ما تفعله كتب تفسير الأحلام، أنها تحوّل أحلامنا إلى مفردات واقعية، صلبة، يمكن الإمساك بها، تُجمّد الاحتمالات الكثيرة لأحلامنا فى احتمال واحد، بحيث يمكن تسميتها كتب تجميد الأحلام، الخيال يفعل عكس ذلك مع العالم، فهو يفككه، يُحرّره من جموده، يكشف عن أبعاد جديدة لمفرداته، ويمنحها أكبر عدد ممكن من الاحتمالات، مع ملاحظة أننا حتى عندما نفسر أحلامنا، فإننا نفعل ذلك أيضًا عن طريق الخيال. الخيال منطقى، عقلانى بطريقته، أنت عندما تنتقل من نقطة إلى أخرى داخل الخيال، فلا بد أن يكون هناك منطق يجمع بين النقطتين، مهما كان جموح هذا الخيال، الرائع فى منطق الخيال أنه شخصى جدًا، كل إنسان يمكنه أن يقدّم ليس تفسيرًا واحدًا للحدث نفسه، وإنما عدة تفسيرات، بعضها متناقض، وكلها صحيحة، وكأن هذا الحدث قد وقع فى حيوات مختلفة تحت هذه التفسيرات، المنطق فكرة تخيّلية بالأساس، كما أن الخيال لا يمكنه أن ينمو ويتطور إلا بطريقة منطقية، بينما أحيانًا، يا للغرابة، يفتقد الواقع للمنطق، ويعجز عن تفسير نفسه، أو ربما يتعمّد أن يكون غير مفهوم، وعندها لا يمكن تفسيره إلا بعين الخيال. الخيال شريك أساسى فى صياغة العالم، وإعادة تشكيله، يُقدّم اقتراحات غير اعتيادية للتفاهم معه، والإحساس به، يقرؤه مرة بعد أخرى، ويقدم معان جديدة فى كل قراءة، فنعرف أن الأشياء تتصرف بطريقة غير ما اعتقدنا لسنوات طويلة أنها تفعله، ونكتشف أنها ليست ما اعتقدنا لسنوات أنها عليه، الخيال لا يهتم بالحدث بشكل أساسى، ما أهمية سقوط حجر فى الماء؟ الحقيقة أن هذا مهم، لا شىء فى العالم غير مهم، كل على طريقته، لكن بالنسبة لحجرنا هذا، فالجميع سيراه حال سقوطه، وينتهى الأمر هنا، لكن الخيال يستمر فى المتابعة والتفكير، يرى ما لا يراه غيره، فى الوقت نفسه لا يجزم أن ما يراه هو كل شىء، يعرف ما لا يعرفه أحد، ولا يزعم أن تلك هى الحقيقة، هو أذكى من أن يفكر بهذه الطريقة، الخيال يرى حتى عندما تنعدم الرؤية، يُحلّل العالم لأطيافه وألوانه، يلاعبه، يصاحبه، يعيد تشكيله، يخترعه، يطير داخل حكاياته، يبتكرها، ويتفهم أرواحها المتعددة، وحده يرى الأمواج غير المرئية التى تُشغّل الكون، ويفسرها، الخيال عالم الاحتمالات والفرص اللا نهائية، هو ينقذ العالم فى كل مرة. الغائب عن الوعى، وفاقد العقل لا يمكنه أن يقدّم خيالاً، الخيال يحتاج لعقل كامل، حاضر، وروح مُحلّقة، تُقدّر قيمة العقل والفكرة، أنت لا تحتاج أن تحذف جزءًا من عقلك أو تُغيّبه لتنطلق فى الخيال، على العكس، أنت فى حاجة لكامل طاقتك العقلية، مثل طائر يحتاج لكامل جناحيه كى يُحلّق، حتى إن هذا الطائر لن يُحلّق إن لم يكن لديه عقل، ربما تدفعه غريزته للطيران، لكنه سريعًا ما يسقط، لا بد من عقل يُمنطق الجناحين، يمنطق هذا الطيران , فى طفولتنا، وهى واحدة من أخصب مناطق الخيال، نطرح الكثير من الأسئلة، لأننا نرى الأشياء مختلفة عما يراها الكبار، نتابع حركة الطيور فى السماء، نقلّدها، ونسأل لماذا لا يمكننا أن نطير؟ ونُصرّ أن نحصل على مبرر منطقى يجعلنا نتقبّل عدم قدرتنا على الطيران، لأن المنطقى لنا وقتها هو أن نطير مثلها، طالما نعيش معها فى عالم واحد، لن نتوقف عن السؤال، لأننا نحتاج إلى إجابات بمستوى خيالنا، لا تقدّم مبررًا واقعيًا، وإنما رؤية مختلفة للواقع، وتسمح فى الوقت نفسه بوجود رؤى أخرى كلها صحيحة، لن يكون كافيًا لنا كأطفال أن يقول لنا الكبار نحن لا نطير لأننا بلا أجنحة، نظل نبحث عن إجابة أكثر اتساعًا، وبالتالى أكثر إقناعًا، من الرائع أن نحتفظ بأفكارنا الطفولية عن العالم فى مكان ما من ذاكرتنا ووجداننا نُسمّى أفكار الأطفال وأسئلتهم خيال أطفال، ونَصف أفكار المتقدمين فى العمر بأنها تخاريف كبار، لماذا؟ لأن أسئلة الكبار تكون عن الواقع القريب، أو حتى البعيد، لكنهم فى كل الأحوال لا يطلبون تفسيرًا واسعًا، وإنما إجابة أحادية ضيقة، يفسرون الواقع بالواقع، أما الأطفال فلا ترضيهم الإجابة السهلة، عديمة الأجنحة. كيف نسمح لأنفسنا أن نفقد قدرتنا على تخيّل السحاب أشكالاً وحكايات، كيف يمكننا أن نخنق أحلامنا ولا نرى الفراغات فى جسم القمر حيوانات وطيور وكائنات خرافية، شىء حزين أن تتجمد تلك المياه الهائجة فى عقولنا وتصير جليدًا، حزين أن يتحوّل القمر فى خيالنا إلى مجرد رمال وحجارة، أن نسخر من فكرتنا القديمة عنه، بأنه يمشى معنا فى الشوارع، ننظر إليه الآن بعد أن صرنا كبارًا ونقول له بسخافة أعرف أنك لا تمشى معى، وكأننا بهذا قد أدركنا حقيقة العالم وفهمناه، وسيطرنا عليه، رغم أننا من السهل أن نتواطأ ونستمتع بالكثير من التفاصيل الصغيرة، شىء حزين أن يتحول العالم إلى معلومات وأرقام، الخيال يهتم بالرسم لا المعلومة، بالحرف لا الرقم، هو ليس طريقة للحساب، الخيال كاتب ورسّام. يبدو أنه لا توجد مسافة حقيقية بين الخيال والواقع، كلٌ منهما يكمل صاحبه، ويساعده ليتجلّى ويُعبّر عن نفسه، تبدو العلاقة بينهما أحيانًا كعلاقة الليل والنهار، حيث يخرج كلٌ منهما من صاحبه، يتبادلان الأماكن، الأفكار، والزمان، أيضًا بينهما مثل ما بين البحر والنهر، فكلٌ منهما يشرب من صديقه، ويكمل به دورة حياته، حتى إن الشىء الواحد يمكنه أن يكون خياليًا فى وقت ما، ثم واقعيًا فى وقت آخر، والعكس صحيح، وبنظرة واحدة على تاريخ البشر والعالم ندرك ذلك، فحتى أشد الأشياء واقعية وقت حدوثها، تصير خيالية بعد عدد من السنوات، وتلك