لعب الفنانون الجزائريون على اختلاف اختصاصاتهم ومشاربهم الفنية، دورا مهما وبارزا خلال الثورة التحريرية، بشكل أثبتوا من خلاله، أن الثورة تحتاج إلى اتحاد أبنائها جميعا، فكل منهم يكمل الآخر، خدمة لهدف واحد ووحيد هو استقلال الجزائر وحريتها أولا وقبل كل شيء· من هذا المنطلق، نظمت جمعية مشعل الشهيد أول أمس، ندوة حول الموضوع، بالجزائر العاصمة، نشطها كل من الباحث والفنان الدكتور عبد الحميد اسكندر، والفنان المسرحي أيضا، عبد الحميد رابية، والفنان القدير مصطفى سحنون، الذين تحدثوا عن التضحيات الكبيرة التي قدمها مختلف الفنانين الجزائريين، منذ انطلاق الحركة الوطنية، أي ما قبل الثورة التحريرية، وإلى ما بعد الاستقلال، سواء كانوا مسرحيين، أم مطربين، أم سينمائيين وفنانين تشكيلين وغيرهم ممن لعبوا دورا حيويا وهاما للغاية، في رفع الوعي الوطني بين صفوف الشعب الجزائري، وكانوا سفراء فوق العادة للقضية الجزائرية في المحافل الدولية· في هذا الإطار، دعا الدكتور عبد الحميد اسكندر، إلى ضرورة البحث في تاريخ الفن الجزائري، ودوره خلال الثورة التحريرية، وإعادة الاعتبار لرجاله ونسائه الذين صنعوا مجده على مدى سنوات طويلة، فيما تناول الفنان عبد الحميد رابية في مداخلته، دور المسرح الوطني وتفاعله مع الحركة الوطنية منذ انطلاقها، مع الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، سنة 1908، عندما دعا المبدعين والمفكرين الجزائريين، إلى العمل على النهوض بالفكر والثقافة في الجزائر، وإحياء تاريخ الأبطال الجزائريين، لإيقاظ الوعي السياسي لدى الجزائريين، وزرع فكر المقاومة والجهاد بينهم· وأضاف المتحدث أنه بعد زيارة الفنان المصري جورج أبيض إلى الجزائر سنة 1921، أعطت دفعا قويا للفنانين الجزائريين، الذين انطلقوا في تأسيس جمعيات مسرحية وفنية مختلفة، إلى غاية سنة 1926، بعد تأسيس حزب نجم شمال إفريقيا، وبروز مصطلح الاستقلال كمطلب أساسي ورئيسي، للعديد من المثقفين والمفكرين الجزائريين، وموازاة مع ذلك كانت الانطلاقة الحقيقية للمسرح الجزائري، بإنتاج مسرحية (جحا) لأول مؤلف وكاتب مسرحي جزائري، هو الفنان سلالي علي المدعو علالو، التي لاقت تجاوبا كبيرا من الجمهور آنذاك، ثم ظهور جمعية المطربية لصاحبها أب المسرح الجزائري الفنان محي الدين بشطارزي، سنة 1928، التي قدمت العشرات من العروض والأعمال الفنية المتنوعة، وكانت تقوم من خلالها، بدعم الحركة الوطنية، ماديا ومعنويا، عبر العمل على زيادة وعي الجزائريين، ودعوتهم إلى الثورة من أجل استقلال بلادهم، وطرد المستعمر الغاشم، واستمرت مختلف اللجان المسرحية التي تأسست بعدها تباعا، في دعم الحركة الوطنية، داخل وخارج الوطن· واستمر الوضع على ما هو عليه إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، حيث وبعد سنة 1955، حسب الفنان عبد الحميد رابية دائما، توطدت العلاقة بين قيادات الثورة، وبين رجال المسرح، مع ما أثبته هذا الأخير من قدرة على التأثير في الشعب، وتوعيته وتحسيسه بقضيته، وعدالة وشرعية مطالبه، وثورته، وهو ما أدى خلال سنة 1956 إلى إنشاء فرقة مسرحية تحت لواء حزب جبهة التحرير الوطني التي دعت كافة الفنانين الجزائريين داخل وخارج الوطن، للانضمام إليها، وهو نداء الوطن الذي لبوه بكل صدق، رغم كل ما كان مفروضا عليهم من رقابة شديدة، ومضايقات ومطاردات تعسفية كانت تمارسها ضدهم الإدارة الاستعمارية، نظرا لما كانوا يبذلونه من نشاط متواصل في تعبئة الشعب الجزائري، ورفع تأييده للثورة التحريرية المجيدة، كما أن كثيرا من الفنانين التحقوا بالثورة في الجبال، ومنهم من استشهد هناك، أمثال الفنان عبد المجيد رضا، الذي استشهد والسلاح في يده سنة 1960، وهو شقيق الفنان المسرحي القدير حبيب رضا والفنان على معاشي الذي استشهد في 8 جوان 1958، بساحة تيارت حيث أعدمته السلطات الفرنسية شنقا أمام أنظار السكان، وتم إعلان ذكرى استشهاده يوما وطنيا للفنان في الجزائر· وخلال سنة 1957، كان الإعلان الرسمي عن تأسيس الفرقة المسرحية لجبهة التحرير الوطني التي ضمت فنانين من داخل وخارج الوطن، تولت مهام الرد على الدعاية الفرنسية المغرضة، وتبليغ رسالة الثورة للجزائريين، وتقديم أعمال فنية لتوعية وتحسيس الرأي العام الوطني والعالمي، وخلال سنة 1958 انضم فنانون من مختلف الهيئات الفنية إلى هذه الفرقة، معللين انتمائهم الكامل ودعهم اللامشروط للثورة الجزائرية، وضمت في البداية 35 فنانا، سرعان ما وصل عددهم إلى 53 فنانا جزائريا· وبذلت الفرقة مجهودات جبارة لأجل إسماع صوت الثورة الجزائرية، فشاركت في العديد من المهرجانات والحفلات والتظاهرات الفنية والثقافية في كافة الدول لأجل جلب مزيد من الدعم والتأييد للثورة التحريرية، وكان الفنان عبد الحميد رايس، أول كاتب مسرحي جزائري، وهو كاتب النصوص المسرحية الخاصة بالثورة، على غرار كل من مسرحيات (نحو النور) وهي عبارة عن ملحمة تراثية، ومسرحية (أبناء القصبة) التي تحكي نضال أبناء القصبة، بالإضافة إلى مسرحية (الخالدون) التي تتحدث عن المجاهدين والثوار في الجبال، إلى جانب أدباء وكتاب آخرين، بذلوا إبداعهم لأجل تخليد الثورة التحريرية ودعمها، أمثال عبد الله كيسري، حسين بوزاهر مولود معمري، صحاب رائعة (الأفيون والعصا)، توفيق المدني، الطاهر فوضالي، رضا حوحو، آسيا جبار وغيرهم· وقد قدمت الفرقة المسرحية لجبهة التحرير الوطني، الكثير من الدعم المعنوي والمادي للثورة، وساهمت بشكل كبير في إيصال صوتها لمختلف أنحاء العالم، كما كانت تقدم عروضها في كل الدول وأيضا في مخيمات اللاجئين، ومراكز التدريب، وعلى الحدود لرفع معنويات الجنود والثوار، وتسليتهم، فكانت بالتالي شكلا آخر من أشكال الكفاح الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم·