بقلم: مول السويقة محمد العنف المدرسي والفشل الدراسي لا يشكلان مع الأسف حالات أو ظواهر استثنائية وإنما يعكسان مشكلات أساسية تدعو إلى التفكير والتساؤل حول مستقبل التربية ببلادنا. هذا الطرح يهدف أساسا إلى البحث عن الأسباب الحقيقية والموضوعية لظاهرة العنف داخل مؤسساتنا التربوية بغية تحليلها سيكولوجيا واجتماعيا وثقافيا وما يتمخض عن هذه التحاليل من نتائج وحلول قابلة للتطبيق ميدانيا داخل المؤسسة أو خارجها كتحسيس أولياء الأمر بخطورة الوضع من أجل أن يتحمل كل شركاء التربية مسؤوليتهم الملقاة على عاتقهم وهذا بهدف جعل الوسط المدرسي وسطا صحيا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فقد ألغي (العقاب الجسدي) في التعليم للحفاظ على كرامة الطفل وشخصيته من جهة وإلغاء أيضا كل مظهر من مظاهر العنف بمؤسساتنا التربوية. والغريب في الأمر أن بهذا الإجراء ازداد العنف أكثر فأكثر وارتفعت الأرقام إلى أقصاها مما جعلنا ندق ناقوس الخطر ونتساءل: - لماذا ارتفع وانتشر هذا العنف داخل المؤسسات التربوية بشكل مرعب ومخيف؟... - هل هذا العنف يعتبر ظاهرة طبيعية أم سلوكا شاذا يتطلب الدراسة والمعالجة؟... - هل هو تعبير عن عدوانية تجاه أشكال المعرفة؟... - ألا يمكن أن نعتبره كنتيجة طبيعية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذا العصر؟... - ألا يستوجب هذا العنف إعادة النظر في القوانين التأديبية للمؤسسات التربوية؟... - أيمكن اعتبار أن المسؤول الأول والسبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو تخلي الآباء عن واجباتهم التربوية إزاء أبنائهم؟... الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها أمر صعب للغاية ما لم نتعمق في البحث عن أصول ومنشأ هذا العنف. المدرسة منذ نشأتها تعتبر مؤسسة مقدسة للتربية واكتساب مبادئ العلوم والمعارف، ففيها يطور الطفل ملكاته الفكرية ويكتسب أنماطا من التفيكرو السلوك السوي ويعقد علاقاته الاجتماعية بالاتصال والتواصل، إذا فهو في هذه الحالة يؤثر ويتأثر وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من الطبيعي أن تحدث من حين إلى آخر مشاجرات بين الأطفال من جراء هذا التفاعل الاجتماعي واختلاف الأمزجة ولكن إذا بلغت هذه المشاجرات إلى درجة المشادات والعنف اللفظي أو الجسدي فذلك يدفعنا إلى التفكير لا إلى اللامبالاة. فالعنف المدرسي له عدة أشكال منها السرقة، الشتم، التهديد اللفظي إلى أن يبلغ العنف الجسدي باستعمال أدوات ممنوعة داخل المؤسسة. ومما لا شك فيه أن الوسط الاجتماعي للطفل أو المراهق الذي يعيش فيه خارج المؤسسة يؤثر سلبا أو إيجابا على مزاجه وسلوكه بل وحتى على تبلور شخصيته. فهو يتأثر بما يراه وما يسمعه من خلال الوسائل السمعية البصرية وما أنتجته التكنولوجية الحديثة التي استقطبت شبابنا وأصبحت وكرا لهم كمقاهي الأنترنت والفايسبوك والتويتر والهواتف النقالة...، بهذا قصرت المسافات واضمحلت الحدود بين دول العالم واختلط الحابل بالنابل. وليس القصد من هذا الطرح هو دعوة الشباب إلى الانغلاق على أنفسهم. كلا...! وإنما القصد من هذا هو التفتح الكامل على هذه التكنولوجيات الحديثة للتعلم النافع ونهل ما يمكن نهله من العلوم والمعارف المتماشية مع أصالته وقيم مجتمعه. فليس كل ما يشاهده الطفل أو المراهق يعتبر مطابقا للتربية، فالحروب التي يسمع عنها والمظاهرات العنيفة التي يشاهدها هنا وهناك وأفلام العنف التي يجلس أمامها ساعات طوال في مقاهي الأنترنت أصبحت هي الأخرى (الغذاء الفكري والسلوكي) لأبنائنا وهي منبع آخر من منابع العنف ينهل منها الشاب يوميا. وحين وجوده بالبيت أو الشارع أو المدرسة نراه وبصورة تلقائية يحاول تجسيد ما رسخ في ذهنه واستولى على عواطفه على أرض الواقع. ومن هنا نستطيع أن نجيب أن ظاهرة العنف داخل المؤسسات ليست بظاهرة طبيعية وإنما هو سلوك شاذ نتيجة أوضاع اجتماعية وتطور تكنولوجي حديث سيء استعماله. والشباب أكثر إخلاصا لهذه التكنولوجية والأوساط السمعية البصرية هم الضحية الأولى لها بعد منحهم حرية لم يحسنوا التصرف فيها. هل المسؤولية في انتشار العنف المدرسي تقع أيضا على عاتق الأولياء...؟؟ الأسرة والمدرسة متكاملتان في التربية والتعليم، فالمربي داخل المؤسسة أو خارجها هو المثل الأعلى للطالب معرفة وسلوكا وعلى الأسرة أن ترسخ هذه القيم المكتسبة لدى الطفل ولكن الواقع مع الأسف غير ذلك، فالدعم الأسري قليل إن لم يكن غير موجود على الإطلاق خاصة حينما يدخل هذا الطفل في مرحلة المراهقة المتميزة بثوراتها على المجتمع والذات نتيجة التغيرات الفيزيولوجية النفسية والسلوكية التي تطرأ على المراهق. فدور الأولياء لا ينحصر في تأمين حاجات المراهق المادية والمدرسية ولكن المراهق هو الآخر بحاجة إلى من يسمعه بل من ينصت إليه ويحاوره ويرشده حتى يسلك الطريق الصحيح...، أباء يأخذون بيده ويمنحونه الدعم والحنان ولكن يطالبونه بالاحترام المتبادل والتصرف بالحكمة ونبذ العنف. فإهمال الطفل أو المراهق (المتهور أحيانا)، وهو غير قادر على مراقبة نفسه واختيار أفعاله، بمنحه حرية مطلقة ودون مراقبة ولا وازع ديني يجعله ينحرف لا محال عن السلوك السوي وبالتالي يروح يطرق أبواب العنف والمخدرات...، لدا الحرية الممنوحة دون قيود تضر بأبنائنا أكثر مما تنفعهم. كذلك التغيرات التي طرأت على المجتمع لها مخلفاتها السلبية في هذا المجال. الأم بمهامها المزدوجة من قيامها بشؤون البيت من جهة والوظيفة التي تقوم بها خارج البيت كعاملة من جهة أخرى: هي معادلة أخرى صعبة التحقيق والنجاح وتؤدي حتما إلى عدم التوافق داخل العائلة وهذا اللاتوازن يؤدي بدوره إلى إهمال جانب هام في حياة الطفل وهو تربيته تربية سليمة فهذا التخلي عن القيام بهذه المسؤولية واللامبالاة وغياب المراقبة تجعل الطفل أو المراهق يعتمد على نفسه ويروح يعبر عن وجوده وذاته بلغة العنف قائلا: (أنا هنا موجود!...أنا حر طليق أفعل ما أشاء !... ) وبهذا نضيف إلى إلغاء العقاب الجسدي بالمدارس الابتدائية خاصة (جرعة جديدة) من هذه الحرية التي لم يفهمها التلميذ أو المراهق وتحت منظور إلغاء (العقاب الجسدي) le châtiment corporel نريد تغيير نظرة المجتمع إلى الطفل بحيث كانت التربية القديمة تعتبره عنصرا (للترويض) أو عنصرا فوضويا خطيرا بخلاف (الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل المؤرخة في 20/11/1989 التي نصت على أن الطفل هو كائن ذو كرامة يجب حمايتها من كل أشكال العنف). بعد طرحنا لبعض أسباب العنف المدرسي بات من الضروري أن نقدم على سبيل القصر لا الحصر بعضا من الحلول التي نراها مناسبة لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة بمؤسساتنا التربوية نذكر منها ما يلي: 1- تدعيم الإجراءات الوقائية ضد العنف المدرسي: لابد من الإشارة هنا إلى أن هذا العنف داخل المؤسسات التربوية هو ظاهرة عالمية وهو متفاوت الخطورة من بلد إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، وهذه الإجراءات الوقائية تتمثل في سن قوانين مستقلة تبحث في قضايا هذا العنف بحيث تسلط على ضوئها عقوبات تقع بداية على أولياء الأمر للطفل أو المراهق الذين يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة في هذا الشأن داخل وخارج المؤسسة التربوية، وهذا الإجراء الوقائي إن كان ثقيلا على الأولياء في الظاهر يمكن أن يعطي نتائج حسنة مستقبلا لأنه يجبر هؤلاء الأولياء بداية على الاهتمام أكثر بأبنائهم من أجل حمايتهم وحماية أنفسهم من هذه العقوبات. 