بقلم: الدكتور عبد الحميد الأنصاري اعتمد أوباما سياسة التقرب من العالم الإسلامي عبر 3 محاور: الأول، بدأ زيارته للسعودية قائلاً: جئت إلى مهد الإسلام طلباً للمشورة قبل أن أخاطب العالم الإسلامي، الثاني: أطلق سراح معتقلين في غوانتنامو ووعد بإغلاقه ومنع المحاكمات العسكرية، الثالث: قامت إدارة أوباما بعملية فرز للإسلاميين المعتدلين عن المتطرفين فحاور المعتدلين منهم في أفغانستان وتودد إلى جماعة (الإخوان) بمصر. الاحتجاجات العنيفة التي عمت العالم الإسلامي واستهدفت المصالح الأمريكية احتجاجاً على الفيلم المسيء تشكل أول اختبار لعلاقة أمريكا بالقوى الإسلامية الصاعدة في زمن الربيع العربي والتي قامت واشنطن بدعمها وبالذات جماعة (الإخوان) بمصر، كانت هذه الاحتجاجات هي الأعنف في تاريخ علاقة أمريكا بالمسلمين، بلغ من عنفها أن قتل السفير الأمريكي نصير الثورة و3 من معاونيه في الهجوم على القنصلية الأمريكية ببنغازي، وتعرضت السفارات الأمريكية في العديد من الدول الحليفة لواشنطن لاعتداءات، وتم إحراق الأعلام الأمريكية ورفع أعلام (القاعدة) السوداء، وترديد هتافات التنديد بأمريكا والرئيس أوباما وإحراق صوره والمطالبة بمقاطعة البضائع الأمريكية وأحرقت مطاعم للوجبات السريعة في لبنان، وتحولت التظاهرات التي استمرت أياماً عديدة إلى اشتباكات دموية سقط فيها المئات من القتلى والجرحى، في باكستان وحدها سقط أكثر من 50 قتيلاً وجريحاً وتم إحراق 4 دور سينما. شكلت هذه الاحتجاجات إحراجاً كبيراً لإدارة أوباما الذي اضطر للتحرك والتدخل للضغط على حلفائه الإسلاميين الجدد- مخالفاً بذلك مبدأه بعدم التدخل والضغط- غاضباً ومعنفاً تقاعسهم في حماية المصالح الأمريكية في بلادهم، فاتصل بالرئيس مرسي وبالآخرين طالباً دعمهم وتحركهم، وهو ما حصل عليه سريعاً، إذ سحب (الإخوان) دعوتهم للمليونية، وتم تشديد الإجراءات الأمنية وإقامة الحواجز الإسمنتية لحماية السفارة الأمريكية، وقبض على المتورطين في أعمال العنف، وقام الرئيس المصري وقادة (الإخوان) في مصر والمنطقة العربية بحملة إعلامية لترشيد الغضب الجماهيري واستنكار أعمال العنف ومطالبة المحتجين بأن يكون ردهم حضارياً مع ترديد القول إن أمريكا لا تتحمل مسؤولية الفيلم المسيء، ومثل ذلك حصل في ليبيا التي انتفضت على المتشددين واعتقلت 50 متهماً بالتورط في الهجوم على القنصلية، وفي تونس تم حظر المظاهرات، وفي اليمن تم تشديد الإجراءات. كانت صدمة الأمريكيين كبيرة تجاه ردود الأفعال العنيفة في دول ساهموا في تحريرها من أنظمتها السابقة، وللمرء أن يعجب حصول ما حصل في بلد يعد الأقوى تحالفاً مع أمريكا أن يهب المئات من الكويتيين الغاضبين بمشاركة نواب للتظاهر أمام السفارة الأمريكية والتنديد بأمريكا، ومطالبتها بتقديم اعتذار رسمي ثم محاولة البعض اقتحام السفارة، فيما ردد آخرون (يا أوباما كلنا أسامة) ويأتي النائب محمد هايف محرضاً المتظاهرين قائلاً (صداقة أمريكا تحت نعالنا حينما يساء لنبينا)، من كان يتصور هذه الكراهية العميقة المخزونة ضد أمريكا في بلد لولا أمريكا- بعد عون الله تعالى- ما تحررت من أبشع احتلال عرفه التاريخ؟! أصداء الاحتجاجات انعكست على الساحة الأمريكية في سياق الصراع المحتدم على الرئاسة واستغلها خصوم أوباما لانتقاد سياسته الداعمة للإسلاميين، وبيان أنها لم تنجح في تخفيف حدة العداء والكراهية لأمريكا، ولم تنجح في تصحيح صورة أمريكا لدى المسلمين، ورأى هؤلاء أن أوباما اليوم يدفع ثمن رهاناته على الإسلاميين، وتساءل أنصار رومني: لماذا سيدي الرئيس أوباما دعوت جماعة (الإخوان) إلى البيت الأبيض ومنحت الشرعية لجماعة تريد تدمير أمريكا؟ وكيف تدفع لهم 1.5 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب؟ وتساءلت صحف بمناسبة الذكرى ال11 لأحداث سبتمبر: لماذا ندعم جماعة (الإخوان) وكبار قادتهم مازالوا ينكرون مسؤولية (القاعدة) عن الهجمات ويتهمون اليهود أو الاستخبارات الأمريكية بافتعالها؟ وأعادت إلى الأذهان إعلان الرئيس مرسي عام 2007 أن أمريكا لم تقدم دليلاً على هوية من ارتكب الهجوم! وظهرت تساؤلات: هل تغير واشنطن سياسة دعمها لجماعة الإسلام السياسي؟ وحمل الكاتب مارك تيسين في (واشنطن بوست)، أوباما المسؤولية، موضحاً أن عجز أوباما عن القيادة بسبب تردده وتخاذله هو السبب الحقيقي للاضطرابات في الشرق الأوسط، في المقابل نشطت الإدارة الأمريكية والكتاب والسياسيون المناصرون للحزب الديمقراطي في التقليل من حجم الاحتجاجات، والقول إنها غير مؤثرة في علاقات أمريكا بالمنطقة، وحاولوا إقناع الأمريكيين أن هذه الاحتجاجات موجهة ضد الفيلم المسيء وليست ضد السياسة الأمريكية بالمنطقة، فقال أوباما: إن الجموع الغاضبة لم تقتل سفيرنا في بنغازي! وقالت كلينتون: ما حدث كان نتيجة لفيديو بشع وزع على نطاق واسع، ودافع فريد زكريا عن الإسلاميين المعتدلين وأشاد بالرئيس المصري الذي أدان أعمال العنف ومارس مسؤوليته كرئيس قائلاً: (علينا أن نتذكر أنه - أي الرئيس المصري- يقود أقوى حركة سياسية إسلامية بالمنطقة، وهي أكثر قدرة على إقناع المصريين والمسلمين في كل مكان بأن التسامح ينبغي أن يظهر كقيمة إسلامية أساسية)، ونوه بأساليب تعامل حكومات الربيع العربي مع المتظاهرين، حيث إنها تصغي لشعوبها وتوجهها بخلاف الأنظمة السابقة التي كانت تفرق المتظاهرين بالغاز والرصاص، كما دافع الصحافي برنار غوتا في صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية عن سياسة أوباما في الانفتاح على الإسلاميين والربيع العربي، وقال إنها ساهمت في خفض مستوى العداء لأمريكا! الآن دعونا من هذا الجدل الانتخابي المحتدم حول صورة أمريكا في العالم الإسلامي ولنتساءل- بحياد- هل نجح أوباما في تصحيح صورة أمريكا لدى المسلمين؟ وهل استطاع كسب قلوبهم؟ وهل تغيرت صورة أمريكا في الخيال العربي؟ وهل استعاد صورة أمريكا المشرقة وهو الذي نذر نفسه لها؟ لقد جاء أوباما إلى الحكم 2009 وعلى رأس أولوياته، استعادة صورة أمريكا في العالم الإسلامي وتصحيح علاقاتها بالمسلمين انطلاقاً من أن تحسين الصورة الأمريكية في أعين المسلمين هو أقوى الموانع تجاه ثقافة الكراهية وأعمال العنف التي تستهدف المصالح الأمريكية في المنطقة، ومن أول يوم عمل أوباما على سياسة تناقض سياسة سلفه بوش الابن القائمة على فرض الديمقراطية في الشرق الأوسط طوعاً أو كرهاً. اعتمد أوباما سياسة التقرب من العالم الإسلامي عبر 3 محاور: الأول، بدأ زيارته للسعودية قائلاً: جئت إلى مهد الإسلام طلباً للمشورة قبل أن أخاطب العالم الإسلامي، وذهب إلى مصر ليلقي خطابه الشهير من منبر جامعة القاهرة- يونيو2009 _ وفيه خاطب المسلمين في كل مكان بقلب مفتوح ويد ممدودة، مؤكداً اعتزازه بالإسلام كدين قدم للبشرية مبادئ وقيماً عليا، وأن الحضارة المعاصرة مدينة للإسلام، وامتدح المسلمين الأمريكيين لأنهم حيويون وقال: إنما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وتجنب استخدام كلمة (الإرهاب) مخالفاً سلفه واستخدم كلمة (التطرف العنيف) وجعله من مسؤولية دوله كل يعالجه بأسلوبه، كما قال إن أمريكا لن تتدخل لتفرض الديمقراطية، فالشعوب أدرى بمصالحها. الثاني: أطلق سراح معتقلين في غوانتنامو ووعد بإغلاقه ومنع المحاكمات العسكرية واستنكر أساليب التعذيب ونفذ تعهده بالانسحاب من العراق وخفض القوات في الخارج. الثالث: قامت إدارة أوباما بعملية فرز للإسلاميين المعتدلين عن المتطرفين فحاور المعتدلين منهم في أفغانستان وتودد إلى جماعة (الإخوان) بمصر بعد غزل طويل ووسطاء كثر، فأقنعوه أو حاولوا إقناعه بأنهم (الإسلام الوسطي المعتدل) وبإمكانهم- إذا دعمتهم الإدارة الأمريكية- أن يعينوها على تصحيح صورة أمريكا لدى المسلمين، مع حماية مصالحها في المنطقة، كما أنهم المؤهلون القادرون على كبح جماح المتشددين من الإسلاميين الذين يزرعون الكراهية لأمريكا في نفوس المسلمين، كما بينوا أن الدعم الأمريكي للأنظمة السابقة المستبدة وللجماعات الليبرالية والعلمانية هو الذي أفرز التطرف العنيف الذي استهدف المصالح الأمريكية في المنطقة وشوه صورة أمريكا! ختاماً: مع تقديرنا لجهود أوباما إلا أن عنف الاحتجاجات يثبت بجلاء أن صورة أمريكا مازالت في نفوس المسلمين غير إيجابية، وأن مخزون الكراهية مازال هائلاً، ويبدو أن أوباما بحاجة إلى مزيد من المراجعة لسياسته في المنطقة.