بمناسبة احتضان العاصمة الإنجليزية لندن فعاليات الألعاب الأولمبية 2012 ارتيانا وعلى مدار عدّة حلقات أن نقدّم لكم تاريخ الأولمبياد من العصور الغابرة، عصور الفينيقيين واليونانيين إلى العصر الحاضر. فالحديث عن الألعاب الأولمبية حديث عن الأزمنة الغابرة، زمن الفلاسفة في بلاد الفينيقيين والإغريق، زمن سنعود من خلاله بكم إلى ألف وخمسمائة عام قبل الميلاد وسنسافر سويا إلى قرون طويلة خلت، عصر التاريخ الإغريقي مع حكايات متعدّدة حول الآلهة والأبطال، كلّ منها يرجع الأصل التكويني فيها للألعاب إلى إله معيّن أو مقاطعة معيّنة. لذا لا تاريخ محدّد يمكننا الاستناد إليه حتى الآن، بل مجموعة من الأقاصيص يرجّح بعضها على الآخر، إلاّ أن المعترف والمقرّ به حول البداية المكتوبة الأولى للألعاب تعود إلى العام 776 قبل الميلاد حين اجتمع ملوك اليونان واستشاروا كهنة المعابد فكان أن أطلقوا الألعاب التي كانت تتّخذ قبل ذلك التاريخ أبعادا دينية وروحية. فما أجمل حكاية (الأولمبياد) حكايات وحكايات، أجمل من حكاية ألف ليلة وليلى، وفي كلّ ليلة، عفوا في كلّ حلقة، سنسافر بكم بعيدا بعيدا وسنترك زمننا الحاضر ومتاعبه اليومية وما كثرها في هذا الزمن التي تنعدم فيه القيم الأخلاقية، سنسافر في كلّ حلقة من حلقات حكايات الأولمبياد إلى عالم، عفوا إلى أكثر من زمن، وفي كلّ زمن سنروي لكم حكاية ألف ليلة وليلى، عفوا مرّة أخرى، حكاية الأولمبياد. وحتى لا نطيل عليكم في الحكاية أكثر لنتوكّل على اللّه ونطير بكم إلى زمن الإغريق ونحطّ بكم في مدينة اسمها أولمبيا. ترى أين تقع هذه المدينة؟ وما سرّ توجهنا إليها في أوّل رحلة لنا من رحلاتنا المكّوكية؟ هذا ما سنتعرّف عليه حالا. مدينة أولمبيا تقع مدينة أولمبيا بأرض الإغريق اليونان حاليا، كانت مركّزا للعبادة، وفي سنة 776 قبل الميلاد أقيمت أوّل دورة أولمبية بنظامها القديم، ومن مدينة أولمبيا اشتقّت تسمية الأولمبياد أو الألعاب الأولمبية، وكانت تقام كلّ 4 أعوام وتدوم لمدّة 7 أيّام تحت إشراف زوس كبير آلهة اليونان وزوجته هيرا. الأولمبياد القديمة الإغريق أخذوا الألعاب الأولمبية عن الفينيقيين سكان الساحل الشرقي للبحر المتوسط هواة الهجرة والترحال الذين بنوا أوّل ملعب في العالم ومزجوا بين الرياضة وإقامة الطقوس الوثنية، أي الاحتفال بمهرجانات عقائدية ورياضية معاً. كان الإغريق يقيمونها في أولمبيا دائما، ومرّة كلّ أربع سنوات. والغريب أن البرنامج الرياضي لألعاب الأولمبية القديمة لم يكن يتضمّن سوى سباق واحد، وكان سباق جري بطول الملعب وكان طوله 192 متر و27 سنتيمترا وكان أوّل فائز أولمبي هو كوربوس الذي كان طاهيا من ولاية إيلليس، وبمرور الأيّام والأعوام أضافوا مسابقات أخرى إلى الملعب ممّا اضطرّهم إلى مدّ فترة المهرجان الرياضي الديني إلى خمسة أيّام. كانت ثابتة الموعد عندما يكتمل القمر في شهر جويلية لم تشترك النّساء في الألعاب الأولمبية عام 1896 لأنها كانت محرّمة عليهن وممنوعة، فكانت الرياضة مقتصرة على الرجال الذين كانوا يتبارون عراة، وأوّل