أدت هذه الهيمنة الأحادية من جهة إلى تدمير اقتصاد العديد من الدول وتفكيك المجتمعات وتشريد السكان وتدمير معالم ثقافية وتراثية وحضارية هي ملك لكل الإنسانية وأسفرت من جهة أخرى إلى ظهور الأزمات الاقتصادية في القوى العظمى التي تملك أقوى عملات التبادل وأطلقت صفارة إنذار لاقتصادياتها وتحذيرا للدول النامية الموجودة في المناطق الاقتصادية الواقعة خارج مناطق اليورو والدولار. وإذا كانت قيم الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها تعبر عن نضوج الوعي وميلاد رؤية جديدة للسلم، فإنّ العالم ونظرا للخارطة السياسية الجاري إعدادها يطلب من الأمم التي لم تبتعد عن مبادئ القانون والعدالة في العلاقات الدولية المساهمة بمقاربات وآليات جديدة تسمح بالمساهمة في تطور عملية تسيير العالم المعاصر. وخلافا لفترة ميلاد حركة عدم الانحياز التي أسسها قادة عظام وملهمون أمثال نيهرو وعبد الناصر وتي تو وقيادات تورية من أعلى طراز مثل الرئيس أحمد بن بلّة وهواري بومدين من الذين نشئوا في أحضان الثورات التحررية التي تحولت إلى ثورات اجتماعية ترعى تنمية وطنية دون انحياز لمعسكري النزاع، فإنّ العالم تغير بصورة جذرية كما طرأت تغيرات هائلة على الخارطة السياسية لا سيما بعد انهيار المعسكر الشرقي وبروز دول جديدة على الساحة وظهور الكيانات السياسية التي تشكل منظمة الأممالمتحدة وهيئات أخرى مهمة مثل اليونسيكو، وهو ما يدفعنا للقول أنّ فضاءات التبادل أصبحت أكثر مرونة حيث غابت عنها ضغوط العصبيات الإيديولوجية السابقة، ونأمل أن لا تفرض بدلها إيديولوجية الكل سوق والليبرالية المتوحشة التي وصلت إلى نهايتها القصوى وتواجه الغضب والاحتجاج في غرب أروبا وشمال أمريكا. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الأفكار الجديدة في الاقتصاد والسلم والأمن تنبثق من العالم الأفرو آسيوي، هذا الفضاء المتميز بحسن الهيكلة والتضامن والذي يعتمد في خياراته على ثقافة السلم يمنحنا نماذج لتطور ناجع بفضل عنصري التنافسية والابتكار. إن نخب دول عدم الانحياز التي كانت تعاني في السابق من التأخر في مجال الابداع والابتكار تتقدم اليوم إلى أخذ مكانتها في مجال التنافسية وتساهم في تطور الاقتصاد العالمي، حيث يعتبر الرأسمال البشري الذي تكوّنه المدارس والجامعات ومراكز البحث في تلك البلدان ومنها الجزائر ورقة مفيدة وعاملا يمكن أن يكون على المدى المتوسط نقطة توافق بين دول عدم الانحياز. لهذه الحركة تاريخ غني بالنجاحات في ميدان تحرر الشعوب، ومن الممكن توجيه برنامج عملها في المستقبل للمشاركة الفاعلة في الاستراتيجيات الجديدة التي تتبناها القوى الأخرى، والسماح بالتالي لجميع شعوب دول عدم الانحياز بالاستفادة من نماذج الدول الناشئة أو الصاعدة. يمكن كذلك توسيع التعاون الأفقي ? جنوب جنوب وإعطائه دفعا جديدا ليساهم في ديناميكية النمو الاقتصادي العالمي، وقد بدأت بالفعل تظهر في الأفق بعض من مساعي التعاون والتبادل، ويعدّ نموذج النيباد الذي تعمل الجزائر على ترقيته بالاشتراك مع جنوب افريقيا ونيجيريا مشروعا واعدا على مستوى القارة الافريقية بأسرها. كما أنّه بإمكان مساعي التقارب بين بعض الاقتصاديات في أمريكاالجنوبية التي تسجل تطورا ملحوظا وكذلك اقتصاديات الدول الآسيوية الناشئة والقوية أن تساهم في تشكيل نموذج تبادل وتعاون، غير موجه ضد مصالح أخرى، وقادرة على تطوير الاقتصاد العالمي من خلال رفع وترقية مستوى المعيشة للسكان المهددين بالفقر ويتواجد معظمهم في مجتمعات دول عدم الانحياز. وعلى أي حال تبقى هناك عدة تحديات تواجه كل بلداننا وتؤثر على جهود التنمية المستدامة من بينها بناء اقتصاد المعرفة وتحديث الهياكل القاعدية والتوزيع العادل للثروة والحذر من تأثير الأزمات التي تتعرض لها البلدان الأكثر ثروة في اقتصاد عالمي شديد الترابط. إنّ المبدأ الذي تقوم عليه حركة عدم الانحياز هو مبدأ العدالة الذي يستلهم من قيم المساواة والإنصاف في تبادل المعرفة ونقل الخبرة