عطاف يستقبل المبعوث الخاص للرئيس الصومالي    وزارة الداخلية: انطلاق التسجيلات الخاصة بالاستفادة من الإعانة المالية التضامنية لشهر رمضان    توقرت: 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الجامعة العربية: الفيتو الأمريكي بمثابة ضوء أخضر للكيان الصهيوني للاستمرار في عدوانه على قطاع غزة    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    اكتشاف الجزائر العاصمة في فصل الشتاء, وجهة لا يمكن تفويتها    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الأسبوع الاوروبي للهيدروجين ببروكسل: سوناطراك تبحث فرص الشراكة الجزائرية-الألمانية    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بغرداية : دور الجامعة في تطوير التنمية الإقتصادية    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    عرقاب يستعرض المحاور الاستراتيجية للقطاع    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    هتافات باسم القذافي!    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    سيفي غريب يستلم مهامه كوزير للصناعة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مختصون يقرأون الأركونية في الذكرى الثالثة لرحيل مؤسسها
نشر في النصر يوم 23 - 09 - 2013


في الذكرى الثالثة لغيابه
محمد أركون.. أرض العقل المجهولة
حلت منذ أيام، الذكرى الثالثة لغياب المفكّر والمؤرّخ الجزائري محمد أركون. أركون الذي رحل يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2010 في باريس، رحل وهو غير مطمئن إلى أنه سيُقرأ من العرب، بما يكفي وبما يليق بفكره واجتهاداته، كان يشك في أنه سيُنصّف من قِبلهم ومن قبل قراءاتهم ومقارباتهم ودراساتهم وأدواتهم التفكيكية والتأويلية التي ظلت تحفر بعيدا عن مرماه الفكري والفلسفي، وعن مشروعه المعرفي المشغول أيضا بالهم الكوني والإنساني وبالعلوم التاريخية والدينية والإسلام. أركون الذي كان وبقيّ مثيرا للجدل وللتهم حتى وهو في الغياب المديد، ظل أيضا غريبا في وطنه حيا وميتا، هو الذي وجد جثمانه يستكين إلى منفى آخر، ويرتحل إلى وطن بالجوار يأوي قبره ويفتح له سماء لم تتح في الوطن الأم. كراس الثقافة يلتف في عدده اليوم إلى أركون في ذكرى غيابه، من خلال هذا الملف الذي يتحدث فيه بعض المفكرين والكُتاب والأكاديميين.
إستطلاع/ نوّارة لحرش
عبد النور شرقي/كاتب وباحث
محمد أركون.. المحنة والغياب المضاعف
تمر علينا الذكرى الثالثة لرحيل محمد أركون وتكاد تمر في صمت مطبق، وإذا أردنا الحديث عن أركون في هذه المناسبة فإن هذا يعد من قبيل الطعن في الرجل وممارسة النفاق تجاه فكره، ماذا يفيدنا الحديث حول أركون في يوم رحيله ويغيب عنا باقي أيام السنة؟ أعتقد أن الإجابة ستكون مؤجلة عند البعض وهذا ما يحيلنا إلى السؤال عمّا نريده من أركون؟.
على مر أربعة عقود من الزمن سهر محمد أركون على تدشين مشروعه الفكري من خلال ورشتين كبيرتين للبحوث العلمية عن الإسلام وتراثه، الورشة الأولى اتخذت اسم "الإسلاميات التطبيقية"، أما الورشة الثانية فقد اتخذت اسم "نقد العقل الإسلامي"، وبمنهجيته التقدمية التراجعية راح يسلط أضواء الماضي على الحاضر وأضواء الحاضر على الماضي، مستفيدا من المناهج الغربية في العلوم الإنسانية. حاور كبار المستشرقين ودافع عن مواقفه وليس غريبا أن يتعرض للمضايقات واتهامه بالأصولية في الغرب، ومع ذلك استمر في أبحاثه ودراساته حول الفكر الإسلامي بعدما اكتشف العديد من ورشات البحث العلمي الخاصة بالمجتمعات العربية والإسلامية فعمل على تشخيص العلة ومعرفة كيفية الخروج من المأزق التاريخي، لكن أسفه كان في نقص الباحثين الشباب لكي يحركوا هذه الأبحاث وينجزوها كما ينبغي فعددهم كما يقول قليل بالقياس إلى المهام الضخمة التي ينبغي انجازها والتي تتراكم كل يوم، وهذه المهام الضخمة تتطلب جيشا كبيرا من الباحثين المدربين على أحدث المناهج العلمية.