2 تعديل العلاقة بين المعلم والمتعلم: ونقصد بتعديل العلاقة إعادة النظر في هذه العلاقة التربوية ليتبين لكل طرف فيها حقوقه وواجباته كأن يفقه المربي أن هذا الطفل أو المراهق جدير بالاحترام وأنه كائن إنساني ذو كرامة مصانة وليس هو أقل منه شأنا، ومن جهة أخرى يتوجب على الطالب أن يكن كل التقدير والاحترام لهذه الشخصية المثالية التي تسهر على تربية وتكوين شخصيته من كل جوانبها العقلية والنفسية والوجدانية والاجتماعية وهذا ليس بالأمر الهين، كما يتوجب عليه أن يساعد أستاذه في نقل المعارف الضرورية منه وإليه ويعترف بالإشراف عليه. ومع النظريات الحديثة للتربية التي جعلت المربي عبارة عن مرشد لا يفرض أبدا معارفه على المراهق والطفل ولكن عليه أن يساعد طلابه على اكتشاف هذه المعارف بأنفسهم وهكذا تحرر المتعلم من نظرة التربية القديمة إليه والتي اعتبرته مدة طويلة من الزمن (كوعاء) يصب فيه ما يشاء من معارف وهكذا أصبح الهدف اليوم من التربية ليس هو التعلم نفسه ولكن نتعلم كيف نعلم، ولذا أصبحت طرق اكتساب المعارف أو ما يسمى ب (بيداغوجية التعلم) وسيلة فعالة لإدماج الطالب اجتماعيا. 3 إعطاء استقلالية أكثر للمربي وإشراكه في صنع البرامج الدراسية وهذا لا يعني منحه الحرية المطلقة ولا يجب أن يفهم من قبل بعض المربين التسلط وشل حرية المتعلم لدرجة العنف غيرالمبرر، كما لا يعني أيضا معالجة العنف بالعنف ولكن يقصد بالاستقلالية تلك التي تمس محتوى البرامج والمتعلمات. ولكن ما العلاقة بين هذه البرامج الدراسية والعنف المدرسي؟... أحيانا هذه البرامج لا تفي بحاجات المتمدرسين هؤلاء يرون أن المواد صعبة وفي غير متناولهم مثل المواد العلمية من رياضيات وفيزياء وكيمياء وهندسة... وكأن هذه المواد خاصة بالنخبة، وبهذه النظرة تحدث تراكمات لدى الطلبة تدعم عدم قدرتهم على الاستيعاب والمتابعة الدراسية، مما يؤدي بهم إلى التغيبات واللامبالاة بالدراسة وفقدان الأمل، وفي الأخير تتحول هذه السلوكيات إلى عنف ضحيته الأولى زملاؤهم النجباء لأنهم يشعرون بمركب نقص إزاءهم ثم يتحول هذا العنف إلى أساتذتهم لأنهم يفرضون عليهم ما لا يطيقونه من متعلمات ثم عنف ضد المؤسسة التي تدفع بهم إلى الفشل الدراسي ومن ثمة لفظهم إلى الشارع، وهكذا يتحول العنف أخيرا ضد المجتمع بأكمله وكدا السلطات التي عجزت أن تمنحهم عملا أو وضيفة يحققون بها أحلامهم. . إذا لابد أن نقولها صراحة أن الطالب اليوم لا ينتظر من المؤسسة التربوية أن تحقق أحلامه وهنا تطرح المفارقة: البرامج والمناهج الجديدة ترمي إلى تعلم التلميذ أو الطالب كيفية استغلال معارف لم يكتسبها بعد والمنطق يفرض أن نتيقن من اكتساب واكتمال هذه المعارف أولا ثم تأتي المرحلة الثانية وهي تعلم كيفية استغلالها ومن هذا المنظور أصبح من الضروري جدا إشراك المدرسين الأكفاء ذووا الخبرة الواسعة في صنع محتوى البرامج لأن الأولوية تعود إليهم في تحديد الحاجيات العلمية والسيكولوجية لطلبتهم. كذلك هذه الاستقلالية للمربي تمس أيضا علاقاته مع الطلبة لأن بعضا من سلطته تساعد هذا الأخير على السيطرة على انفعالاته وإخمادها وبهذا أصبح من الضروري تكوين هؤلاء الأساتذة والمربين حديثي العهد بالمهنة في مجال التربية وعلم النفس (الطفل والمراهق) بشكل دوري ومستمر وبقصد تهيئتهم للمهنة حتى يألفوا مشاكل التعليم مبكرا وحتى يتمكنوا من السيطرة على الأوضاع المختلفة ومعالجتها دون اللجوء إلى العنف بشتى أنواعه. أخيرا العنف المدرسي هو ظاهرة عالمية ومشكل مطروح كسائر المشاكل له حلوله أن تضافرت الجهود من طاقم تربوي وإداري، وأولياء الأمور وسلطات عمومية. وبمقارنة ما يجري خارج بلادنا فحالات هذا العنف هي مقلقة ولكن يمكن مراقبتها وهذا يرجع إلى الأداء والصرامة والاستفادة من الإجراءات المقترحة. فالبيداغوجة ليس علما دقيقا بل تعتبر فن التربية أكثر من وصفة للتطبيق، فمواجهة العنف المدرسي هو مشروع جماعي ينبغي تطبيقه من قبل السلطة وخاصة الوزارة الوصية واحترامه وتدعيمه من قبل جمعية أولياء التلاميذ وتنفيذه أخيرا من قبل المربين وهيئة الإدارة المدرسية التي ينبغي أن تعطى الصلاحيات الكاملة لتنفيذه لرفع هذا التحدي مستقبلا. * أستاذ في علم النفس الطفل والمراهق وعلوم التربية