التكنولوجية وتوازن ولا ريب أن الالتزام بهذه القيم سيكون من العوامل التي يستفيد منها الاقتصاد العالمي ويسمح حقيقة بإرساء جو من الثقة بين جميع الفضاءات الجيو اقتصادية وإشراكها في تنشيط التبادلات الدولية. وكما ساهمت حركة عدم الانحياز أثناء نضالات التحرير الوطني بنجاح فإن التطورات الراهنة يمكن أن تساعد على تجديد طموحاتها وإعادة الفعالية لمطالبها كمنظمة سواء عن طريق وضع شبكات جديدة للتبادل أو من خلال تكنولوجيات الاعلام والاتصال الحديثة حيث تتمتع بعض بلدان عائلتنا التاريخية في هذا المجال بالتنافسية في مجال التكنولوجيا وبعضها يتمتع بتفوق وابتكارات متقدمة. إن شبابنا سيكون المستفيد الأول من منظور هذا التكامل والتضامن الذي سيكون عماده في العقود القادمة القدرة على أخذ مكان في سباق التنافس في كم وكيف انتاج الثروة، فلنعمل إذن على أن تفضي الاتفاقيات والمفاوضات بين أعضاء الحركة إلى بروز نموذج تبادل وتعاون يدفع شبابنا وكفاءاتنا إلى المقدمة في مجالات الابتكار والإنتاج التنافسي كما أنّ النماذج الاقتصادية والاجتماعية التي تحقق الرفاهية لشعوبنا يمكن إعدادها في بلداننا وتستفيد منها مجتمعاتنا التي تسعى إلى مواكبة الحداثة والتطور. إنّ اقتصادياتنا لم تعد كما كانت في السابق، حيث أصبح صوتنا يسمع في التبادلات الدولية بفضل جهود شعوبنا وما حققته من تقدم و خاصة في افريقيا، هذه القارة الواعدة التي تسجل بعض بلدانها نسبة عالية من النمو، وينبغي أن تشجعنا هذه المؤهلات على الانخراط أكثر فأكثر في تسيير شؤون العالم لكي نتجنب أن نتخلف أكثر عن موكب المقدمة الأمر الذي يحمي حرية قرارنا السياسي ويحقق أهداف الألفية التي يمكن إنجازها بالإرادة المشتركة بين بلداننا. تعطل الازمات والصراعات الداخلية والتدخل العسكري الأجنبي من فرص التقدم والازدهار، وعلينا تفاديها والحد من أضرارها على مسار التنمية ومؤسساتنا السياسية وذلك من خلال الحوار الذي يعزز دولة القانون وقيم الديموقراطية وحقوق الانسان. إنّ الجزائر التي تبنت إصلاحات مؤسساتية عميقة وتتمتع بمؤسسات منتخبة على جميع المستويات تستعد اليوم عبر نقاش عام وحر تشارك فيه كل الفعاليات السياسية والمجتمع المدني لإثراء قانونها الأساسي الذي سيعزز دولة القانون ويضمن مزيدا من الحقوق المدنية والحريات. وذلك انطلاقا من تجربتها التحررية ونموذجها الاجتماعي، وهي تعمل بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بهدف تعزيز التوازن بين المؤسسات المخول لها إدارة شؤون الدولة، بمنهجية تتجنب الوقوع في المزايدات والمواجهات العقيمة التي تضر في أي بلد بالسلم والاستقرار، وهي تساهم في نفس الوقت في حل الأزمات في جوارها القريب والبعيد بنزاهة بدون تدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد من الجوار أو على مستوى البلدان الأخرى. إن واجب التضامن الذي قامت على أساسه حركة عدم الانحياز يتطلب منا ألا نبقى مكتوفي الأيدي أمام النزاعات والأزمات الداخلية المصحوبة بالعنف المدمر وهو يدعو بلادنا وكل أعضاء حركة عدم الانحياز للمساعدة على احلال الامن والاستقرار، وخاصة في قارتنا الإفريقية وتقريب وجهات النظر عن طريق الحوار وتحقيق المصالحة والتعايش والحرص على وحدة البلدان التي تتعرض لهذه الازمات شعبا وترابا وهو ما قامت به الدبلوماسية الجزائرية خلال السنوات الماضية، وهي تكثف جهودها اليوم لإطفاء بؤر التوتر وتساهم أيضا بسخاء في تنمية البلدان الإفريقية وتحديث هياكلها القاعدية وإعفاء بعضها من الديون المستحقة وتكوين إطاراتها فالفقر والجهل وسوء توزيع الثروة هو التربة الخصبة للتطرف والإرهاب الذي عانت منه الجزائر بمفردها قبل ان تتفطن القوى الأخرى إلى أخطاره المحدقة بها في عقر دارها، وقد بذلت الجزائر جهودا كبيرة ومتواصلة لتحقيق تعاون دولي وطالبت من البلدان الاخرى تجريم دفع الفدية وتجفيف منابع تمويل الجماعات الارهابية والحد من فوضى انتشار السلاح التي كانت نتيجة للتدخل غير محسوب العواقب في