عبد العزيز التميمي إن المعركة حول النصيحة العلنية لم تزل مستعرة في الأوساط العلمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد رأيت عددًا ممن كتب وما في كتاباتهم من الاضطراب والتناقض، وأحصيت أقوال المعاصرين فوجدتها ستة أقوال أو سبعة، وكلهم يدعي أن مذهبه هو مذهب السلف، وأكثرهم لم يظفر بقول أحد من السلف يوافق مذهبه، وربما ادعى التعارض بين النصوص ورام الجمع بما لم يُسبق إليه. والنصوص النبوية والآثار السلفية ليس بينها أي تعارض، وإنما حصل النزاع بوضع النصوص والآثار في غير موضعها. فقد جاءت الآثار السلفية حول النهي عن سب السلطان: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: (كَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنَا عَنْ سَبِّ الْأُمَرَاءِ). وعن عبد الله بن عكيم رضي الله عنه قال: (لا أُعين على قتل خليفة بعد عثمان أبدًا. قال: فقيل له: أَعنتَ على دمه؟ قال: إني أعد ذكر مساوئه عونًا على دمه). والنهي عن سب الأمير المسلم كالنهي عن سب كل مسلم: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ). بل سب أمراء المسلمين أعظم؛ لأن مفسدته أعظم، كما أن سب العلماء أعظم؛ لأن مفسدته أعظم. والسب في اللغة هو الشتم، وهو تنقص المقصود دعاءً وخبرًا، كالدعاء عليه باللعن والتقبيح ونحو ذلك، أو وصفه بالصفات غير اللائقة أو تشبيهه بالحيوانات ونحو ذلك. وأما الإنكار على ولاة المسلمين فالمقصود منه رد الباطل وبيان الحق، وإن كان المنكر عليه قد يدخل تبعًا، فالسب منهي عنه سرًّا وعلنًا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والإنكار مأمور به مطلقًا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فكيف يقال: إن هذا هو هذا أو يلزم من أحدهما حصول الآخر؟! ولو كان الإنكار العلني يلزم منه السب لكان الإنكار العلني على المسلمين سبًّا لهم، ولكان الإنكار العلني على الكفار عبادَتهم للأصنام سبًّا لهم منهي عنه، كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، ويلزم من هذا أن لا يتلى أغلب القرآن علانية؛ لأن فيه إنكارًا على الكفار! ويلزم من النهي عن سب الأموات النهي عن الإنكار عليهم أقوالهم! بل الإنكار عليهم غير منهي عنه؛ لعدم تصوره! ولو كان الإنكار العلني سبًّا علنيًّا، فيلزم منه أن الإنكار السري كالسب السري سواء! ونظائر ذلك. وقد جاءت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إنكارهم العلني على الولاة، كأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وابن مسعود وغيرهم، وقطعًا لم يكن هؤلاء يسبون عثمان ومعاوية ومروان! وأما عدُّ المساوئ وحصرها فالمقصود منه اطِّراح الشخص والتحذير منه وإنزال قدره، لئلا يُسمع منه، فهو قد يكون أشد من السب المنهي عنه، وفي عدم السماع المطلق من السلطان من المفاسد الدينية والدنيوية ما لا يحصى. أما الإنكار العلني فليس المقصود منه اطراح السلطان، ولهذا لا يجوز عدّ مساوئه السابقة وإحصائها عليه علنًا، وإنما ينكَر المنكَر العلني الحاضر علنًا نصحًا للدين، فمتى زال المنكر وجب الكف عنه. وقد يُراد به ذكر المساوئ المستورة وإشهارها أمام الملأ، فهذا من الغيبة المحرمة، وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لا تغتب إمامك). والنهي عن غيبة الإمام كالنهي عن غيبة كل مسلم، بل غيبته أعظم من غيره، كما أن غيبة العالم أعظم من غيره؛ لأن مفسدته راجحة وعامة، وليس إنكار المنكر الظاهر من الغيبة في شيء، سواء كان أميرًا أو عالِمًا أو غيرهما، على أنه ورد عن بعض السلف كالحسن البصري ويحيى ابن أبي كثير وابن عيينة أنهم قالوا: (لا غيبة للسلطان الجائر)، وهذه محمولة على أن المجاهر بالمعصية لا غيبة له فيما يجاهر فيه، نظير أي مسلم يجاهر بمعصيته، وإن كان لا يلزم منه جواز غيبته فيما استتر به، أو اجتهد فيه فأخطأ وهو من أهل الاجتهاد، فيحمل كلام