العلامة ابن خلدون أحد نجباء الحضارة الإسلامية، كانت له جهود غير مسبوقة أسست علم الاجتماع، وكان رحالة من الطراز الأول، وطاف مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكتب وصفاً دقيقاً لمشاهداته ووضع بدايات نظرياته المبهرة حول بناء الدولة وأطوارها وقوانين العمران قبل الغرب بقرون. ولد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون، المعروف بابن خلدون في تونس عام 732ه، لأسرة عربية معروفة بالعلم والصلاح يصل نسبُها إلى الصحابي وائل بن حجر، نزحت من الأندلس إلى تونس في منتصف القرن السابع الهجري، وشغل جده العديد من المناصب السياسية والدينية في الأندلس وتونس أيام دولة الحفصيين، وقضى أغلب مراحل حياته في تونس، وتعلم صغيراً على يد والده العالم في علوم العربية والأدب والشريعة، وحفظ القرآن الكريم، وعمل في مقتبل حياته كاتباً لأمير تونس أبي إسحاق الحفصي، ولم يرض ذلك طموحه، فرحل إلى مراكش واتصل بسلطانها أبي عنان المريني فأصبح أميناً لسره سنة 1356، وراسل أبا عبد الله الحفصي أمير بجاية المسجون في فاس، ولما كشفت اتصالاته زُجَّ به في السجن. المقدمة وأطلق سراحَه الوزيرُ حسن بن عمر، وانضم إلى الأمير المنصور بن سليمان وحارب تحت رايته، ثم ما لبث أن انقلب على المنصور وحرض القبائل على محاربته والانضمام إلى خصمه أبي سالم، الذي انتصر فأولى ابن خلدون أمانة سر الدولة غير أنه تغير عليه، فاتفق ابن خلدون مع أحد الوزراء السابقين وتمكَّنا من خلعه، ولكن الوزير استأثر بالوزارة، وخرج ابن خلدون غاضباً إلى غرناطة، حيث عاش مدة في بلاط ملكها ابن الأحمر في سنة 776ه،1374م، ولم يطل به المقام بها، إذ حنق عليه بنو الأحمر لمشايعته لوزيرهم السابق المغضوب عليه لسان الدين بن الخطيب، فاضطر إلى العودة إلى تونس، حيث اعتزل السياسة وتفرغ للإنتاج العلمي، وعزل نفسه في قلعة أولاد سلامة لمدة أربع سنوات ألف خلالها مقدمته المشهورة، وحدثت جفوة بينه وصديقه مفتي تونس فأوغر صدر السلطان عليه، ولم يلبث أن غادر تونس متوجهاً إلى القاهرة عام 784ه-1382م، وقد كانت المركز الإسلامي الأول في ذلك الوقت، ثم زار الأماكن المقدسة في الحجاز وعاد إلى القاهرة ثانية، وكانت شهرته قد سبقته، فشرع يدرِّس في الأزهر، ثم عيِّن أستاذاً للفقه المالكي، وقاضياً للمذهب، وتسبب تشدده في إثارة الناس عليه فعُزل. وفي عام 1400م، رافق الحملة المصرية لمحاربة تيمورلنك في الشام، وأُرسل للتفاوض مع عدد من الدول لعقد اتفاقات للتصالح، ولما عاد تولى القضاء مرة أخرى، ولكنه ما لبث أن عُزل وعيِّن منافسُه الفقيه البساطي، وكان كل منها يتولى المنصب بضعة أشهر حتى مات ابن خلدون عام 1406 وهو في منصبه للمرة السادسة. التعريفات وخلّف ابن خلدون، إلى جانب كتابه الضخم ديوان العبر ومقدمته المشهورة، مصنفاً أرخ فيه رحلاته وسماه (رحلة ابن خلدون) وأطلق عليها اسم (التعريفات بابن خلدون) وهو يوميات كان يدونها يوماً فيوماً، وكتب في بدايته ترجمة له وتاريخ أجداده، وسجل ما عاناه في حياته ورحلاته في المشرق والمغرب، وتتضمن هذه المذكرات مراسلات وقصائد نظمها، وتنتهي حوادث هذه المذكرات سنة 807ه، أي قبل وفاته بعام واحد. وكان المحققون يعتبرون رحلة ابن خلدون جزءاً من كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر) وظل هذا الاعتقاد سائداً طوال قرون إلى أن قام العالم المغربي محمد بن تاويت الطنجي بتحقيقه ومقابلة مخطوطاته والتعليق على هوامشه في عام 1951، فظهر مستقلاً، وتضمنت أسفاره قسمين، الأول يضم رحلاته في بلاد المغرب، والثاني رحلته المشرقية. كما ضم رسائله التي كتبها أثناء تنقله وسفره المتواصل في أمصار المغرب والأندلس والمشرق العربي. ولم يتوقف ابن خلدون عن تنقيحه والإضافة إليه إلا في أيامه الأخيرة. كما ذكر فيه أيضاً أخبار توليه المناصب وعزله عنها والأدوار السياسية التي لعبها. وشرح في كتابه رحلته إلى فاس، ضمن الحملة العسكرية التي جردها السلطان أبو إسحاق والتي امتدت من المغرب الأوسط (الجزائر حالياً) إلى المغرب الأقصى، واستغرقت حوالي سنتين كاملتين، تنقل خلالها بين مدن عدة وبوادي وعاشر القبائل وعرف الشيوخ، وسجل معايشته للبدو في واقعهم، وكتب عن طبائعهم ومناحي سلوكهم، وأوضاع المغرب السياسية والاقتصادية، ودوره في تفعيل الحياة الثقافية بالمغرب الأوسط. وذكر العلماء والفقهاء والأدباء الذين اتصل بهم من أهل المغرب ومن أهل الأندلس الوافدين للسفارة.