مرّة اشتركت المرأة في الدورة الثانية عام 1900 في باريس. الألعاب الأولمبية أشهر الدورات الرياضية في التاريخ القديم تعتبر الألعاب الأولمبية أشهر الدورات الرياضية في التاريخ القديم، ويعتقد أن هرقل أنشأ 6 رياضات. بلغ عدد المباريات في القرن الخامس قبل الميلاد 13 مباراة، 10 منها للكبار والباقي للأولاد، الرياضات العشر هي: 4 سباقات مختلفة في العدو، المصارعة، الملاكمة، سباق الخيول، سباق العربات والخماسي، أمّا بالنّسبة للرياضات الثلاث للأولاد فهي: العدو والمصارعة، الملاكمة، كرة القدم وكرة اليد، كرة الطائرة، وكلّ هذه الرياضات تندرج تحت الألعاب الأولمبية. اللّجنة الأولمبية الدولية ما يجب أن يكون على دراية به القارئ هو أن الألعاب الأولمبية لم تكن قبل تبلورها فيما بعد المهرجانات الوحيدة التي نظّمها اليونانيون، فالعديد من الاحتفالات والتجمّعات الأخرى كانت تقام منها المهرجانات البوثية وهي ذكرى قهر الإله أبولون لثعبان بيثون والمهرجانات الإثيمية تكريما لإله البحر والمهرجانات النيمية تكريما لابن ملك قتله ثعبان والمهرجانات الإليوسية نسبة إلى مدينة إليوسيس، لكن أيّا من هذه المهرجانات لم يسطع نورها على النّور الأولمبي، غير أنه يمكن القول إنها شكّلت تعاقبا أفضى في النّهاية إلى ولادة فكرة الألعاب الأولمبية، أي تطوّر فكري مراحلي عبر الزمن. اجتمعت أهداف شتى حول نشأة تلك الألعاب من أبرزها إضافة إلى تمجيد الآلهة أن حكّام بلاد الإغريق التي كانت مقسّمة إلى ولايات متحاربة ذات استقلال سياسي واقتصادي وجدوا في فكرة الألعاب ضالّتهم المنشودة من أجل لمّ شمل المقاطعات الإغريقية وإعلان الهدنة ووقف الاقتتال، فكان ذلك المهرجان الرياضي الذي دأب اليونانيون على إقامته كلّ أربعة أعوام، وهذه الأعوام أطلق عليها اسم أولمبياد، وهي كانت بمثابة مقياس زمني لدى قدماء اليونان فكان الزمن يقاس بالأولمبياد وليس بالسنين، ويرمز الأولمبياد إلى الفترة التي انقضت بين دورتين متتاليتين. الاحتفالات كانت تقام على جبل أولمبيا المقدّس كانت الاحتفالات تقام على جبل أولمبيا المقدس عند قدماء اليونان غرب جزيرة بيلوبونيسس في ستاد ضخم يتّسع لأربعين ألف متفرّج، حوله مبان شيّدت تباعا استعملها الرياضيون للتدريب والحكّام مقارا لهم، وخلالها كان يعمّ الإخاء بين اليونانيين فيتوافدون بأعداد كبيرة للمشاركة في الحدث الجلل الذي كانت له أبعاد أخرى أبرزها تكريم كبير الآلهة زوس. ولم يكن الحضور يقتصر على أبناء الإغريق المقيمين، بل أيضا المنتشرّين في أماكن بعيدة، كما لم تكن النشاطات رياضية فقط، بل تتعدّاها إلى دينية وثقافية وفلسفية وخلالها تعلن الهدنة ويتوقّف الاقتتال لفترة تصاعدت تدريجيا مع السنين حتى بلغت من الشهور ثلاثة، منها شهر يسبق بدء الألعاب وذلك إفساحا في المجال للإعداد لها. هدنة مقدّسة لم يكن مسموحا أثناء سير الألعاب أن يحدث أيّ اقتتال، بل كانت الهدنة إلزامية مقدّسة وشاملة وكان يعاقب كلّ من يحاول عرقلة سير الألعاب أو إعاقة وافدين للمشاركة، ففي ذلك تجاوز إلهي، كما ألغيت الخوات