أين القصة القصيرة الآن على مستوى المشهد الأدبي الجزائري؟،هل اختفت، هل انحصرت وانحسرت وتراجعت وتقوقعت في الصمت وخفت وهجها ولم يعد كما في السابق، هل أنها لم تعد تحتل حيزا معتبرا من المشهد الذي اكتسحته الرواية بدرجة كبيرة والشعر بدرجة أقل، هل الكاتب الجزائري لم يعد يهتم بفن القصة وأصبح يستمثر جهده وشغفه في الرواية أكثر، أم أن العكس هو الحاصل وأن للقصة مكانها ومكانتها وكتابها أيضا. أين يمكن الإشكال والخلل تحديدا، هذا ما سنحاول معرفته من خلال هذه الأراء التنظيرية التحليلية لبعض الكتاب والأدباء الذين لهم تجارب متنوعة في كتابة القصة. استطلاع/ نوّارة لحرش الخير شوار/قاص وروائي القصة القصيرة تجربة سردية فضفاضة وزئبقية راهن "القصة القصيرة" عنوان كبير لتجربة سردية جزائرية فضفاضة زئبقية، خاصة في هذا السياق الذي يتسم بالنشر الإفتراضي على الشبكة العنكبوتية، وغياب التواصل مع وجود الكثير من التجارب التي طبعت لكنها غير معروفة بسبب سوء توزيع الكتاب بل غيابه في كثير من الأحيان. يقال أن بعض الأفكار لا تصلح إلا للقصة القصيرة وأخرى لا تصلح إلا للرواية أو الشعر أم الرسم، وفي إعتقادي أن عبقرية القصة القصيرة كما صاغها أجدادنا تشيخوف وموباسان يمكن أن تختصر ما يمكن قوله في رواية داخل نص صغيرة، هي زاوية نظرية ذكية جيدا بإمكان من يقوم بها أن يعطيك فكرة على مشهد كبير بالتلميح أكثر من التصريح، لقد أعجبتني عبارة قالها لي القاص والروائي الطاهر وطار بروحه المرحة، لقد شبّه الرواية أو الحياة بالبطيخة والقصة القصيرة بالجزء المنتزع منها، فالجزء يحتوي على كل عناصر الكل دون أن يلغيه، ومن هنا تكمن صعوبة وخطورة هذا الفن. ونواة الشروع في كتابة قصة قصيرة كما أراها، كنواة الشروع في كتابة مقالة أدبية أو رواية، قد تنطلق من نكتة أو زلة لسان أو كلمة في سياق ثرثرة تبدو عابرة وفارغة، ولا أدرى كيف أصطاد تلك الفكرة أو تصطادني، وأجدها هلامية ضبابية وكثيرا ما أنطلق في الكتابة دون أن أعلم ماذا سأكتب في الجملة الموالية، وشيئا فشيئا تتضح الفكرة ويتضح البناء وعندها أستعيد توازني النفسي وأنا أشهر بفرحة مؤقتة قد تنتهي مع نهاية النص وقد تستمر فترة قصيرة بعده. وكثيرا ما أقرأ نصوصا لا تستسيغها ذائقتي الفنية، وعندها أضبط نفسي على ذوق الآخر وأشعر بهذا التعدد وأنا أرى الأشياء من منظار مختلف، فحتى ولو كان النص رديئا أتخيلني قارئا رديئا وأمارس اللعبة إلى النهاية، لكن في بعض المرات عندما لا أكون في مزاج مريح أرمي بالنص أو أتجاوزه بعد قراءة مقدمته التي تشي بما سيأتي، ثم أنسى ذلك النص بشكل نهائي. وبدايتي الأدبية كانت مع القصة القصيرة، ولحد الآن تبدأ التيمة عندي في شكل قصة قصيرة، وتنتهي كذلك في بعض المرات، لكن في حالات إستثنائية يتطور النص ويتعقد أكثر من اللازم وتتكاثر الشخصيات ورم عملي على تحجيمها فإنها تنفلت مني وتتحول إلى مشروع رواية قد أكتبه وقد يتأجل إلى وقت لاحق، وفي كل الحالات فإن جدلية الشكل والتيمة تبقى مستمرة. وهناك جانب مهم جدا في الكتابة القصصية وهو