فقط في مصر.. يدعوك للمشاركة في الانتخابات مطرب إماراتي، وفقط في مصر يعالج أمراضك المستعصية ويقود الاختراعات الطبية شخص لم يمارس الطبّ في حياته، وفقط في مصر ترسم خطوط الإسلام الوسطي ممثّلة إغراء، وفقط في مصر يُعدّ الرقص الشرقي في الشارع بعد التصويت معيارا للوطنية، وفقط في مصر يعتبرُ المرشّحُ الرئاسيّ أن برنامجه سرّ وعلى الشعب أن ينتخبه إعجابا بهذا البرنامج السري. هذا أنموذج بسيط ممّا تعجّ به مواقع التواصل الاجتماعي حول الانتخابات المصرية وما يحدث في أرض الكنانة منذ الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي وإعلان خارطة الطريق.. صاحب التعليق قال عن المغنّي الإماراتي: يدعوك للانتخابات مطرب لا توجد في دولته انتخابات من الأساس لأن الحكم بالوراثة، ولم ينتخب حتى رئيس حيّ في حياته. هي سابقة إذن ربّما تسجّل لابن الإمارات حسين الجسمي في هذا الظرف بالذات وبهذه الصيغة، فالمشكلة في التوقيت والمناسبة، أما الغناء لمصر، وعيون مصر، فلا غضاضة فيه، فقد غنّى أبناء العرب لمصر وتاريخها والدور المنتظر منها؛ فنهضة مصر هي نهضة الأمّة كلها وتقهقرها يصيب الجميع من قريب أو بعيد. يغنّي الإماراتي لشيء لا يحسنه ولا يعرف له طعما ولا لونا ولا رائحة، والأسوأ حين يقدّمه بين يدي رجل رفع عقيرته ونادى بأعلى صوته في جهات العالم الأربع أن هلمّوا واشهدوا عليّ فأنا الذي أوقف أول تجربة ديمقراطية في مصر، وأنا الذي سجن إرادة الشعب وراء القضبان. يذكّرنا هذا المطرب بالغضب الإماراتي الرسمي بعد تصريحات الرئيس التونسي المؤقت منصف المرزوقي حول مصر ودعوته إلى إطلاق سراح الرئيس المصري المخطوف محمد مرسي.. تصرّفات عجيبة وغريبة بالفعل، لأن من السهل تفهّم الدعم المالي الإماراتي للانقلابيين في مصر بعد أن تجاوزت حكومة محمد مرسي الخطوط الحمراء الاقتصادية وراحت تخطط لبعث مشروع اقتصادي في مدن السويس وهو الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على مكانة دولة الإمارات الاقتصادية.. سنقول إنه الإحساس الطبيعي بالخطر الداهم.. لكنّ ما يصعب تفهّمه هو تلك التشنّجات الدبلوماسية ضد تصريح الرئيس التونسي أو دعوة الشعب المصري إلى انتخاب السيسي من خلال مطرب إماراتي لم يفكرّ يوما في شيء اسمه انتخابات في دولة الإمارات العربية المتحدة التي قايض شعبها الديمقراطية بالرخاء والعيش الرغيد. المفارقة أن مبادرة المطرب الإماراتي جاءت في وقتها المناسب لتضع بين يدي المناوئين للسيسي دليلا إضافيا ملموسا على أن ما يحدث بعد الانقلاب هو مجرّد رقص وغناء، فعندما نقارن المشاهد الواردة في الكليب مع الطابع العام الذي ميّز حملة المرشح العسكري عبد الفتاح السيسي سوف ندرك أن هناك تطابقا بين الأمرين؛ فالرقص هو القاسم المشترك في التظاهرات الشعبية، ومشاهد الأغنية جاءت راقصة وأظهرت أن الشعب المصري لا يحسن سوى الرقص، مع أن مناسبة الانتخابات هي فرصة للتعبير عن الرغبة في الإنجاز والتحدي والنجاح والعمارات الشاهقة والأراضي الزراعية والشباب الرياضي القوي وهلمّ جرّا.. إنه زمن الرقص بامتياز.. عسكري يخلع لباس الخدمة ويستقيل من وزارة الدفاع ثم يرشّح نفسه، ويخوض حملة انتخابية بلا برنامج واضح سوى الكاريزما الشخصية وإشاعات الحاشية بأنه رجل المرحلة ومرشح الضرورة، ثم يعلو صوت المعركة.. المعركة ضد الإرهاب.. لتعود مصر سنوات طويلة إلى الوراء عندما كان الساسة يخوضون لعبة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. المعركة مع إسرائيل طبعا، حين حصد العرب عددا من الهزائم المتوالية. كل دولة ناجحة في عالم اليوم بدأت برؤية محددة المعالم وقابلة للقياس وهكذا يزداد النجاح ويتراكم، أما المرشح الأقوى حظا في مصر فقد أشبع الناس كلاما وتحدث عن رؤيا فقط.. وهذه الأخيرة في المبنى والمعنى تعني الأحلام التي نراها خلال النوم أو حتى في اليقظة، وهذه الأحلام، دون خطط وبرامج واضحة وقابلة للقياس، هي بضاعة الضعفاء والمخادعين والسياسيين الفاشلين. إن إعادة إنتاج النظام المصري القديم حيلة لن تمرّ إلا على نسبة ضعيفة من أبناء الشعب المصري، وحتى لو سكت الكثيرون أو جنحوا إلى الحياد؛ فإن الأيام القادمة لن تكون في مصلحة الانقلابيين، لأن المقدمات التي ظهرت في بداية المشهد لن تؤدي إلاّ إلى النتائج السابقة التي عرفها المصريون طوال عهد حسني مبارك، فالتغيير لن يتحقق إلا بعد التغيير، وما حدث بعد الانقلاب يدلّل بوضوح على وجهة القوم الواضحة وهي العودة إلى القديم. في الحالة المصرية وغيرها تلقّى الناس كميّات ضخمة من التخويف بالإرهاب والفوضى وحتى الجوع، وتطوّع إعلاميون وفنّانون وغيرهم لتشويه صورة أي معارضة تحمل مشروعا حقيقيا للتغيير، ومع ذلك لن يستتب الأمر لهؤلاء لسبب بسيط وهو ازدياد تأثيرات عاصفة العولمة الإعلامية على بلداننا مما سيوفر معلومات جديدة باستمرار ويحمل الشعوب على التأمل والمقارنة ومن ثم التفكير في أحوالها الراهنة. إنّ الشعوب، أو النّخب الشابة على الأقل، تابعت صور رئيس الوزراء البريطاني إلى جانب المواطنين على متن الميترو وهو في طريقه إلى عمله.. كما تابع الشباب صور رئيس الوزراء الهولندي وهو يمتطي دراجة هوائية في طريقه إلى مكتبه، وأكثر مما سبق صور رئيس وزراء دولة إسكندنافية وهو يقود سيارة أجرة، في فترة المساء، ليتعرف أكثر على مواطنيه، والأخطر هو حال رئيس الأورغواي الذي تولى الرئاسة عام ألفين وعشرة وظل يعيش في منزل صغير يقع على طريق ترابي ويستعمل سيارة قديمة ويتبرع بتسعين في المائة من راتبه ويبيع الزهور التي يزرعها في حديقة المنزل كأيّ مواطن عادي.. قال إنه يفضل حياة الأغلبية البسيطة التي انتخبته.. فإلى متى ستظل شعوبنا في معزل عن التفكير في رؤساء ومسؤولين من هذا النمط.1