ابن عباس فيما لم يجاهر به، ويحمل كلام أئمة التابعين فيما جاهر به، إذ لا يدخل ذكر المجاهِر في حد الغيبة، أو أنه يدخل فيه غير أنه مستثنى منه، وهذا أولى من أن تجعل هذه المسألة من مواضع النزاع!. وتفصيل أقوالهم: أ- قَالَ الْحَسَنُ البصري، وهو ممن يَنهى عن الخروج على ولاة الجور: (لا غِيْبَةَ لِثَلاثَةٍ: فَاسِقٍ مُجَاهِرٍ بِالْفِسْقِ، وَذِي بِدْعَةٍ، وإمامٍ جائر). ب- قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: (ثَلَاثَةٌ لَا غِيْبَةَ فِيهِمْ: إِمَامٌ جَائِرٌ، وَصَاحِبٌ بِدْعَةٍ، وَفَاسِقٌ). ت- قَالَ ابْنَ عُيَيْنَةَ: (ثَلَاثَةٌ لَيْسَتْ لَهُمْ غِيبَةٌ: الْإِمَامُ الْجَائِرُ، وَالْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَالْمُبْتَدِعُ الَّذِي يَدْعُو النَّاسَ إِلَى بِدْعَتِهِ). على أن غاية حديث ابن عباس النهي عن الإنكار العلني أمام السلطان -للمصلحة الراجحة كخشية القتل أو الفتنة- لا مِن ورائه، وهو خارج محل النزاع، ولا حجة لهم فيه، والثابت أن سَعِيد بْن جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: آمُرُ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ؟ قَالَ: (إِنْ خِفْتَ أَنْ يَقْتُلَكَ فَلَا تُؤَنِّبِ الْإِمَامَ، فَإِنْ كُنْتُ لَا بُدَّ فَاعِلًا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ). وقريب منه أثر طاووس عنه، وليس فيهما زيادة أبي عوانة: (ولا تغتب إمامك)، ولعلها من أوهامه، وكما ترى أثر ابن عباس واقعة حال لا عموم له. ويُخطئ بعض المعاصرين حينما جعلوا النهي عن النصيحة العلنية هو بعينه النهي عن الإنكار العلني، ورام بعضهم الجمع بينها بما لم يُسبق إليه، ولم يتفوه به فم عالم من السلف قط، فقد ذهب قوم إلى جواز الإنكار العلني بحضرة السلطان والنهي عنه من ورائه، واستدلوا بحديث عياض بن غنم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ، فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ). ومما يقتضى منه العجب أن يجعلوا هذا الحديث عامًّا في النهي عن الإنكار العلني أمامه ومن ورائه، ثم خصصوا عمومه على جواز الإنكار العلني إذا كان بحضرته بحديث طارق ابن شهاب قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فقال أبو سعيد الخدري: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ). وهذا من أفسد تخصيص على وجه الأرض؛ حيث إن حديث عياض بن غنم خاص في النصيحة السرية أمام السلطان لا من ورائه، وهذا ما فهمه عياض بن غنم نفسُه، حيث أورده حينما نصحه هشام بن الحكم علانية أمامه لا من ورائه، وليت شعري؛ كيف يخصِّص حديثُ أبي سعيد الخدري المجيز للإنكار العلني أمام السلطان حديثَ عياض بن غنم الناهي عن النصيحة العلنية أمام السلطان؟ ومعلوم أن هذا لا يقبل سوى النسخ أو الترجيح! ومنهم من يستدل بمفهوم المخالفة من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ). وهذا استدلال ضعيف، لأن المفهوم إذا خرج مخرج الغالب فلا حجة فيه باتفاق الأصوليين، وغالب المنكِرين على الولاة إنما ينكرون بحضرتهم، ولو سلمنا بصحة هذا المفهوم فلا حجة فيه أيضًا؛ إذ المفهوم لا عموم له، وإنما يكون مطلقًا يتحقق بصورة واحدة، وغاية الإنكار عليه من ورائه أن لا يكون أفضل الجهاد وإن كان منه، وهذا وجه حسن؛ لأن المخاطرة بالإنكار عليه أمامه أشد منها من ورائه؛ إذ يتعرض المنكِر لحكم السلطان لحظة ثوران غضبه، بخلاف الإنكار من ورائه فقد يسكت عنه الغضب قبل إلحاق الأذى بالمنكِر، كما أنه يمكن لمخالفهم أن يقول: إذا كان الإنكار العلني أمامه فيه مخاطرة عظيمة، ومع هذا لم يلتفت إليها الشرع للمصلحة الراجحة، فالإنكار عليه من ورائه مع قلة المخاطرة من باب أولى، لاسيما أن المقصود بالإنكار العلني عليه بيان الحق للناس، وهو يحصل من ورائه، وإن كان قد يكون الإنكار عليه أمامه أبلغ. ... /... يتبع