التجريب الذي أراه بحثا دائما ومستمرا عن شكل جديد، على طريقة سيزيف الذي يبدأ من النهاية وينتهي عند البداية، هو لعنة جميلة على حد تعبير بعض الشعراء وتكمن لذته في التراكم. أما الكل الموباساني- التشيكوفي فمن الصعب القول أن الزمن تجاوزه، وإن كان الإبداع فيها صعبا إن لم يكن مستحيلا، وعموما لا أرى وصاية على الكاتب الذي قد يميل إلى الشكل الكلاسيكي وقد يعمل على تفجيره، والعبرة في النهاية بالنتائج والإبداع الحقيقي يدافع عن نفسه بنفسه. وأرى أن التيمة المسيطرة على مجمل كتاباتي السردية تتراوح بين المتاهة والدهشة، وكثيرا ما تتكرر تلك العوالم الأقرب إلى الطفولة الشقية التي تطرح الأسئلة الكبيرة وتزداد توهانا كلما حاولت الإقتراب من الحقيقة. ولا أريد العودة إلى نشأة وتطور الفن القصصي في الجزائر فهي معروفة كتب عنها الكثير من الأكاديميين، لكن يمكن أن أنظر من السياق الزمني الذي بدأت فيه، فقد نشأنا على قصص المؤسسين الأوائل مثل أبو العيد دودو في "بحيرة الزيتون" والطاهر وطار في "دخان من قلبي" ثم الجيل الذي جاء بعد ذلك وأعتقد أن أنضج تجاربه القصصية هي تلك التي كتبها عمار بلحسن إضافة إلى مصطفى فاسي ومحمد الصالح حرز الله، وكنت أرى ومازالت أن ما كتبه هؤلاء هو خلاصة التجربة القصصية السبعينية. وكانت أقرب التجارب القصصية إلى وجداننا أثناء البدايات الأولى هي تلك التي كتبها السعيد بوطاجين وعبد العزيز غرمول، وللمفارقة فإن هذين الكاتبين المحسوبين على جيل الثمانينات وبدآ الكتابة بالفعل في سبعينيات القرن الماضي ولم ينتشر كل واحد منهما أولى مجموعاته القصصية إلا في النصف الثاني من التسعينيات عندما أصدر غرمول "رسول المطر" وأصدر بوطاجين "ما حدث لي غدا"، ولم ينل كل واحد منهما الإعتراف الذي يليق بتجربته إلا مع الجيل الذي جاء بعده، والذي أشرف بعد ذلك على سلسلة "سحر الحكي" لرابطة كتّاب الإختلاف التي صدر ضمنها أجمل ما نشره هذا الجيل كتّاب كثيرين مثل يوسف بوذن وعمارة كحلي وعبد الوهاب تامهاشت وحكيمة صبايحي وغيرهم كثير. وهنا أفتح قوسا لأؤكد أن الإعتراف في بلادنا لا يمكن أن يكون من أصحاب الأسماء المكرسة المسماة "كبيرة" بقدر ما يأتي من الحساسيات التي تأتي من جيل لاحق نتيجة للعلاقات غير الصحية في المشهد الأدبي الذي تطبعه الأنانية ومحاولة إلغاء الآخر مهما كانت عبقريته وقيمة ما يكتب. لكن تلك النصوص فرضت نفسها مع الزمن قبيل الدخول في عصر النشر الإلكتروني التي يحتاج الكلام عنه إلى سياق غير هذا السياق. فاطمة ابريهوم/ قاصة القصة مازالت تمشي طريقها في غياب دراسات جادة يظل الحديث عن أي فن أدبي في بلادنا- مجرد انطباع أو تمرير لأراء في كثير من الأحيان لا تمثل إلا أصحابها ممن يتبعون موجات الكتابة، فنسمعهم يرددون أن القصة ماتت، وأن ديوان العرب المعاصر لم يعد إلا الرواية، وعلى من يكتب أو يستمر في الكتابة أن يكتب الرواية. ليتهافت مرتزقة الأدب من أجل الظفر بمكان تحت شمس الرواية، منظرين لأنفسهم بأفول عصر أدبي وبداية آخر، ناشرين بعض الروايات التي لا ترقى