التي كانت دويلات اليونان تفرضها على عابري السبيل في أراضيها فنتج أمان واستقرار نعمت بهما شعوب الإغريق الأمر الذي سمح لها بتقديم وإبراز حضارة عريقة للعالم تبلورت مع السنين فكانوا السبّاقين بأفكار خلاّقة مبدعة سبقت شعوب العالم ومهّدت بعدها لألعاب التاريخ الحديث. شغف اليونانيون بالمهرجان الرياضي ليس وليد الصدفة شغف اليونانيون بالمهرجان الرياضي ليس وليد الصدفة، فذاك الشعب آمن بأن بناء الكيان والوطن يكون ببناء الجسد وترويضه وتعويده على الكفاح والصبر والجلد والتحمّل وإكسابه القوّة والصلابة لحماية أرضه، فارتبطت الرياضة بمفهوم التربية لديهم ودخلت في مبادئ إعداد النشء، وممّا زاد من ولعهم تغليفها بغطاء ديني فكان الرياضي الذي يفوز يرجع نصره لفضل من الإله أو الآلهة، وهذا الأمر كان ذو شأن عظيم، بل لا يوجد ما هو أعظم من حياة القداسة وعبادة الآلهة في معتقداتهم، لذا اختلط الدين بالرياضة وكان التمازج المقدّس الذي أثمر الهدن المقدّسة، فما من شيء أسمى من الدين لدى شعوب الإغريق. من يوم واحد إلى خمسة أيّام شهدت الألعاب بعد ولادتها تغييرات عدّة فكانت في البداية تقام ليوم واحد ثمّ أصبحت تجري على مدار خمسة أيّام بعد أن ذاع صيتها فزاد المقبلون على المشاركة من اليونانيين المغتربين في مناطق بعيدة مثل إيطاليا وسواحل إفريقيا، واشتملت مسابقاتها الرياضية التي زادت تدريجيا على الجري ورمي القرص والرمح وسباق الأحصنة والعربات والمصارعة وسباق الدروع، وكلّ ذلك في إطار ديني خصوصا تمجيدا للإله زوس. ويذكر أنه لم يكن مسموحا للمرأة أن تحضر المنافسات، خاصّة وأن بعض الرياضات كالمصارعة تجري بين رياضيين عراة، لكن يردّ الذّكر في بعض الرّوايات أن امرأة وحيدة استطاعت متنكّرة حضور الاحتفالات وكانت أمّا لأحد الأبطال، لم تعاقب نظرا لأن العديد من أفراد عائلتها أبطالا وللبطل مكانة عظيمة لا تمسّ. صفات المشاركين في الأولمبياد أمّا المشاركون الذين كان يسمح لهم بخوض المسابقات فعليهم أن يتحلّوا ببعض الصفات، أبرزها أن يكون الرياضي حرّا، أي غير عبد، أمضى عشرة أشهر في التدريب قبل الاشتراك، بالغ السنّ ويتمتّع بسيرة حسنة وسلوك حميد بين أوساط شعبه، وأن يكون عضوا في المجتمع السياسي فذلك يزيد من مكانته. كما يفترض بالمشارك أن يتعهّد بعدم خرق الهدنة المقدّسة تحت أيّ سبب كان، لكن وبصورة عامّة كان هنالك أحيانا بعض الاستثناءات من ناحية المشاركين تمنح في أطر معيّنة يؤذن لها من السلطات. وكان يحضر المشارك إلى مكان الألعاب قبل شهر من بدايتها، حيث يخضع لفحوص تشمل التأكّد من جذوره اليونانية ومن توافر سائر الشروط فيه، وطبعا لم تكن المرأة مخوّلة بالاشتراك. تنظيم مذهل ما زاد الألعاب تميّزا التنظيم العالي والشاقّ الذي دمغها، فكانت الوفود تأتي بأعداد كبيرة جدّا تضمّ خيرة رجالات الولاية من حكّام ورياضيين ومفكّرين وفلاسفة وكهنة وساسة ونبلاء، وكان لكلّ وفد تراتبيته الهرمية والتنظيمية وكان للقضاة المختارين من أهل مدينة إليس (أولمبيا تقع في ولاية إليس) وفقا لاتّفاقية الهدنة بين