التى كانت فى وقت ما خيالية، تتحول فى لحظة ما واقعًا يوميًا معاشًا، كما أن الواقعىّ فى مكان ما هو نفسه خيالىّ فى مكان آخر، يبدو الواقع والخيال أحيانًا وكأن كلاً منهما إعادة تدوير لصاحبه بطريقة ما، ثم، لماذا أكثر الأشياء خيالاً تحدث فى أكثر الأحداث واقعية، مثلاً، الحروب، والمآسى الإنسانية الكبرى، بواقعيتها الشديدة، هى أكثر الأوقات التى يتجلّى فيها الخيال، ربما لأن الخيال يتمظهر وقتها كى يُطمئن الإنسان، ويُفهمه أن للعالم منطق آخر، وطريقة أخرى. يمكن اعتبار الواقع خيال خام، كما يمكن اعتبار الخيال واقع متعدد، هذا التداخل بينهما يؤكد تكاملهما فى لعبتهما المشتركة، التى لا تكتمل إلا بهما معًا، وتدخل بالأساس ضمن خطة الكون الكبيرة، وتكامله الكبير، كل خيالات البشر تتحوّل إلى واقع، وكل واقعهم يصير خيالاً، لولا القدمين ما حطّ طائر على أرض أو غصن، ولولا الجناحين ما حَلّق فى الفضاء. القلب منبع الخيال، والتفكير من الأساس، كما أنه يحوى الذاكرة الحقيقية والكاملة للإنسان، لذا يمكن لمن فقد ذاكرته أن يستردها ثانية، لأنه لم يفقدها بشكل حقيقى، القلب لا يفقد ذاكرته، هو الطفل الخيالى الجامح بداخلنا، العقل هو الأخ الأكبر الذى يمنطق هذا الجموح، الخيال مزيج القلب والعقل معًا، لو أنه نتاج العقل فقط لكان شيئًا جامدًا، ولو أنه نتاج القلب فقط لكان بلا منطق، حتى أن شكل كلاً منهما يناسب طريقته فى العمل، فالقلب يتكون من أربع حجرات بسيطة مفتوحة بالكامل على بعضها البعض، هو يتدفق، ويدفع كل ما لديه تقريبًا فى كل مرة، بينما العقل، الأخ الأكبر، ملىء بالتلافيف، المتاهات، والدروب السرية، يُموّه أفكاره، يخبئ بعضها ويُظهر البعض الآخر، ولا يطلقها دفعة واحدة. ليس كل من يمتلك مُخًا لديه عقل، وليس كل من يمتلك عقلاً لديه خيال، بينما من لديه خيال يمتلك الجميع، هل كان باستطاعة الإنسان أن يستوعب هذا العالم، ويصدق وجود ما لا يراه وما لا يدركه، إلا بالخيال؟ كلما اتسعت مساحة الخيال فى قلبك وعقلك، اتسع العالم من حولك، وكلما اتسع العالم فى قلبك وعقلك، فإنك تحصل على مساحات أكبر من كل شىء، تكون لديك الفرصة لتتفهم، تضع الأشياء فى مكانها داخل هذا العالم الكبير، فتبدو لك سهلة، بسيطة، تظهر بحجمها الحقيقى، عندها يمكنك أن تتجاوز، أن ترى بشكل مختلف، ترى كمّ الفرص العظيمة للجمال، تعرف أن هناك متسع للتسامح، والمحبة، الخيال يجعلك ترى الواقع بشكل أفضل وأعمق، يفتح لك العالم، فتطمح أن تكون على مستوى وجودك فيه، تفهم جمال ومعنى أن تكون هنا، تدرك أنك أفضل مما تتوقع، والعالم كذلك، يبدو لك كل شىء صغيرًا لكنه مهمًا، بسيطًا لكنه عميقًا، متفردًا لكنه يتواصل مع كل شىء.