في كتابه الجديد الموسوم « العرب ومسألة الإختلاف» الصادر حديثا عن منشورات ( الإختلاف: الجزائر، ضفاف:لبنان، أمان: المغرب )، يغوض الدكتور اسماعيل مهنانة في مسائل ظلت في خانة المسكوت عنه، ابزرها ما تعلق بالهوية والتاريخ والدين والأصل، يتحدث في مقدمة مؤلفه: عن الجدل السلبي للثقافة العربية، فيفرد لها جانبا مهما من النص، إذ يقول « لو كان أمر الثقافة بيد المثقفين لوحدهم لما خرج الاختلاف بينهم عن أسوار الجمهورية المثالية. ولو كانت السياسة بيد الفلاسفة لوحدهم لما حصلت كل تلك الفوارق والشروخ بين السياسة والثقافة، بين الفكر والمجتمع، بين الموقف الأصيل، والموقف العامي، بين المنطق والهذيان. لكن الثقافة هي أيضا ما يسبح فيه الجميع من قناعات واعتقادات وعادات وأفكار» ، وعبر ثلاثة فصول، يتناول الكاتب بتعمق شديد، أسئلة الفكر والكينونة والأصل، مسألة التاريخانية وقلق الحداثة والهوية والتأويل، يتحدث عن محمد أركون ونبوءاته، عن « المنفى ومأزق الهوية: إدوارد سعيد إتيقا المنفى.»، كما يغوض دكتور الفلسفة ايضا عبر صفحات كتابه، في فضائل الاختلاف ومقاومة الشمولية وايضا في « الفن ويوتوبيا الممكن «، إن كتاب « العرب ومسألة الخطاب « هو الرسالة المنتظرة من الفلسفة، نداء الفكر السؤول للعقل العربي يدعوه لإعادة قراءة النصوص قراءة هيرمينوطيقية لتبديد الإشكاليات القديمة ووضعها في سياقها التاريخي واللغوي، يقول عنها مهنانة إنها « المهمّة العاجلة للفكر حاليا «، الكتاب يفكر اللامفكر فيه، يفكر مسألة وجوب تجاوز الإشكاليات اللاهوتية والسياسية تجاوزا معرفيا، فهذه التي انبنى عليها التراث يقول المؤلف، ويزيد في شرحه لإشكالية الفهم العربي للتراث خارج اللاهوتية والدينية بالقول « إن أقصى ما يحققه الفكر في الواقع التاريخي هو الفهم والوضوح، وهي القوة الإيديولوجية العليا للفكر السؤول، والتي لا ينازعه فيها أي شكل من أن أشكال الوعي الأخرى» ويرى أن سوء الفهم مرده إلى غياب الفكر وهيمنة القناعات ( أي شكل من القناعات المبنية على أيديولوجيات « فيستخلص أنه اينما غلبت القناعات غاب التفكير. في الجدل السلبي للثقافة العربية يشرع الدكتور في الفلسفة والأستاذ بجامعة قسنطينة ( الجزائر ) والمتخصص في الفلسفة الغربية المعاصرة إسماعيل مهنانة، في هذا المؤلف الجديد، في توطئة عمله بنقد ما يسود الثقافة العربية حاليا من جدل سلبي بسبب فهم خاطئ، وفي فهمه للثقافة يقول: « لكن الثقافة هي أيضا ما يسبح فيه الجميع من قناعات واعتقادات وعادات وأفكار، والسياسية هي أيضا تضارب للمصالح والرؤى والانتماءات الطبقية والهووية، والدينية، ولهذا كان على الفلاسفة والمثقفين، أن يصيخوا السمع بكل اهتمام لصوت المجتمع، وتطلعات الجماهير، وبؤس الطبقات. كان على المنطق أن يصبح جدلا «، يفتح مهنانة الباب على موضوع يرفض المثقف، أي مثقف، النبش فيه نظرا لحساسيته وتغاضي الباحثين في طرحه تخوفا من فكرة «الخالص»وهو التدين والدين وفكرة الاعتقاد، ففي قوله « إننا نعتقد هنا أنه آن الأوان لفتح نقاشات فلسفية عالمية وجدّية حول الدّين والتديّن، حول الإيمان واليقين، حول النص/ والأصل/الهوية، بدل طرق التخندق والنزاعات السياسية حول الحقيقة، وبدل تلك الشعارات السمجة والمنافقة حول «حوار الحضارات» أو «حوار الأديان». الفكرة هنا هو أن الشعارات مجرد وهم يتم تغليف حقيقة يأبى المثقف والسياسي والمتدين فهمها، إنها العود إلى القراءة المتأنية للنص التراثي لفهم