للقراءة!. بعيدا عن هذا التوجيه أجد أن القصة كما الأدب والفن عموما مازالت تمشي طريقها، وأن كتابها حتى الذين بحثوا عن فضاء أرحب منها ما يفتأون يحنون إلى ذكائها، وتركيز صورها، وتلميحاتها متكئة في رأيي هذا على العدد الكبير للمجاميع التي نشرت ومازالت تنشر في عقدنا الأخير هذا، وهي مجاميع تميزت بتصدر الكتابة النسوية. وهنا يحضرني تجديد الأديبة جميلة زنير لإعلان للقاصات اللواتي لم تشملهن أنطولوجيتها التي ضمت أربعا وأربعين قاصة، وأظنه عددا لا بأس به إذا ما تذكرنا أنه قبل خمسين عاما لم يكن على هذه الأرض إلا بضع كتاب يعدون على أصابع اليد (ولا يهم أيمنى كانت أم يسرى) ممن يحسنون العربية. فأن تحضر أديبتنا جزءها الثاني أظنه يفند ما يقال عن القصة التي تتفرع إلى قصص طويلة وقصيرة وأقصوصات وقصص قصيرة جدا لتفرض خصوصيتها وتسمع صوتها بتقنيتها. يدفعني هذا إلى استخلاص أن الأمر إذا ما تناولناه بالعدد فسيقلب مفاهيم كثيرة، طارحة السؤال التالي: لكم كاتب كان العرب يقرأون قبل عشرين سنة فقط؟، أسماء معينة ومحددة اجتمعنا عليها عبر ما يصلنا أو بتأثير من المقررات المدرسية، في حين ننفتح اليوم على أسماء لا تنتهي في كل دولة عربية فما بالك بها مجتمعة، كتاب يتناولون أنواع كتابية مختلفة ومنها القصة. فالسؤال الجوهري لا يخص القصة وحدها إنما هل نحن نقرأ الأدب؟، هل نجح النقد -كما في مطلع القرن السابق- في إقناع القارئ غير المتخصص بأسماء أدبية غير ما أوصلته المؤسسات الرسمية أو بعض الإعلاميين المزمرين لأسماء بعينها، مارين على تجارب "بإسرار الحسو في الإرتغاء" كما تقول العرب؟، وهل نجح الأدب في التعبير عن هموم وآلام وتطلعات ملح الأرض؟، فمازال الكِتاب تلك التعويذة التي يخافها القارىء لأنه سيجد بين طياتها ما يعكر صفو نومه من قرون. ومازال الناس عندنا يثقون في اختيارات التلفزيون والجريدة لهم، ويقبلون أن تصنع هاتان الوسيلتان أذواقهم، ويشترون كل البضاعات الغالية غير الكتاب المسكين!. خالد ساحلي/ كاتب وقاص القصة أقرب إلى القارئ أكثر من الرواية وأقرب إلى النسوة كتابة و قراءة، لكنها ليست بخير القصة القصيرة جنس أدبي، جنس اللحظة وتؤرخ للراهن والذي هو في صالحها، في زمن التدوين وفي زمن الأدب الرقمي القصة أقرب إلى القارئ أكثر من الرواية، يستطيع الإنسان أن يقرأ القصة في إعتراف ناشط حقوقي وفي تعليق رجل سياسي، في بوح متظلم وفي دفاع مواطن عادي ينشر وقائع ما حدث له في جريدة أو في موقع إلكتروني بل هي حاضرة الأسواق والمقاهي، القصة القصيرة أقرب لإنسان العصر من أي جنس أدبي آخر وقد تكون الأقرب إلى النسوة كتابة أو قراءة في الوقت ذاته، فالمرأة اليوم مع انشغالاتها المنزلية و واجباتها الزوجية لا تستطيع المواظبة والإستمرار في تصفح كتاب، هي تفضّل القصة على قراءة رواية لأنها لا تملك الرغبة والمقدرة الكاملة على متابعة أحداث رواية وشخصياتها المتعبة وفصولها المتشعبة المتماسكة أحيانا والمتقطعة أحيانا، المرأة لا تستطيع أن تبقي في ذاكرتها مراحل الرواية ولم تعد البتة متأثرة بنفاق لغة