بقلم: أ. سميرة بيطام على مدى تسع حلقات متتالية عاش مشاهدو قناة الجزيرة شهادة الوزير الأسبق الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي على عصره (الجزائري) الذي كان حافلا بالإنجازات والمواقف والمنعرجات الخطيرة وكان كله عصرا حاسما في حياة الجزائر وشعبها...... ظهر أحمد طالب الإبراهيمي في هذه الحلقات في قمة التوازن مظهرا ومخبرا ثقافة وتجربة... ظهر كما ينبغي أن يظهر عليه ابن المنبت الطيب والبيت الشريف والمحتد الكريم أليس هو ابن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه؟؟ كان الإبراهيمي يتحدث بثقة وطلاقة وفصاحة وخبرة وتجربة تناسبه وتشرفه وتشرفنا جميعا كجزائريين... لقد حاول أحمد منصور (بثقافته الواسعة ودهائه الصحفي) عدة مرات أن يجره إلى المطبات التاريخية أو السياسية سواء عن طريق أشخاص فاعلين أو حوادث فارقة لكنه كان أذكى من أن يقع في مثل هذه الفخاخ الصحفية التي غالبا ما يقع فيها غيره بكل بساطة.. ذلك لأن الزمن غير الزمن والأشخاص غير الأشخاص. تحدث الإبراهيمي عن تجربة حياة كان قد دوّنها في كتابه (مذكرات جزائري) أرادها توثيقا لفترة مهمة في حياته وحياة بلده...هذه المذكرات التي لم تترك فرصة للالتباس والأسئلة (المسيسة) التي يجيدها الصحفي اللامع أحمد منصور... أجوبة الإبراهيمي على أسئلة محاوره كانت مقنعة وأحيانا مخيبة لأمل البرنامج ومعده الشاب لأن الدكتور كان يقفز على بعض الأسئلة بكلمات لا يتقنها غيره (لا أعرف...لا علم لي...لم أسمع بذلك....الخ). كان في قمة التواضع (المعرفي) إن صح هذا التعبير فلكم استضاف هذا البرنامج أشخاصا يعيشون بعيدا عن الجزائر لكنهم يدّعون خبرة بأحداثها ووقائعها إلى درجة تثير سخرية المشاهدين وفي كثير من الأحيان سخرية الصحفي المصري أحمد منصور الذي يحاول طرق الحديد (حاميا وباردا) على سندان الجزيرة لكن بمطرقة (من يصطاده لهذه المهمة). رغم تواضع الإبراهيمي فإن المشاهدين لابد أنهم لم تفتهم ارستقراطيته وتميزه... لقد كان راقيا ويثلج صدر الوطن الذي أسقمنا بعض أبنائه بتلعثماتهم وقلة خبرتهم... هو ذا رجل من الزمن الجميل (لم يكن جميلا بالنسبة له) يجلس أمام دهاء وخبرة أحمد منصور بهدوء نادر ويتحدث بفصاحة بليغة ويحاور بصدق.. ما كان يبرز (بطولاته) ولا بطولات والده وهما من هما في تاريخ الشعب والأمة....أفسح للتاريخ كي يتكلم بلسان معد البرنامج أو بلسان من قرأ لهم أثناء تحضيره لهذا البرنامج المتميز. دخل الإبراهيمي البرنامج في قمة شموخه الذي أخذه من شموخ جبال بلاده وخرج منه في قمة الاحترام الذي تعلم كيف يكون أهلا له على مدى ما تقلد من مسئوليات ومناصب. قدم نفسه بكل أخطائه التي استطاع المشاهد أن يستشفها وتمسّك بكل آرائه التي من حق المشاهد أن يعارضها...