بقلم: محمد زاهد غل لم تكن المؤامرة الأخيرة باتهام حكومة العدالة والتنمية سهلة على رئيسها رجب طيب أردوغان، فقد تعرض للكثير من المؤامرات طوال حياته السياسية، خاصة بعد تسلمه رئاسة الحكومة التركية منذ عام 2003، لكن قسوة المؤامرة الأخيرة أحرجته جدا، لأنها جاءت من حليف. والمحرج أكثر أنها جاءت من الوسط الإسلامي المتدين الذي يراهن أردوغان على أنه معه ضد كل المؤامرات السابقة من العلمانيين والقوميين واليساريين وغيرهم، وما كان أردوغان يأمله أن يكون التنافس مع الأحزاب أو الأوساط ذات المرجعية الدينية والإسلامية في حدود الأخوة الإسلامية وأخلاقها، وفي حدود المحبة الإيمانية وآدابها، وإن اختلفت وجهات النظر السياسية. بيد أن مؤامرة فتح الله غولن لم تأت على هذا المنوال ولا بهذه الأخلاق الإسلامية، لأنها تعمدت الإساءة المباشرة للأشخاص، بتوجيه تهم بالفساد من جهة لم يكن من المتوقع أن تخون الوطن، ولا أن تغدر بالمتحالفين، بحكم أنهم -ولو في الظاهر- من أصحاب رؤية واحدة في الدفاع عن (تركيا المسلمة)، بكل ما تعنيه هذه العبارة من معان ثقافية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية. هذا الحرج الذي عاناه أردوغان يفسره اجتماعه مساء السبت 25 / 1 /2014 بكل قيادات الجماعات الإسلامية في جلسة مغلقة، واستمع إلى آرائهم وتطلعاتهم وملاحظاتهم، بل وحتى إلى انتقاداتهم، وهي عادة ليست بالجديدة على رئيس الوزراء، وكالعادة أيضا كان هناك ملاحظات ومطالب وانتقادات للعديد من المسائل، والتي استمع إليها أردوغان برحابة صدر وتفهم ودون غضب من أحد ولا على أحد من الحاضرين. وما يمكن الخروج به من ذلك الاجتماع، الجزم بأن جميع المكونات الإسلامية التركية المتعددة تؤيد مسيرة أردوغان في الخطوط العامة، وتعارضه في العديد من الجزئيات. فمثلا نرى النقد من الإسلاميين لحزب العدالة والتنمية بأنه حزب لم يهتم بالتربية الحزبية اللازمة، وأن مجموعة القيم التي تؤمن بها القيادات لا تتوافر في أعضاء الحزب لعدم إيلائه الاهتمام بالتربية بالقدر الكافي، كما كان الحال أيام المرحوم نجم الدين أربكان. وذلك مثال واحد فقط، وإلا فإن قائمة الملاحظات النقدية لحزب أردوغان تطول لدى القيادات الإسلامية، لكن أغلبهم يدعون له بالتوفيق والنجاح والسداد، كما يدعون أتباعهم للتصويت لصالح الحزب إلا ما ندر. في هذا الاجتماع نلاحظ أيضا استثناء جماعتين فقط هما: الأولى: جماعة (ملي غروش) أو حزب (السعادة) الذي بات منقسما على نفسه إلى ثلاثة تيارات متصارعة، ولم يعد لديه تلك القدرة على الحشد والتعبئة بعد وفاة الأب المؤسس نجم الدين أربكان. الثانية: جماعة الشيخ الواعظ المتقاعد فتح الله غولن، وهي الجماعة الإسلامية الغامضة التي أصبح يطلق عليها الجناح الديني لتنظيم (أرغنكون)، كما تسمى حاليا في الشارع التركي. وبالرغم من أن جماعة الخدمة أو جماعة فتح الله غولن كانت من أكثر الجماعات الإسلامية التي استفادت من وجود أردوغان على رأس الهرم السياسي، فقد استطاعت في الفترة ما بين 2002 و2011 التغلغل في كل أجهزة الدولة وتوسيع نشاطها العام أضعافا مضاعفة، إلا أن فتح الله غولن بات يتبنى بشكل عملي واضح أطروحة المعارضة السياسية لأردوغان أولا، ويتبنى الدعم المباشر لحزب (الشعب الجمهوري) المعارض اللدود لأردوغان ثانيا، وأخيرا تحولت معارضته من معارضة فكرية نظرية إلى أعمال خارجة على القانون والعرف السياسي العام. النمط الجديد الذي أصبحت تمارسه جماعة غولن هو جعل كوادرها