منذ بدء مبادرة السيّد كوفي عنان المبعوث الدولي وقعت مجزرتان (الحولة والقبير) وسقط أكثر من الفي قتيل، وتعرّض وفد حجّاج لبناني شيعي للخطف أثناء عبوره الأراضي السورية، وتفجّرت حرب أهلية طائفية مصغّرة في شمال لبنان بين السنّة والعلويين رافقتها أعمال خطف متبادلة، أمّا المجلس الوطني السوري، الفريق الأبرز في المعارضة، فقد اختار رئيسا كرديا جديدا خلفا للدكتور برهان غليون. استمرار الأزمة في سورية لأكثر من 15 شهرا أصاب الكثيرين بخيبة أمل، فالنّظام توقّع إنهاء الانتفاضة الشعبية المطالبة بالتغيير الديمقراطي في غضون أيّام أو أسابيع على الأكثر، والمعارضة توقّعت وخطّطت وطلبت تدخّلا دوليا عسكريا معتقدة أن حلف (النّاتو) سيكون جاهزا تحت الطلب على غرار ما حدث في ليبيا، وبدأت تتقاسم المناصب وتتقاتل على كرسي الحكم ودول خليجية باتت تعضّ أصابع النّدم لأنها تورّطت في صراع بدأ ينقلب إلى حرب أهلية طائفية قد تصل نيرانها إلى ذيل ثوبها، وحرب باردة أقطابها دول عظمى تتقاتل على اقتسام الثروات ومناطق النّفوذ في منطقة تمتلك ثلثي احتياطات النّفط في العالم. ' ' ' سوريا تعيش حرب استنزاف طائفي مرشّحة للإطالة، فالجماعات الإسلامية المتشدّدة باتت تقاتل إلى جانب الجيش السوري الحرّ لإسقاط نظام ترى أنه طائفي، إسلامه منقوص، وصحيفة كويتية تحدّثت منذ أيّام عن تدفّق عشرات المقاتلين الكويتيين ومن الطائفة السنّية إلى سوريا عبر تركيا، تماما مثلما يتدفّق مقاتلون مماثلون من دول المغرب العربي وليبيا بالذات، علاوة على باكستان، ومع هؤلاء تتدفّق أموال وأسلحة حديثة جعلت من قوّات الجيش المذكور يحقّق مكاسب كبيرة على الأرض وينقل المواجهات إلى قلب العاصمة دمشق. أمّا الجيش السوري النّظامي فيقاتل على أكثر من جبهة، ولم ينجح رغم هجماته الشرسة في السيطرة على مدينة حمص أو جيوب أخرى في أدلب وحماة وريف العاصمة. الإعلام الخليجي يلعب دورا رئيسيا في هذه الأزمة ولا يخفي انحيازه الكامل إلى جانب قوّات المعارضة ويستعجل سقوط النّظام خوفا من إقدامه، أيّ النظام، على أعمال انتقامية لأنه ينتمي إلى حلف يضمّ إيران وحزب اللّه وروسيا، وهي دول تجمع بينها خبرة عريقة في أعمال التفجير والقتل والاغتيالات تحت مسمّيات عدّة. ومن الواضح أن حسم الأزمة السورية بالخيار العسكري بات غير ممكن، فالحلول الأمنية التي طبّقها النّظام طوال الأشهر الماضية فشلت في إنهاء الانتفاضة وخيار التدخّل العسكري الخارجي الذي طالبت به بعض فصائل المعارضة وتمنّته الجامعة العربية ليس مطروحا على الطاولة، وتسليح الجيش السوري الحرّ قد يمكّنه من استنزاف النّظام لكنه وبسبب فارق القوى لن يمكّنه من إسقاطه في منظور المستقبل القريب. نحن أمام وضع مشابه للوضع الذي كان قائما في أفغانستان أثناء الأيّام الأخيرة للحكم الماركسي، مع فارق أساسي وهو أنه لا توجد قوّات أجنبية نظامية على الأراضي السورية، فتركيا تلعب دور باكستان والسعودية تقوم بدعم قوّات المجاهدين ماليا وعسكريا بدعم من الولايات المتّحدة الأمريكية وحلفائها في الغرب. الحرب الأفغانية استمرّت ثماني سنوات وانتهت بسقوط النّظام، ثمّ بعد ذلك بحرب أهلية دموية أدّت إلى وصول طالبان إلى سدّة الحكم، ثمّ احتلال أمريكي تحت عنوان الحرب على الإرهاب والقضاء على تنظيم القاعدة وحاضنته حركة طالبان. وفي ظلّ تراجع الإدارة الأمريكية عن خيار التدخّل العسكري ولو مؤّقتا بسبب وضع كلّ من روسيا والصّين وإيران ثقلها خلف النّظام السوري والخوف من خسائر مالية وبشرية ضخمة واستيلاء إسلاميين متشدّدين على السلطة وتحوّل البلاد إلى دولة فاشلة على حدود إسرائيل تفتح المجال لمقاومة عربية سنّية، في ظلّ كلّ هذه الاحتمالات باتت الحلول السياسية هي الخيار الأسلم والأقل كلفة. هناك شبه إجماع على أن مبادرة عنان تلفظ أنفاسها في غرفة العناية المركّزة، لذلك بدأت الولايات المتّحدة تبحث عن البديل، وترى أن الحلّ على الطريقة اليمنية