دافع عن قناعاته وعن قناعة الأشخاص الذين (أقنعوه) دون تهريج... دون تعصب.... ودون تنطع. هو ذا رجل يحق لنا أن نقول عنه ذاك الشبل من ذاك الأسد.. ويحق لنا أن نشير إليه بالبنان فليس مثله الكثير ولو كانوا فلن يتاح لنا أن نعرفهم في زمننا الرديء هذا.. فما أكثر الأسماء المغيبة العاملة في صمت لا تريد من أحد جزاء ولا شكورا فما عقمتْ الجزائر أن تلد من يرفع رأسها ويحمي حماها ويصون مجدها وفضلها. لقد حاول مقدم البرنامج أن يوقعه في الحديث عن بن بلة و(التعذيب) وعن بومدين و(أخطائه) وعن بوتفليقة و(حديثه مع شعبه بالفرنسية) لكن الإبراهيمي سليل المجد التليد المجاهد ابن المجاهد كان يجيب على طريقة (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وكان يؤكد من خلال أجوبته أن مصائر الأمم لا تحددها الأخطاء (لأن كل البشر خطاؤون) ولا يحددها الأشخاص مهما بلغوا من الوعي والقدرة، ولكن تحددها ظروف أخرى قد تكون في سيرتها لها صيرورة التاريخ نفسه أما الأشخاص فيكفيهم حسن نيتهم حتى لو أخطأوا....وأما الأخطاء فالتاريخ هو الذي يكشف مدى خطورتها وسلبيتها على الأمم لعل الأجيال تتعظ بها في المستقبل. لقد كانت شهادة الإبراهيمي على العصر شهادة خبير حاول بكل موضوعية وتواضع أن يشخص الداء في جسم عليل فوضع يده على السبب دون العلة ولا الدواء لأن الطبيب لا يستطيع فعل شيء إذا وصف للمريض علاجا يتطلب دواء (لا تنتجه المخابر) التي تبحث عن الربح لا العلاج. الخلاصة.. تحية إجلال وتقدير لهذا (الجزائري) الذي قدم نموذجا رائعا لبلده ولمسئولي بلده ولم يعمق تلك الصورة النمطية عن المسئول الجزائري الذي (يلثغ) و(يتأتئ) أو(يصرخ) و(يهدد) أو يغرد خارج السرب ويراوغ كما أن الأمر متعلق بلعبة الشطرنج أو ما يشبهها. تحية تقدير للإبراهيمي لم أستطع تقديمها في حينها لأني كنت لا أزال طفلة في مقعد الدراسة (كان هو فيها وزيرا للتربية) وكنت أحلم بجزائر أفضل.. كما فعل هو الآخر. تلك الجزائر الحلم التي لازلنا لم نعرفها بعد ولا عرفها الإبراهيمي نفسه باعترافه أمام المشاهدين ولعل هذا يرجع إلى أنه كما يقال إن الطريق الشاق إلى الحلم هو الحلم ذاته....ربما؟؟ ومع ذلك فلا نزال نتمسك ببصيص أمل زرعه فينا أمثال الإبراهيمي وأمثال والده ومن يدري فربما يقيّض الله لهذا البلد الأمين رجالا آخرين قد ينتشلون أجياله من هذا الضياع ولم لا؟؟ ألم يبحث والد الإبراهيمي في الركام مع إخوانه من علماء الأمة وخلصائها حتى عثروا على المفتاح (التعليم والتربية) ثم زرعوا في حقوله تلك البذور الطيبة الصالحة التي عرفت طريقها إلى الجهاد ومن ثم إلى النصر؟؟ فمن يدري فالجزائر لا تعدم رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه وإن كان البعض قد قضى نحبه فإن البعض لازال ينتظر فرصة الإصلاح وما بدلوا تبديلا. وأخيرا تحية إجلال وتقدير أيضا للإبراهيمي (شاهدا على عصر) (جزائري) كان له رجاله وكانت لهم أعمالهم وأخطاؤهم...ولكن مع ذلك لا يزال جميلا والدليل على ذلك هو تلك الصورة التي ظهر عليها وزيرنا الأسبق، أو ليس الإبراهيمي بصفاته المتفردة وأخلاقه الجمة تلك فارسا من ذلك الزمن الجميل؟؟؟