الشعر الكاذبة، إن من يصبح له أطفال لا يمكنه إلا أن يحفظ قصصا ليرويها لأطفاله، لا يمكنه إلا أن يقرأ ويسرع في إنهاء ما قرأ حتى يبقي في روحه جمال اللغة وسحر السرد والأدب. زمن الشعر ولى وبامتياز وعصر الرواية إن لم يكن قد ولى فهو في طريق فقدان رونقه وبريقه. في الغرب ظهر نوع جديد من الوعي يبرز من خلال الثورة السبرانية والمعلوماتية، وما أوفر القصص التي تُنشر على المدونات وحتى المواقع الشخصية الصحفية والمنتديات، هذه الأفضية الجديدة التي تتجنب الملل لتتماشى مع متطلبات العصر. لا عجب أن تجد القصة القصيرة من يغازلها ويحبها كتابة أو تفرض ذاتها كفن أقرب إلى اللحظة وإلى الغرض. القصة اليوم في الجزائر ليست بخير والكل يعرف أن الذي ليس بخير هو الثقافة والأدب في بلادنا وما القصة إلا جزء من الكل في المشهد السردي الجزائري. القصة القصيرة موجودة وسحرها لا زال تأثيره على المشهد الثقافي بل إنها كل يوم تجد من يخطب ودها ويتقرب إلى عرشها عله يفوز بعطائها وودها ليصير جنديا من جنودها. الحقيقة التي يجب الإقرار بها ولو أن الحقائق كثيرة ولكل وجهة نظره كما هو معروف ومتداول فإن الجوانب المتعددة من المشهد الأدبي الجزائري تكاد تكون مبتورة من الواقع المغربي والعربي والعالمي، هناك إنغلاق وغياب مسائلة نقدية وعلمية في الجزائر حول ما يكتب وما ينتج ولو أن التراكم الكيفي والنوعي الجيّد هو أساس المعرفة والإبداع، نحن لسنا ضد القبيح من الجديد فحتى للقبح جمال من خلاله نزداد إكتشافا للجمال، إننا لا نجد من يقدم هذا الزخم السردي الأدبي والفلسفي الذي يحمل فيه متناقضات كثيرة للمجتمع ويعالج السياسي والنفسي وكل ما يتعلق بالإنسان الجزائري من الفرد العادي الموجود في أعماق فرجيوة إلى المواطن الغير عادي الذي يتردد على ساحة الشهداء في العاصمة. الكاتب روح محلّقة مبدعة حين ينتج قصة قصيرة في دقائق ليمسك بتلابيب اللحظة وموضوعها وهدفها دون إغفال وإهمال. القصة القصيرة لا يمكنها أن تكون أدبا استعجالا يضر بها لأنها نتاج الوعي الذي يخوض في مناقشتها أو مسائلتها لموضوع الواقع بشكل إيجابي قبل نقلها للآخر. المشهد الأدبي والثقافي في الجزائر وسط شبه فارغ من مثقفيه، من كتابه ومبدعيه، منهم من انزوى ومنهم من ترك دودة العقل ومنهم من رمى بقصصه في الرفوف والأدراج وعلى الأقراص الصلبة ليأكلها التلف ويعبث بها الغبار. شيء واحد يعرف الجميع: القاص أو أي مبدع على السواء لا أحد ينظر إليه، نساه البشر وأقصاه السياسي وصار أضحوكة الجهلة وغرض السماسرة، ناوئه جهلة الدين والعلم وحرّضوا ضده القراء. أضف إلى ذلك غياب القارئ الذي فقد ذوقه لكثرة الرداءة وطفوها إلى السطح على حساب الأعمال الكبيرة والجيدة، المؤسف حقا أن بعض الكتاب الذين يتخذون من الأدب ترفيها لتزجية الوقت هم من يتركون فضلات قصصهم في المكتبات ولأنهم ببساطة يملكون المال لطباعتها وقد يكون لهم نفوذ، خذ مثلا على ذلك صندوق الإبداع الذي وفرته الدولة ووزارة الثقافة فما ضفر به كتاب العاصمة الذين لهم اليد الطولى على غيرهم من باقي الولايات، الأدب ليس في العاصمة والكتاب الحقيقيين لو فتشنا عنهم لوجدنا كنوزا من الأدب عندهم، مئات القصص التي تنتظر الإفراج فمن المحرر يا ترى؟ هل هناك قارئ للقصة القصيرة؟ السؤال صعب لأن هناك قارئ لجرائد لا تنشر غير الأخبار المخزية والمفجعة، هناك بعض الجرائد اليومية التي يستحي الإنسان أخذها للبيت لما فيها من سفالة في نشر الأخبار وإن فتشت في داخلها عن نصف صفحة أدبية فلن تجدها، بكل صراحة ماذا قدّمت بعض الصحف للمشهد الأدبي والمعرفي والثقافي في الجزائر؟ والتي تسمي نفسها حرة وهي لا تنشر مقالا واحدا أو قصة يهتدي بها قارئها لمعنى الحرية، نحن بحاجة إلا مسائلتها، أليس كذلك، فهي تدّعي معرفتها بالبحر وهي لم تضع مرة واحدة رجلها في الماء ولا تعرف الشاطئ. نحن بحاجة إلى خلق وعي للكتّاب أنفسهم لإجبارهم على شق طريقهم واختيارهم دون التمسك برأي الكتاب الذين يسوّقون لفكرة أن الزمن زمن الرواية، نحن في سوق أدبية إن كانت لديك سلعة على قدر كبير من الجودة فالكل يقصدك ويشيد بما عندك وإن كانت على غير ذلك فلا عيب إن بقت مكدسة ولو كانت بالأطنان، القصة القصيرة تسويق إن صح مني التعبير، وهي قادرة على تسويق نفسها بنفسها دون جواز مرور، ولا جمركة ولا دمغة، نحن بحاجة إلى خلق تقاليد للقارئ ليرمي ثقافة الإستهلاك الثقافية ونقنعه عامة أن القصة القصيرة فلسفة وهي مرجع حقيقي لعصر ثقافة الصورة. القصة القصيرة في الجزائر عريقة وفي كل قواها ويمكنها الدفاع عن نفسها أمام أي هجوم كاسح من الأنواع الأخرى لأنها تملك سلاحا ساحرا قويا تخبئه وتتميز به عن غيرها من الألوان والأنواع الأدبية، إنها الشجرة الوافرة الثمار التي تعطي أكلها وتختزل الوقت لقاطفها فلا تتركه يتسلق ويتيه في فروعها إنما يمد يده ليتساقط عليه الرطب الجني، تبقى الإشكالية فيمن له ذوق في جمال الثمرة قبل أكلها وفيمن لحقته اللعنة فلا يرى على جانبي الطريق لا الشجرة ولا الثمرة ولا جمالها. المستقبل للقصة القصيرة التي تعترف بجانب اللامعقول في العالم والمعقول وتملك الصلاحية في الزمن ولا تحتاج إلى تنفس اصطناعي، إنها ضرورية للواقع ليتحقق للإنسان المعقول الذي يمكنه من التغلب على العوائق الكثيرة ويتحقق له فرصة السعي في معرفة وإدراك ذاته وذوات الآخرين، القصة القصيرة أصعب جنس أدبي باعتراف النقاد لأنها تنتقل بين النقيض والنقيض في جدل لا تتاح له كثرة الوقت ويفرض عليها كثير من الإختزال. المستقبل للقصة القصيرة لأنها أقرب إلى صلب الحقيقة ويعترف أشخاصها كثيرا بالخطأ، فالخطأ مرحلة ضرورية للوصول إلى يقين المتعة. كثير ممن قرأوا قصصي القصيرة أخبروني بكتابة قصصا مكمّلة لبعض القصص التي كتبتها من قبل وافترضوا كثيرا من النهايات لها، تأكدت بعدها أنني أثرت في المتلقي ونجحت في الحصول على الأثر. القصة القصيرة جزء ضروري من الرواية ولا وجود للرواية إلا من خلال القصص. المقاتل يعرف أن كل الأسلحة مصنوعة من حديد فما المعنى من سلاح أبيض وآخر أسود. بشير مفتي/ روائي فن القصة لم يمت بعد، بل يعرف مرحلة من السكينة والصمت إذا أردنا أن نكون