د. علي جمعة لقد جبل الإنسان بفطرته على حب الوطن والشعور بالانتماء إليه، ويشترك في هذا جميع الناس على تنوع أعراقهم واختلاف مشاربهم، وعندما جاء الإسلام دين الفطرة والإنسانية لم يقف في وجه هذا الميل الطبيعي بل أقر ذلك ودعا إليه، وجعله سبيلا للعمل الصالح وفعل الخيرات وزيادة التماسك بين أبناء الوطن الواحد، وضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الأمثلة في بيان ذلك حين خرج من مكة مهاجرا فالتفت إليها وأعرب عن شعوره الجياش نحوها، فقال: ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك (سنن الترمذي 5/723) لقد كانت تلك الكلمات المفعمة بالانتماء تعبيرا صادقا عن حبه صلى الله عليه وسلم لوطنه الذي نشأ فيه، وترعرع في أكنافه وعرف كل جنباته وأمضى فيه سنوات شبابه وكهولته. والمثال الآخر له صلى الله عليه وسلم خاص بالمدينةالمنورة حين عاد من إحدى غزواته، فعن أبي حميد قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وساق الحديث وفيه: فخرجنا حتى أشرفنا علي المدينة فقال: هذه طابة، وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه. صحيح مسلم 2/1011. إن هذه النماذج العملية المعبرة تبين كيف راعى الإسلام العاطفة الإنسانية ومنها تعلق المرء بوطنه وحبه له. شريطة ألا يكون ذلك الشعور مجرد عاطفة غامرة أو مشاعر جياشة فحسب، بل لابد أن يصاحبه إحساس بالمسئولية وقيام بالواجبات انطلاقا من المثل المحسوس الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (صحيح مسلم 4/1999). إن الوعي بالمعنى الصحيح لمفهوم المواطنة يستدعي وقوف الجميع على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرر في وثيقة المدينة أن جميع أبناء الدولة يد واحدة على من سواهم، يدفعون التهديد والعدوان عن أرضهم، ويتعاونون فيما بينهم لتحقيق مصالحهم، وحفظ دمائهم وحقوقهم وكرامتهم، فإذا فعلوا وحرصوا عليه بكل غال ونفيس أصبح الوطن حصنا يحمي أبناءه، وغدت المواطنة حصانة للجميع، ولو نظرنا في تاريخ الحضارة الإسلامية على مر العصور لوجدنا الأمثلة الصادقة على تحقق معنى المساواة في المواطنة بين أبناء الوطن الواحد ولذلك كانت المساواة مطلبا إسلاميا، فبها يقوى الوطن ويتماسك المجتمع وتصان كرامة الفرد. إن الوطن الذي نعم أبناؤه بالأمن والطمأنينة في أكنافه، وتقلبوا بين حناياه وجوانبه، ونمت أعوادهم من خيراته وثمراته، ليحتم على كل فرد أن ينهض بواجباته تجاه وطنه، ومن أهم تلك الواجبات: الأمن والبناء، فأما الأمن في الأوطان فهو من النعم الكبرى التي منحها الله عباده وامتن عليهم بها، ومن مقررات ذلك وأمثلته ما حكاه الله تعالى عن أهم ما تميز به أهل مصر، فقال سبحانه فيما حكاه عن يوسف عليه السلام في مقام الامتنان: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]، وقد حثنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم على أن نكون مصدر أمن وأمان، وسبيل طمأنينة وسلام، في كل زمان ومكان فقال: (أفشوا السلام وأطعموا الطعام) (سنن الترمذي 4/652) بل أمر أن يكف المسلم الأذى عن الناس وأن يسلم الناس من إساءته وأذاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) سنن النسائي 8/104. إن تحققنا بصفات المؤمن الصادق تستوجب منا أن ندرأ الفتنة ونمنع قيامها، وأن نئد الإشاعات الكاذبة والإرجافات المغرضة، وأن نبتعد عن ترويع الآمنين وتخويف أبناء الوطن بل وغيرهم من المسالمين. الواجب الثاني الذي يتحتم على الجميع القيام به تجاه الوطن هو واجب البناء، فبناء الوطن من مقتضيات الاستخلاف في الأرض وإعمارها، قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، فكل منا في موقعه مستخلف ومطالب بالبناء على قدر ما حباه الله من سعة وقدرة وعلم، ويمكن القيام بذلك الواجب في مجالات شتى، منها الحفاظ على الممتلكات والمرافق العامة، والحرص على خيرات الوطن وثرواته ومكتسباته، ومنها أيضا الحفاظ على البيئة بكل صورها كإماطة الأذى عن الطريق، والكف عن الإسراف أو إهدار الموارد مهما قلت أو كثرت، بل يتحقق بناء الوطن في أبسط صوره في إتقان العمل النافع المفيد. إن حب الوطن لا ينبغي أن يقف عند المشاعر والعواطف، بل لابد أن يترجم إلى سلوك صالح نافع للفرد والمجتمع.