بلدان تنتقل منها اليوم الأسلحة والجماعات الإرهابية لتنشر الدمار وتهدد أمن الأبرياء كما حدث في تقنتورين، وقد جندت الجزائر إمكانيات ضخمة، كما عبأ الجيش الوطني الشعبي إمكانيات كبيرة للقضاء على التهديد الإرهابي من أي جهة جاء على حدود تزيد على 1400 ألف كيلومتر، ومعه تجارة المخدرات التي تحاول التسلل عبر الحدود بمئات الأطنان في حرب غير معلنة على الجزائريين والشباب منهم بوجه خاص. يجب أن يكون الأمن في العالم مسألة محورية تهم جميع الهيئات التي تسهر على الحفاظ على السلم، حيث ينبغي إعادة النظر في التمثيل على مستوى مجلس الأمن وفي قضية سير الأشغال فيه، إذ تعتبر مسألة تمثيل مختلف القارات والقوى الاقليمية في مجلس الأمن مسألة في غاية الأهمية، بالنظر إلى اتساع رقعة النزاعات وخطورة الأزمات واستمرار التهديدات، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى مراجعة آليات اتخاذ القرارات المتعلقة بالسلم في العالم وحق البشرية في أمن مشترك. إن انهيار النماذج الايديولوجية ومن بينها النموذج الاقتصادي الذي كان وراء حملات الغزو الكولونيالي والهيمنة يتأكد يوما بعد يوم وهو ما يدفع المجتمع الدولي وبلداننا إلى التصدي لفرض نموذج أوحد على جميع شعوب العالم. لقد شهد العالم في العقود الأخيرة تهديدين كبيرين يتمثل أولهما في التدخل العسكري للقوى الكبرى وهو تدخل أضعف وتيرة التنمية في تلك البلدان وتسبب في تشرد السكان ولجوئهم إلى ما يشبه المحتشدات في بلدان أخرى ويهدد مستقبل أجيال من الأطفال والرجال والنساء، ويرجع ثانيهما إلى الأزمة التي تعاني منها الاقتصاديات المهيمنة التي أضرت بالانتاجية وتهدد الاقتصاديات الأكثر هشاشة لاسيما فيما يتعلق بالقدرة الشرائية وأسعار المواد الغذائية، وتملك دول عدم الانحياز كل المؤهلات المعنوية التي تسمح لها بالدفاع عن حقوقها المشروعة والاستجابة لتطلعات شعوبها عبر الحوار البناء لتقاسم ثمار الحداثة. إنها رهانات حضارية تهم كل المجتمع الدولي ولا تنحصر أهميتها في الميدان الاقتصادي فحسب، فقضايا تصفية الكولونيالية لم تنته بعد، فكما كانت القضية الجزائرية حافزا لكفاح بقية الدول في حركة عدم الانحياز، فإنّ القضية الفلسطينية لم تجد إلى اليوم طريقها إلى الحل الذي يحترم حقوق الشعب الفلسطيني، فلا يخفى على أحد ما قدمه هذا الشعب من كفاح وتضحيات، ولكنّ مأزق المفاوضات ومظاهر الاعتداء الممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني المظلوم تحتم علينا مضاعفة الجهود من أجل دعم كفاحه وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف التي أعلن عن تأسيسها في الجزائر سنة .1988 وهناك أيضا القضية التي تستحق الاهتمام وهي المتعلقة بحق الشعب الصحراوي الذي يناضل منذ 1963 تاريخ عرض مسألة استقلاله أمام الأممالمتحدة، هذا الشعب الذي تعرض إلى غزو آخر يطالب بحقه الثابت في تقرير مصيره بطرق سلمية وديموقراطية، حيث يقدم هذا الشعب صورة مشرفة في الصبر والمقاومة والتعلق بالكرامة الوطنية، إنّ تعلّقه بأرضه وهويته وبقيم الديموقراطية والسلم تدعونا جميعا لمساندته لكي تتحقق إرادته في تقرير مصيره. ليس هناك قضية ثنائية بين الجزائر والمغرب فالجزائريون لا ينسون أبدا مساندة وتأييد الشعب المغربي الشقيق لكفاح التحرير الوطني ويكنون احتراما كبيرا للملك الراحل محمد الخامس الذي يحمل شارع رئيسي في وسط العاصمة اسمه، لقد ساندت الجزائر حق شعب تيمور الشرقية في تقرير مصيره وهو يبعد عن الجزائر آلاف الأميال وبقيت علاقاتها جيدة ومتواصلة مع دولة اندونيسيا وهي الأكثر كثافة سكانية من المسلمين في العالم. أتمنى كل النجاح لهذه السلسلة من المحاضرات التي تسمح بتبادل الرأي واستطلاع المستقبل والبحث عما يجمعنا من أجل سعادة الإنسانية في كل أرجاء العالم فالإنسان هو إنسان له نفس الحقوق والواجبات في كل مكان. أشكركم. ■ انتهى ● كلمة قدمت في قاعة المحاضرات بوزارة الشؤون الخارجية بحضور السفراء والإطارات السامية للوزارة 2014-04-20