متفائلين فسنقول بأن القصة القصيرة مازلت تعرف بعض الحراك من خلال أسماء قصصية جديدة أصدرت في السنوات الأخيرة بعض الأعمال التي تحتاج إلى انتباه مثل "ست عيون في العتمة" لعلاوة حاجي أو "ميت يرزق" لمحمد رابحي أو "الحماية الزائدة عن الليلة الألف" لخالد ساحلي، وأن بعض الأسماء مازالت مواظبة على كتابة القصة مثل السعيد بوطاجين الذي أصدر مجموعته الخامسة "تاكسانة.." والخير شوار أعاد طبع مجموعته الثالثة "مات العشق بعده" وكل ذلك يعني أن هذا الفن لم يمت بعد، بل يعرف مرحلة من السكينة والصمت، والهدوء ولكن إذا أردنا أن نكون متشائمين فسنقول أن القصة القصيرة تحتضر بالفعل وتتلاشى من مشهدنا الأدبي ويجب وضع المشهد بين قوسين، فنحن غالب الوقت نتخيله أكثر مما هو حقيقة والأسباب كثيرة لكي نعلل بها نهاية جنس أدبي وموته في الواقع المادي.. أولها أنه من الصعب الوفاء لجنس القصة فغالبية الكتاب ينتقلون للرواية بسرعة إن أسعفتهم الموهبة لذلك الإنتقال، ولهذا لا نملك قاصا منخرطا في هذا الجنس فقط منذ بدأ الكتابة إلى اليوم، ربما الوحيد هو السعيد بوطاجين لكنه كتب هو الآخر الرواية في نهاية المطاف على عكس ما نجده في المغرب حيث هناك أسماء مكرسة فقط في جنس القصة القصيرة مثل إدريس الخوري أو أحمد بوزفور..الخ. ثانيا بالنسبة للأجيال الجديدة التي ظهرت مع نهاية الثمانينيات نجد أنها كتبت القصة نتاج غياب النشر (نشر الكتب) وأن القصة هي الشكل السردي الملائم للصفحات الثقافية (المنبر الوحيد في تلك المرحلة) وبالتالي بعد توفر النشر تخلى العديد من الكتاب عن هذا الفن الذي أغلبنا كتبه بشكل إعتباطي وغير إحترافي ولم نبدع فيه بالشكل الذي يجعلك تشعر بقيمة نصوصك القصصية حينها. ثالثا أظن بأن المناخ الثقافي العام يمكنه أن يقتل الأدب بشكل عام وليس القصة القصيرة فقط، فالشعر أيضا يعرف إنحسارا وتراجعا ملحوظا بسبب ضعف القراءة وغياب التشجيع وانعدام الحركة النقدية الجادة المؤازرة لأي إبداع. مناخنا الثقافي مجفف ومجحف ويدعو للاعتزال والصمت. رابعا يجب أن نعترف بأننا في عصر القرية الصغيرة وأننا نتأثر بما يحدث في المشرق والغرب بشكل عام وبالتالي هناك تحفيز على الرواية من خلال الكثير من الجوائز العربية المهمة كالبوكر ونجيب محفوظ وغيرها وهذا التحفيز صار يؤثر فينا نحن كذلك ويخلق عندنا نقاشا حول الرواية أكثر من أي نقاش آخر، وحتى بالنسبة للشعر نشعر بانحسار الشعر الحداثي وعودة قوية للشعر العمودي التقليدي بسبب برامج شاعر المليون وأمير الشعر.. الخ وهذا في رأيي له دلالته في مشكلة القصة القصيرة ببلادنا. خامسا ما أدعو له هو أن لا يكتفي كتاب القصة القصيرة بكتابة القصص فقط ولكن بالتجمع في حركات قصصية. عندما أزور المغرب الأقصى أتفاجأ من حضور القصة في الثقافة المغربية من الجمعيات التي تنشر وتنظر وتعقد ملتقيات وندوات وتؤسس لمنابر ومجلات تعمل كلها في إطار الدفاع عن هذا الجنس الأدبي ونفس الشيء نجده في مصر الأدبية ولكن عندنا عادة ما يكتفي كتاب القصة بالتشكي والتظلم في عهد إن لم تبادر وتناضل