مكمن وجوهر المعنى في سياقه التاريخي. ثلاث طرق في مقاربة المسألة الدينية يذكر الكاتب طرقا في مقاربة المسألة الدينية، منها: المقاربة العلمانية التقليدية التي تعتبر الدّين نظرة ميتافيزيقية للعالم، أي نموذج تفسيري للظواهر قد ولّى عصره، ولهذا يجب إتمام مسيرة «نزع السحر» عن العالم بعبارة ماكس فيبر الشهيرة وتجاوز الرؤية الدينية إلى الرؤية العلمية. ومن بين الطرق ايضا: مقاربة أنثربولوجية تحاول تفسير التديّن عامة والدين خاصة، بالشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحيطة به، وهي مقاربة تاريخية تؤجّل الخلاص من الاستلاب الذي تمارسه الأديان على البشر، وتشرطه بتجاوز الإنسانية لشروطها التاريخية الحالية. ولما يصل مؤلف كتاب « العرب ومسألة الاختلاف « إلى المسألة الدينية في عصرنا المعولم، يقول إن القضية « لم تعد معزولة عن بقية الشظايا التي أسفر عنها انفجار السرديات الكبرى للثقافة الإنسانية، انفجار ما بعد الحداثة، لم يعد بالإمكان فصل الإسلام المعاصر عن مأزق الهويات ما بعد الكولنيالية، ولا فصل الديني عن السياسي في الإسلام السياسي، لم يعد ممكنا أيضا الفصل بين «العنف» أو الإرهاب و»التأويل»..»، وعن الخطاب الديني التقليدي يرى صاحب المؤلف أنه « لم يعد كافيا لوحده لبناء القناعات الدينية للجماهير اليائسة، ولهذا يتمّ ربطه بالكشوفات العلمية للعلم الحديث والتي تمّ التوصل إليها داخل سيرورة تاريخية مختلفة جذريا ومعزولة تماما عن سيرورة العالم الإسلامي. « أي مهمة للفكر السؤول؟ يسميه مهنانة بالفكر السؤول، أو الفكر الطارح للسؤال الخائض في درب جديد، يطرح الفكر السؤول أو فكر الاختلاف بسحب مؤلف الكتاب » في دروبٍ جديدة، وعرة ومحفوفة بكلّ الأخطار، تتطلب مقارعة القناعات المختلفة والمتنازعة،»، المهمة تبدأ من السؤال التالي: ما الذي نسيمه قناعة؟ وهل هذه القناعة طريق أكثر وجاهة ينبغي للإنسان أن يبديها إزاء عالمٍ متغيّر؟ وهل ثمّة قناعات ثابتة؟ وكيف سيساهم تحليل الخطاب في تبديد القناعات وإحلال التريّث محلّها؟ يتساءل الكاتب. ويقول بأن الفكر لديه مهمة عاجلة، ما هي؟ إنها « إعادة قراءة النصوص، وتبديد الإشكاليات القديمة ووضعها في سياقها التاريخي واللغوي،»، بيد أنه في الآن يقوى على « التجاوز المعرفي للإشكاليات اللاهوتية والسياسية التي يتمأسس عليها التراث. والدور الذي يمكن للفكر تأديته كحد أقصى في الواقع التاريخي هو « الفهم والوضوح « أو :تلك القدرة على تقريب أسئلة التراث إلى الوعي المعاصر، وتفكيك عرى السُّلط التي أوجدتها، وإزاحة التراكمات التاريخية التي لحقت بها. في هذا الكتاب يتحدث مؤلفه عن ما فكره مفكّرون» كابدوا السؤال بصدق» منهم الألماني مارتن هيدغر، وعبد الله العروي، والفيلسوف الجزائري محمد أركون، فتحي بن سلامة، إدوارد سعيد. ما الصراع؟ يجيب الكاتب عبر فصول الكتاب بالقول إنه « صراع التفسيرات والعوالم أساسا « ويقصد بذلك أن « يشيّد الفيلسوفُ عالمه كتفسير لواقعِ تاريخي أو تأويل لحدثٍ تاريخيِ، ويُنشأ المتكلّمُ أو اللاهوتيُّ أيضا عالَمه الديني كتفسير لنصِّ لا يخلو من حدث تاريخي أو افتراضي، كما يحلمُ العِلمُ الوضعيُّ ورجاله بنزع الشّرعية عن العوالم الأخرى، وإحلال التفسير العقلي للظواهر محلّها «، وهنا مكمن الصراع، إنه استحالة التصالح بين الفيلسوف والعالم واللاهوتي، لكن الحل يراه الدكتور مهنانة في التأويل الدائم، فيستنتج أن « إنسان هذا العصر هو إنسان الأسئلة