القائل ''كي كان حي اشتاق تمرة.... كي مات علقولو عرجون''. واغتنم أحمد بوزيان الفرصة لينوه بهذه المشكلة التي باتت تتفاقم في مجتمعاتنا العربية وتتكاثر وتعرف انتشارا واسعا، ''لكن -يقول- الحمد لله أنني كرمت أكثر من مرة في ولايتي تيارت وسررت بذلك كثيرا وحفزني على العمل أكثرس. الشاعر سمير سطوف: من مصائبنا كأمة أننا أمة لا تحترم عظماءها الذين أبدعوا في كل المجالات حتى في مجال المعرفة الموسوعية كالفلسفة والفيزياء والعلوم الأخرى، يؤسفني أن أقول إن أي أمة لا تعير اهتماما لعظمائها أمة ليست جديرة بالحياة. إن هذا التراجع والانحسار الذي حدث على مستوى الأمة العربية ككل جعل المثقف في حالة يرثى لها، عندما نقول على سيبل المثال فلان مات، لا يخشى منه ولا يهدد من هم على مواقع الإدارة الثقافية في الوطن العربي، نحن مصابون بالانكسار كل ما في واقعنا في عالمنا العربي يسيطر عليه أشباه المثقفين الذين يتبوؤون مناصب في مجالات مختلفة في هذه الحياة لا سيما في مجال الإبداع الثقافي، المثقف عندما يصاب بالترف الفكري أي يصبح لديه كما معرفيا وحشدا للمعلومات في مخيلته وهذا الترف يستخدمه للممارسة اليومية للتعبير عن هموم شعبه وعن محيطه وإن لم يستطع أن يعبر عن ذلك فهو يمتلك آلة تعطيل الحركة والتفاعل والحيوية والتواصل ويمتلك من القدرات -كما أصفها- آلة التآمر لجعل المثقفين الحقيقيين في موقع هامشي، لأنه -وأعني المسؤول- يخشاهم وهو يعرف أنهم الأحق بمنصبه وأنهم الحق في أن يتبوؤوا المكانة التي يستحقونها في وجدان الأمة، حين نقول إننا متخلفون فهذا ليس وصفا شعريا إنما نمط علاقة الناس فيما بينهم لأننا نحن العرب لسنا متفتحين على العالم وعلى ذواتنا، وحين نتكلم عن الأمراض والأوبئة التي تعشش بدواخلنا فإني لا أحمل الناس مسؤولية ذلك إنما أحمل الأزمة الشاملة التي تمر بها الأمة العربية، ولهذا أقول إن التكريم الذي يأتيني بعد موتي لا أريده على الإطلاق.