لن يسمع بشكاويك أي أحد وأتأسف دائما أن هناك ملتقيات أدبية تصرف على تذاكر السفر والمبيت والأكل ما يمكنه أن يؤسس لمجلة أدبية دائمة الصدور وحاضرة في المشهد لعقد بأكمله. لا أدري من نلوم وبالتأكيد سنلوم الجميع ومن الأحسن قرع أجراس الخطر على دفع الجثة إلى القبر. قلولي بن ساعد/ قاص وناقد السلطة الرمزية للرواية لم تحول دون الإهتمام بالقصة إبداعا وقراءة ونقدا أعتقد جازما أن القصة الجزائرية القصيرة وإن لم تأخذ الإهتمام المطلوب المتمثل في ذلك الحيز الواسع من الذيوع والإنتشار والتداول الإعلامي والنقدي الذي إستحوذت عليه الرواية والشعر أيضا إلا أنها لازالت تجد لها مكانا متميزا لدى عدد من القصاصين والمهتمين بها قراءة وكتابة ونقدا بعدما تخلصت كلية من المحمول الفني الملتبس بالإيديولوجيا الإشتراكية التي سادت في فضاءنا الثقافي الجزائري ردحا من الزمن، وهذا يعني فيما يعني أن هناك طلاقا بائنا ونهائيا مع المفهوم الوظيفي ذي الطابع الإلتزامي الفج للكتابة القصصية، ولربما أمكن القول أن القصة الجزائرية بعدما دشنت طلاقها مع هذا المفهوم بدأت تشهد بعض التحولات وإن لم تذهب في ذلك بعيدا على صعيد الإعتناء باللغة والمفردة والعودة إلى إستنطاق التراث الحكائي الموروث كمياه سفلية للنص القصصي عززت صلة القاص الجزائري بالموروث الحكائي وأعادت طرح علاقة الكاتب المعاصر بالماضي والحاضر في إطار الرغبة المحمومة لتجاوز السرد النمطي إلى شكل آخر من الكتابة القصصية من خلال الإختراقات الشكلية والأسلوبية التي تتم عبر بناء الفقرات والجمل ذات "الأداء البياني" الذي عرفه القص العربي في فن المقامات والرسائل لدى الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وغيرهما... صحيح أن هناك من هجر القصة واستسهل الإنتقال إلى الكتابة الروائية بحكم أن القصة لم تعد تكفي للإحاطة بكافة همومهم وإنشغالاتهم وأسئلتهم الوجودية والثقافية والتاريخية وأن المتاح لديهم هنا هو "الإهتداء" وليس "الإقتداء"، "الإهتداء" إلى جنس أدبي آخر يسع كل هذه الهموم والأسئلة التي يود المبدع سفح تفاعلاتها على بياض الورق أو شاشة الكومبيوتر ولن يكون بالطبع إلا فن الرواية لما يمثله من "سلطة رمزية" في ظل ذلك الإعتقاد الساذج الذي طغى على تفكير عدد من كتابنا والمتمثل أساسا في إقامة الحدود والفواصل بين القصة والرواية على مستوى الحجم وعدد الصفحات في ظل غياب معرفة نقدية ومفاهمية لديهم بخصائص الأجناس الأدبية، ليس فقط على صعيد الشكل وإنما أيضا على مستوى ممكنات الوجود التخييلي في هذا الجنس الأدبي أو ذاك من سيرورة الأحداث والوقائع النصية وتعقدها وتشابكها والإنتقال من مشهد إلى آخر ومن فترة زمنية إلى أخرى. غير أن هذا كله لم يشكل أبدا عائقا دون توالي صدور العديد من المجاميع القصصية في الجزائر اليوم على إختلاف مستوياتها البنائية والتصويرية في إثارتها لأسئلة الذات والوجود والتاريخ والمخيال عبر محاورة جميع عناصر هذه الأسئلة واستنطاقها وقراءتها كمعطي إبداعي شديد الخصوصية للكشف عن أسئلتها المضمرة أو المغيبة