تقص التونسية إيناس العباسي في مجموعتها (هشاشة) سيَرا للخطايا وعبرا مستقاة من المواجهات الحياتية والواقعية، لاسيما وأنها تغوص في جغرافيات مختلفة وعوالم متباينة من أقصى الشرق لأقصى الغرب، ومن الواقع إلى الافتراض إلى التخيّلات، بحيث تكمل لوحتها القصصيّة بمفارقات واقعية، وتزيح النقاب عما يخفي الهشاشة ويستر عورة البؤس والجريمة متعددة التجليات. تختار العباسي عنوانا عاما لمجموعتها (هشاشة)، وهو عنوان يسم القصص كلها بطريقة أو بأخرى، وفي بعض القصص يكون توصيفا للشخصيات التي تجد نفسها هشة في واقع مزرٍ، فتنهار أمام المشقات وتضيع في زحام الضعف والضغوط. تتضمن المجموعة -الصادرة مؤخرا عن دار الفارابي ببيروت- عشر قصص هي: (حين رأيت جثّتها)، و(زوج أقراط)، و(أونلاين)، و(ذاكرة الملح)، و(طائر النحس وأشياء أخرى)، و(الأريكة)، و(قصة حب)، و(أريد كِلية)، و(حرب)، و(نسخة أصليّة)، وفيها تحضر الهشاشة والضعف ووهن المعايير والبنى بأكثر من صيغة وطريقة. فهناك حالة الهشاشة الداخلية للمرء أمام مصائب الواقع واختلاف الظروف وتغير الأمكنة، وحالة التداعي الاجتماعي، وهشاشة المعايير القيمية السائدة، ثم تضعضع البنى الاجتماعية والسياسية ومنظومة القيم والمثل المفترضة. تمثل العباسي لجانب الوهن الداخلي وهشاشة المرء أمام نفسه وواقعه في قصّة (حين رأيت جثّتها)، كما تحضر لدى صاحبة (أسرار الريح) صورة أخرى للهشاشة الداخلية والواقعية في قصة (أونلاين)، إذ يجد بطلها -مازن- نفسه مُحاصرا بعالم افتراضي ومسكونا به. وبالانتقال من الهشاشة الداخلية إلى الهشاشة المجتمعية، يمكن الوقوف على مفارقات ترصدها القاصة وتدين من خلالها العديد من الممارسات التي تقترف في المجتمع تحت مزاعم شتى، ففي قصة (زوج أقراط) تصف العباسي بؤس الواقع الاجتماعي لشريحة من الناس، حيث امرأة تقتل زوجها الذي كان يخونها مع أختها، وتكون المفاجأة صادمة أيضا حين اكتشافها لذلك. تشير القاصة إلى الانحلال القيمي، ولحظة الانتقام القاهرة التي تودي بأسَر بأكملها من أجل نزوة عابرة أو استغلال دنيء. وهنا تعاين الكاتبة أيضا واقع السجون بالنسبة للمرأة من جهة، وواقع الجنايات والخيانات المرتكبة في الخفاء من جهة أخرى. أما عن الحديث عن الفساد المستشري بين أجهزة الدولة الذي يخرب النفوس ويضعف بنيان المجتمع والدولة، ويسرب الهشاشة إلى مختلف المجالات، فإن قصة (طائر النحس وأشياء أخرى) تكون خير مثال على ذلك. وتتجلى ذروة الإيلام لدى العباسي في قصّتها (حرب) -التي فازت بمسابقة المعهد الدانماركي بدمشق- والتي تصف حال (ميم) وهو محارب في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، مصابا يبحث عن طوق نجاة، يلوذ بالخرائب، يغمى عليه، ينتظر فرجا شبه مستحيل، يتفاجأ بامرأة تنهال عليه ضربا بعد أن تقيده وكأنها تنتقم لكل مَن قتلوا في حرب مجنونة دائرة. هنا تجد القاصة نفسها أمام هشاشة من نوع مختلف، يتمازج الضعف النفسي مع الانهيار الجسدي، ويتداخلان مع رغبة الانتقام المدمرة لدى الآخر، ويكون مسرح الجريمة السابقة هو مسرح القصاص من آخر مختلف في حرب تعمي الأبصار والبصائر. تنوّع صاحبة (أرشيف الأعمى) في ضمائر السرد المستخدمة في مجموعتها، مع أن الغالب على القص هو ضمير المتكلم الكلي المعرفة والعلم، تختار نهايات مفجعة تخلق لدى القارئ دهشة مفترضة، كما أنها تنثر الصور الشاعرية بين ثنايا قصصها، بحيث تعتمد في بعض المقاطع اللغة الشعرية، حتى وإن كان في تعبيرها عن الأسى والمعاناة وجوانب من الهدر المتواصل.