داخل الدولة تنزع إلى محاربة كل سياسات الدولة، وليس سياسات الحكومة فقط، والتحالف مع أعداء الداخل والخارج، وكأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، حتى وصلت بهم الجرأة حد اتهام الحكومة بأنها تسعى لامتلاك القنبلة النووية. ويمثل ذلك إشارة إلى رغبة فتح الله غولن أن يقف الغرب وأميركا ضد مشاريع أردوغان النووية السلمية، وأن تعادي سياساته الداخلية، وبالتالي تقوم بالتضييق عليه كما فعلت من قبل بالعراق وبإيران تحت التهم الكاذبة نفسها، بداعي امتلاك أسلحة دمار شامل أو التخطيط لبنائها، والتي أشاعها (منتفعون وخونة) من أبناء تلك البلاد. كما حاولوا مؤخرا إلصاق تهمة دعم الحكومة للقاعدة بكل ما أوتوا من قوة، إذ قاموا من خلال جهاز شرطتهم بإيقاف نحو عشر شاحنات في طريقها إلى سوريا بدعوى أنها تحمل السلاح للقاعدة في سوريا، لكن سرعان ما تبين زيف اتهاماتهم الباطلة. كما اتهموا أحد المتطوعين العاملين مع جمعية الإغاثة الإنسانية (IHH) بالعمل مع القاعدة، وبدلا من اعتقال الشخص المشتبه به في منزله المعروف ليلا اقتحموا في الخامسة فجرا مقر الجمعية في مدينة (كلس) على الحدود السورية بحثا عن المشتبه به، وعندما لم يجدوه في مقر العمل قاموا بتفتيش المكان لساعات صادروا بعدها أجهزة الحاسوب وكل الأوراق الرسمية للجمعية. وفي ذلك أيضا إشارة على أن فتح الله غولن وأتباعه يريدون الإتيان بالعداء الغربي والأميركي لحكومة العدالة والتنمية ولو باختلاق التهم والأكاذيب المتعلقة بتهم دعم القاعدة ومساعدة الإرهابيين. بعد انكشاف زيف هذه التهم اضطر المدعي العام والشرطة إلى الاعتذار عن عملها غير القانوني وغير المنضبط بالأصول المهنية، لأن السؤال سيبقى يبحث عن جواب مقنع لماذا جاءت شرطة مدينة (وان) إلى مدينة (كلس) التي تبعد عنها 950 كيلومتر في منتصف الليل لتداهم مقر جمعية ليس لديها إلا ما تقدمه للفقراء والمساكين؟ الجواب الراجح لدى الشعب التركي أن وراء ذلك أيادي خارجية، هي التي تخطط أولا، وتحاول معاقبة الحكومة التركية ومواقفها المؤيدة للقضايا العادلة ثانيا، ومنها القضية الفلسطينية، وكذلك محاولة الأيادي الخارجية نفسها معاقبة جمعية الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) على مواقفها ولاسيما من إسرائيل. وحتى لا يذهب ظن بعض القراء إلى أن في الكلام دفاعا عن حكومة العدالة والتنمية فقط، أو أن ربط نظرية المؤامرة بقضية الفساد وما سواه من الحوادث هو محاولة للهروب من الحقائق، سيكتشف القارئ في هذه العجالة دليلا على ارتباط بعض العناصر من جماعة فتح الله غولن مع الإسرائيليين، من خلال عمل سيقع في هذا الشهر بتركيا، أي أن الدليل سيأتي في الأيام القادمة وليس من خلال ما وقع في الماضي فقط، لأن ماضي جماعة فتح الله غولن من نهاية السبعينيات حافلٌ بالعلاقات الودية مع إسرائيل، ويحتاج إلى توثيق في كتاب وليس في بضع مقالات فقط. فجامعات فتح الله غولن لها العديد من الاتفاقيات مع الجامعات العبرية، كما أن أساتذة من الأخيرة يدرسون التسامح الديني في جامعات غولن، بالإضافة إلى الاحتفاء بعشرات الشخصيات الإسرائيلية في مؤتمرات علمية وسياسية، وأرشيف جريدة (زمان) حافل بكل هذا. لكن ما ستشهده مدينة إسطنبول في الأيام القادمة أهم مما ذُكر في سجل الجماعة التي تدعي أنها إسلامية، ودون أن تكون مضطرة لذلك بحكم أنها جماعة دينية وليست حزبا سياسيا حاكما يتعامل مع البروتوكولات الدولية المبرمة سابقا، أي بين الحكومات