الدويلات لباسهم الخاص الذي يميّزهم، وكان يحرم كلّ رياضي يغشّ من المشاركة مدى الحياة إضافة إلى غرامة مالية كبيرة توظّف لبناء تماثيل، وكانت الوفود تنطلق قبل ثلاثة أيّام من بدء الألعاب من مدينة إليس باتجاه أولمبيا ويترأس الموكب الكبير ملك إليس وحكّامها. البرنامج الأولمبي تستكمل الحلقات التنظيمية لتشتمل على البرنامج الأولمبي المعدّ سلفا والموزع على خمسة أيّام، فكان يجري في اليوم الأوّل الطقوس الدينية المتنوّعة والصلوات واستعراض القضاة وتقديم الهدايا للمعبد والقسم الرياضي، وفي اليوم الثاني تبدأ المنافسات منذ الصباح وتقام مسابقات الملاكمة والجري لمسافات مختلفة، مثل عدو الجمنازيوم مرّة أو اثنتين أو أربع... (طول الجمنازيوم 192م) والمصارعة، وفي اليوم الثالث سباقات العربات والخيول ومسابقة البنتاتلون، وتشمل رمي الرّمح ورمي القرص والوثب والجري والمصارعة، أمّا في اليوم الرّابع فتقام فيه احتفالات دينية لأنه يتزامن مع اكتمال القمر وتقام مسابقات عدو لمسافات متنوّعة وملاكمة واختبارات للقوّة عبارة عن نزالات شرسة للغاية دون السماح بالقتل، وفي اليوم الأخير ابتهالات دينية وتقديم قرابين للإله زوس. جوائز الأولمبياد أمّا الجوائز فبعد أن كانت تفّاحة في البداية باتت غصن زيتون على شكل إكليل يوضع على رأس الفائز، إضافة إلى امتيازات شرفية عوضا عن احتفالات الولاية بأبطالها وتمجيدهم لدرجة تفوق الوصف، حيث أن الفوز كان أقصى وأشرف ما يمكن تحقيقه عند اليونان الذين استطاعوا تنظيم 293 دورة أولمبية على مدار 1169 عام، منذ سنة 776 ق.م حتى سنة 393 ب.م تاريخ توقيف هذه الألعاب على يد الإمبراطور الروماني ثيودوس بعد أن سيطر الرومان على اليونان. وقد اعتبر، أي الإمبراطور، هذه المهرجانات عادات وثنية منهيا تاريخا عريقا من الحضارة والتميّز بقي مدفونا حتى جاء البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان وبعثه مستلهما منه البعد الإنساني والأخلاقي والوحدوي. قيم حيّة لكلّ زمن ما يستوقف في هذا الجزء من حضارة اليونان الغنية والدسمة أفق الرؤية النيّر والواضح والعميق لدى هذا الشعب، فعلى الرغم من الحروب الدائمة والكبيرة وجدت إسبرطا وأثينا وطيبة وغيرها من الولايات ما يسمون به عن القتال، وإن كان بإطار وثني آنذاك، لكن خلاصات تجارب اليونان هي قيم حيّة لكلّ زمن، مثل الشرف والنّزاهة واحترام القوانين والنبل والولاء والتربية الجسدية الرياضية وغيرها، كلّها أمور ننادي بها دوما، وقد نادوا بها منذ مئات الأعوام وخير دليل على هذا الكلام أن تلك الألعاب شكّلت الأرضية لأفكار كوبرتان بعد أكثر من ألف وخمسمائة عام على توقّفها. تطالعون في الحلقة الثانية: الألعاب الأولمبية تُبعث من اليونان بنفس فرنسي، آمن بمثلها البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان. ترى من هو هذا الرجل؟ الإجابة تجدونها في حلقة يوم غد، وإضافة إلى كلّ هذا ستجدون الكثير من أسرار الأيّام الأولى من الأولمبياد الحديثة، وإلى أن نلتقي في الحلقة الثانية، دمتم في رعاية اللّه وحفظه.