بقلم: الدكتور إبراهيم التركاوي مما لاشك فيه أن الناس تتباين نفوسها، وتختلف مواقفها، وتكشف السراء والضراء عن حقيقة معادنها..، فمنهم مَن تسفر الأيام وتقلبها عن طيب معدنه وأصله، ومنهم مَن تسفر عن خبث معدنه ونكده..! وهذا ما نجد تفسيره واضحًا في القرآن الكريم: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون) [الأعراف، الآية : 58]. ولقد وجدنا - في دنيا الواقع - من الناس مَن يقوده هواه لا عقله، وتحركه شهوته لا إرادته، ويؤثر مصلحته على مصلحة أمته، فلا يطوف إلا حول ذاته ولا يرى غيرها، ولا ينشط إلا لها، ولا يهمه في الحياة إلا إشباع غرائزه، وإرضاء نزواته، فعلى هذا يحيا وفي سبيل ذلك يخاصم ويفجر، ويخون ويغدر، ويخرب ويهدم، ويفسد ويهلك.. فلا يسره أن يرى حوله شيئًا قائمًا، ولا يرضيه إلا أن يكون خرابًا دائمًا..! والعجيب، أننا نراه من وراء أنانيته يدّعي الإصلاح والبناء، ويقسم بأنه لا يريد للناس إلا الخير والتقدم والرخاء، وكيف لا؟ فهو - في زعمه - ربان سفينة الإنقاذ، والداعى إلى حرية الأديان، والراعي لحقوق الناس، وكرامة الإنسان! وقد يُعجب قولُه بعضَ الناس، وينطلي عليهم قسمُه وادعاؤه.. بيد أنه لا يخفى على من عرف حقيقته، وقرأ في ضوء القرآن واقعه. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة، الآية :204 - 206]. كما وجدنا - في المقابل - في دنيا الواقع، من الناس مَن قدم نفسه فداء لأمته، يسهر من أجلها، ويتفانى في خدمتها، قد نسى حظ نفسه لتكتمل حظوظ أمته، فهو لا ينام إلا على راحتها، ولا يستيقظ إلا على سعادتها، ولا يهنأ له بال إلا بتقدمها.. يفرح لفرحها ويسعد لسعادتها، وينجح لنجاحها، وينشد لها الخير، وإن لم يصبه منه شيء، شأنه في ذلك كشأن (ابن عباس)، وقد تطاول عليه رجل، فقال له: أتشتمنى وفي ثلاث: (إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال، إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به من سائمة). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد 9 - 287): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. هذا الطراز الفريد من الناس، قد جند نفسه للحق، فله يعيش، وعليه يموت، باع نفسه ابتغاء مَرْضَاة الله. وإذ رأيناه في دنيا الواقع، فقد سرنا أن نقرأ تفسيره واضحا جليا في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة، الآية :207]. ومن اللطائف القرآنية، أن الآية التي تصف مَن باع نفسه ابتغاء مرضاة الله، تلي الآية التي تصف مَن باع نفسه لشيطانه وهواه، لتتمايز النفوس، وتتباين المعادن، وتتضح المعاني. حقا، إنه واقعٌ يُفسره القرآن، وقرآنٌ يُفسره الواقع!.