التركية السابقة مع الدولة الإسرائيلية. فبعيدا عن الأنظار يستعد منتدى الحوار بين الأديان والحضارات (KAD_P) الذي تأسس برعاية مباشرة من وقف الصحفيين والكتّاب والذي يرأسه فتح الله غولن، للقيام بعدة فعاليات في هذه الفترة، يمكن الحديث عن إحدى هذه الفعاليات لمنتدى الحوار الذي يرأسه سعاد يلدرم رفيق السكن لفتح الله غولن لسنوات طويلة، وهو نائب رئيس وقف الصحفيين والكتّاب (GYV) ومعهم في مجلس إدارة المنتدى أحد الأسماء الغريبة (إسحاق كولمان) (مستشار الحاخامية الكبرى لليهود الأتراك) و(يوسف آلتن تاش) (السكرتير العام لحاخامية اليهود في تركيا)، بالإضافة إلى الكثير من الرهبان الموجودين في مجلس الإدارة. ويمكن للبعض القول: وما الغريب في ذلك؟ فنحن نعلم أن هناك بعض الفعاليات التي تُنظم في تركيا تحت مسمّى التسامح وحوار الحضارات. والجواب أن الحديث سيكون عمّا هو أبعد من ذلك، إذ إن الفعالية الجديدة هي (برنامج تخليد ذكرى مأساة ستروما)، لتخليد ذكرى 770 مسافر يهودي كانوا على متن السفينة التي أُغرقت في 24 فيفري 1942، وقام منتدى الحوار بين الحضارات التركي (KADIP) التابع لمقربين من غولن بطباعة بطاقات الدعوة بصمت وهدوء وبدأ بتوزيعها، وسيكون ضيوف الشرف في هذا البرنامج الذي سيُقام في إسطنبول اليوم 24 من شهر فيفري سياسيين من دولة الاحتلال الإسرائيلي. والسؤال هو: ما الذي يضطر هذا المنتدى لأن يتبنى تخليد ذكرى مأساة يهودية مشكوك فيها أولا، إذ إن الوثائق الدولية تثبت أن أحد الغواصات السوفياتية هي التي أغرقت السفينة (ستروما) على ساحل إسطنبول وليس السفن التركية، إلا أن الصهاينة استمروا ولسنوات طويلة في الادعاء بأن الأتراك هم من أغرق السفينة، بينما منتدى الحوار المذكور (KAD_P) نفسه -وإلى يومنا هذا- لم ينتقد ولو بكلمة واحدة الهجوم الذي تعرضت له سفينة (مافي مرمرة)، وهي تحمل المساعدات الإنسانية لغزة المحاصرة عام 2010، وأدى إلى سقوط تسعة شهداء من المتطوعين من الشعب التركي، فكيف يتنكر المنتدى لشهداء الشعب التركي ويصطف إلى جانب الأكاذيب الصهيونية والإسرائيلية؟ إن الهدف من الدعوة إلى تخليد هذه الذكرى هو استرضاء الحركة الصهيونية والإسرائيليين للوقوف معهم في معارضة حكومة العدالة والتنمية، وإلا فما الذي يضطرهم إلى هذه الأعمال التي تعادي المشاعر التركية، وفي الوقت نفسه تتجاهل حقوق الشهداء الأتراك التسعة على سفينة مرمرة الذين قتلوا في عملية قرصنة إسرائيلية شاهدها العالم أجمع. فهل مأساة (ستروما) أحق من مأساة (مرمرة)؟ أم هي المكائد الخارجية والخضوع للمطالب الصهيونية والإسرائيلية؟ إن ما يحرج أردوغان هو أن يتآمر عليه من ظنه من أبناء الشعب التركي المخلصين، ولكن ما يحرج الشعب التركي أكثر هو أن يكون من بينهم من يجاهر بإرضاء الحركة الصهيونية العالمية ودولة الاحتلال الإسرائيلي على حساب سمعة الشعب التركي وحقوقه وقضاياه. فالخلاف مع فتح الله غولن لا ينبغي أن يكون على صراعه السياسي مع أردوغان، ولا على تنافس جماعته مع حزب العدالة والتنمية، وإنما على أن يكون الصراع ديمقراطيا وأخلاقيا معا، من أجل الحفاظ على التقدم التركي والازدهار الذي تحقق في ظل حكومة العدالة والتنمية. إن كل مواطن تركي مطالب بأن يكون عمله وإخلاصه من أجل تركيا، الدولة القوية، والدولة الديمقراطية، والدولة المنافسة على صدارة دول العالم الكبرى في العقد القادم إن شاء الله. * كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن التركي