بامتياز « بنية الكتاب يرتحل بنا كتاب الدكتور مهنانة عبر ثلاثة فصول كاملة شاملة، فيناقش في الفصل الأول أسئلة الفكر والكينونة، الأصل، النص والتاريخ، حيث يخصص مبحثا خاصا لطرح رهانات الفكر السؤول، وآخر عن « النص/ النداء والتاريخ»، ومبحث ثالث عن الكتابة الذاكرة، كما يتناول في المبحث الرابع « أوهام الأصل، جدل العمى والبصير في التحليل النفسي. «، وفي المبحث الخامس، يتفح الباب على موضوع « التاريخانية: الإبيستمي والزمن «، أما في الفصل الثاني من الكتاب، فيناقش موضوع: قلق الحداثة والهوية والتأويل، وفيه خمس مباحث، الأول عن أسئلة أركون ونبوءاته. والثاني: من الإصلاح إلى الأمن، أما الثالث فيخصصه الكاتب لبحث فكرة: عودة إلى المسألة، مدخل في طرح السؤال، والرابع عن: الفكر العربي ونقد المركزيات. في الخامس يناقش فكرة: المنفى ومأزق الهوية، إدوارد سعيد إتيقا المنفى. وفي الفصل الثالث والأخير يعنونه الكاتب « فضائل الاختلاف ومقاومة الشمولية. « وفيه مبحث يتحدث عن « الفن ويوتوبيا الممكن «، ومبحث ثان بعنوان: تأملات في الزواج. ويحفر المبحث الثالث في مسألة الأنوثة عند العالم النفساني سيغموند فرويد. رسالة الكتاب بجرأة لم يعهدها البحث الفلسفي في الجزائر ولا في العالم العربي، بأكثر حدة يخلص هذا الكتاب في خاتمته، إلى طروحات قد لا تستوعبها العقول التي يغطيها التثبث بالوهم ورفض الخوض في مسائل التدين والأصل والنص الديني. يقول الكاتب: يجب التنبيه أن طرح مثل هذه الاسئلة طرحا علميا لا يمسّ بجوهر الإيمان الديني الذي يجب أن يبقى بعيدا عن المساجلات الفيلولوجية، كقناعات شخصية لا ترتهن لأية ثورات معرفية. وفي خلاصة ثانية، يرى الكاتب أن جل المفكّرين النقديين والعقلانيين العرب مثل محمد أركون والشرفي وطرابيشي وآخرون، ينطلقون من واقعة فيلولوجية مفادها « أن المصحف الحالي للقرآن هو ما جمعه وكتبه الخليفة الثالث «عثمان بن عفّان» حيث لا تزال ظروف الجمع والتدوين، مجهولة تماما وضربا من الطابو السياسي الذي لا يجوز الخوض فيه. لكنهم نادرا ما يجرأون على القول مثلا أنه حتى تلك النسخة الأولى لمصحف عثمان لا نملك لها أثرا.»، يستخلص أن شحا معرفيا عن الاسلام الأول يستبد بالبحث الفلسفي، ويبقي فراغات وجب التفتيش لها عن أجوبة، ويقول أيضا في الخاتمة، إن « الفكر العربي اليوم أمام ورشة تاريخية وفلسفية ضخمة لم ينجز منها إلا النزر اليسير، معظم البحوث التي أنجزها هؤلاء «العقلانيون العرب» ، تعود في مناهجها ورؤيتها للعالم إلى مصادرها الاستشراقية، وفي نقطة أخيرة، يستنتج الباحث أننا نعيش في ط عصر لا أحد فيه يستطيع امتلاك الحقيقة أو إدعاء ذلك، كما لا يحقّ لأحد أن يصادر أصوات الناس، أو حقّهم في طرح كل الأسئلة حول التراث والانتماء والنص المؤسس «، ويرى الدكتور مهنانة في كتابه « العرب ومسألة الإختلاف ... مأزق الهوية، والأصل، والنسيان.»، أن كل محاولة للاقتراب من هذه التجربة، معاصرة كانت أم قديمة، تبقى تأويلا، أما الهوّة التاريخية والانطولوجية بين المؤوِّل والمووَّل فيستحيل ردمها أو امتلاكها تحت أية ذريعة سياسية أو فقهية. أي أن واقعة الوحي، والقرآن الحي كما تلقّاه النبي، أو سمعه أو فهم معانية وصاغ معانية بلسان عربيّ مبين، تبقى واقعة ميتافيزيقية يصعب تنزيلها محلّ الفهم العلمي والوضعي للظواهر، وبالتالي فستبقى رهن الموقف الإيماني/الشخصي/الفردي، ولا يمكن البتة ان تغدو موقفا ايبيستمولوجيا مبرهنا أو متفق عليه «