هو أحد أبرز الخيارات، لذلك تمارس ضغوطا مكثّفة على موسكو على أمل إشراكها في هذا الحلّ وعقد صفقة استراتيجية معها كمكافأة مغرية، سواء في جورجيا أو بتقديم ضمانات بحفظ مصالحها في سوريل في مرحلة ما بعد الأسد. سيرجي لافروف رئيس الدبلوماسية أعطى بعض الإشارات تفيد بتجاوبه مع الغزل الأمريكي عندما قال إن بلاده ستدعّم تنحّي الرئيس الاسد (إذا) وافق أو توافق السوريون على ذلك، لكنه أكّد أيضا أن بلاده تعارض التدخّل العسكري الخارجي وتغيير النّظام بالقوّة. آفاق الحلّ على الطريقة اليمنية في سوريا تبدو مغرية من النّاحية النّظرية وصعبة من النّاحية العملية لعدّة اسباب: أوّلا: المبادرة الخليجية في اليمن نجحت لأن الرئيس علي عبد اللّه صالح قبل بها أوّلا، ولأن النّظام الذي يرأسه موال في الأساس للولايات المتّحدة والغرب ويخوض حربا باسمهما ضد تنظيم القاعدة، بينما النّظام السوري ليس كذلك، كما أنه لا يوجد أيّ مؤشّر على أن الرئيس بشار الأسد مستعدّ للرّحيل. ثانيا: روسيا والصّين خسرتا نظامين حليفين نفطيين هما العراق وليبيا، وقبلهما خسرت روسيا نظاما شيوعيا في أفغانستان، وهما قطعا غير مستعدّتين لخسارة سورية المجاورة لتركيا والقاعدة الأساسية على البحر المتوسط. ثالثا: غالبية الشعب اليمني كانت خلف الثورة بما في ذلك قبيلة الرئيس (حاشد)، بينما الشعب السوري منقسم، فثلث الشعب يؤيّد الحكم وثلثه الآخر يعارضه والثلث الباقي في الوسط لم يقرّر بعد، حسب ما جاء في افتتاحية لصحيفة (الغارديان) البريطانية، والأهمّ من ذلك أن الجيش السوري لم ينقسم بالطريقة التي انقسم بها الجيش اليمني، وإن كان هناك بعض الانشقاقات المحدودة ودون أسلحة ثقيلة، وطائفة الرئيس العلوية ما زالت في معظمها تدعّم النّظام إلى جانب بعض الأقلّيات الطائفية الأخرى، ونسبة كبيرة من الطبقة الوسطى (التجّار والمهنيون والكفاءات العلمية). رابعا: وعلى افتراض أن الأسد قبل بالتنحّي، فهل ستسمح له المؤسستان الأمنية والعسكرية ومن ثَمّ الدائرة الضيّقة في سلطة باتّخاذ القرار بالرّحيل بعد كلّ هذه الخسائر، ولكي يواجهوا مصيرا قد لا يختلف عن مصير رجالات القذافي ومن قبله صدام حسين؟ ' ' ' باختصار شديد يمكن القول إن فرص الحلّ اليمني تبدو محدودة، وقد يتغيّر هذا الوضع إذا انهار الجيش السوري ووصل الرئيس الأسد إلى قناعة بأن حلوله الأمنية فشلت بالكامل والخناق ضاق عليه وبات يبحث عن طوق نجاة. لا توجد أيّ مؤشّرات في الوقت الرّاهن على قرب النّظام من الاعتراف بالهزيمة، لذلك قد تكون تلميحات الرّوس بالتخلّي عن الأسد مجرّد مناورات دبلوماسية. فروسيا التي تراجعت صورتها في المنطقة بعد تخلّيها عن حليفيها الرئيسيين صدام حسين ومعمّر القذافي، قد تظلّ تدعّم نظام الرئيس الأسد وبقاءه في الحكم لأطول فترة ممكنة، وعلينا أن نتوقّع حربا استنزافية طائفية طويلة الأمد تفرز مجازر جديدة ويكون الشعب السوري ضحّيتها، لكنه سينتصر في نهاية المطاف، وعلينا أن لا ننسى أن النّظام الماركسي الأفغاني سقط رغم الوجود الرّوسي العسكري الداعم له على الأرض إلاّ إذا قلب الرّوس المعادلة وكلّ الاحتمالات غير مستبعدة. * من الواضح أن حسم الأزمة السورية بالخيار العسكري بات غير ممكن، فالحلول الأمنية التي طبّقها النّظام طوال الأشهر الماضية فشلت في إنهاء الانتفاضة، وخيار التدخّل العسكري الخارجي الذي طالبت به بعض فصائل المعارضة وتمنّته الجامعة العربية ليس مطروحا على الطاولة، وتسليح الجيش السوري الحرّ قد يمكّنه من استنزاف النّظام لكنه وبسبب فارق القوى لن يمكّنه من إسقاطه في منظور المستقبل القريب. * المبادرة الخليجية في اليمن نجحت لأن الرئيس علي عبد اللّه صالح قبل بها أوّلا، ولأن النّظام الذي يرأسه موال في الأساس للولايات المتّحدة والغرب ويخوض حربا باسمهما ضد تنظيم القاعدة، بينما النّظام السوري ليس كذلك، كما أنه لا يوجد أيّ مؤشّر على أن الرئيس بشار الأسد مستعدّ للرّحيل.