ومن بين ما تعرّض له يذكر أنه نشر أكثر من عشرين كتابا بالعربية عن دار الساقي ودار الطليعة في بيروت. ولكن لم ير أي عرض نقدي جاد لكتبه في الصحافة الجزائرية. حتى كتابي "النزعة الإنسانية والإسلام" –يضيف- لم يحظ بأي ذكر واهتمام من قِبل الصحافة أو وسائل الإعلام، ويمكن القول بأن الأغلبية قابلته بالرفض والازدراء. هذا ليس غريبا وهو الذي تعرض للهجوم من طرف حرّاس الاعتقاد الدوغمائي الانغلاقي -علماء الدين المسلمين المعاصرين-، كما تم تكفيره من قِبل الحركات الأصولية، هذه الأخيرة التي يرى أنها ازدهرت مع سيطرة أنظمة الحزب الواحد على الحكم بعد الاستقلال.
إن سبب هذا الرفض لفكر أركون هو وجود خطاب واحد عن الدين وهو الخطاب الأصولي الذي يملأ المدارس والجوامع والفضائيات. وما عداه ممنوع، إما بحجة التغريب والغزو الفكري وإما بحجة الكفر والخروج على الإسلام، وعلى الرغم من أن أبحاثي -يقول أركون- تتركز بشكل مباشر على حالة الجزائر بسبب أصولي وولادتي إلا أن انتشارها هو الأضعف والأقل. إنهم لا ينشرونها ولا يقرؤونها وإذا ما قرؤوها لا يفهمونها على حقيقتها. اللهم إلا في أوساط بعض النخب المفكرة والمستنيرة. وهذا أكبر مثال على تلك المراقبة الممارسة على الفكر النقدي في الجزائر. يحصل كل هذا في الوقت الذي استطاع في الضفة الأخرى للمتوسط إقناع المسؤولين الفرنسيين بتأسيس المدرسة القومية للدراسات الإسلامية في باريس.
كم من الوقت يلزمنا، وكم من الشروط العديدة التي يجب توافرها لكي يحصل التحرير العقلي والثقافي ويتم الاهتمام بأعلام الفكر في الجزائر؟. الاهتمام بمشاريعهم والعمل على تجسيدها؟. لماذا هذه اللامبالاة والتنكر لإنتاجهم الفكري؟. كل ما أعرفه لحد الآن أنه توجد 3 رسائل دكتوراه فقط نُوقشت حول فكر محمد أركون ولم يتم نشر إلا واحدة منها، أما على صعيد المؤتمرات والندوات فقد تم تنظيم ندوة واحدة فقط في ذكرى رحيله الأولى من تنظيم مخبر الدراسات الفلسفية والأكسيولوجية- جامعة الجزائر2. يحدث كل هذا التنكر في الوقت الذي نشهد فيه اهتماما كبيرا بفكر الرجل في المغرب الشقيق من خلال تنظيم الندوات والملتقيات لدراسة فكره وقد حضر بشخصه بعضها، كما تم بعد وفاته إنشاء "مؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات" والتي أطلقت مسابقة عالمية تحمل اسمه، وسيتم إنشاء موقع من طرف المعهد الإسماعيلي بلندن سيضم كل أرشيفه، إلى جانب إنشاء "منحة محمد أركون للدكتوراه". لا أريد أن أتبنى في هذا الصدد ما قاله لي أحد الزملاء أن هناك محاولة لمغربة أركون بل أقول أن محنة أركون مع بلده تكمن في غيابه المضاعف -غيابه حيا وميتا- وهذا مؤداه في النهاية طمس لهويته من طرفنا نحن من ورثنا فكره سواء كنّا كأفراد أو مؤسسات. بقي أن أشير في الأخير أن الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية إلى جانب مؤسسات أخرى ومراكز بحث سيكون على عاتقها الاهتمام بأعلام الفكر في الجزائر مثل مالك بن نبي ومحمد أركون وعبد الله شريط وكريبع النبهاني...الخ، وفي هذا الصدد أذكر أنه تم في الاجتماع الأخير للجمعية اقتراح ندوة سنوية تحمل اسم المفكر محمد أركون لتكون بادرة ايجابية تفتح آفاقا جديدة.
بشير ربوح/ أستاذ فلسفة بجامعة باتنة، عضو في الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة
الأركونية مشروع لم يكتمل
بعيدا عن سوء القراءة وعقلية التفكير والتبديع، يمكن لنا أن نتحدث عن الأركونية بحسبانها رؤيةً على درجة عالية من الطرافة الفكرية والمتانة المعرفية، غير أنه لا يجب أن يفهم على أنها تمشي تقديسي لنصوصها، نحن هنا نبحث عن منزلة معرفية وعملياتية نضع فيها الأركونية موضع الاستزادة، ونجتهد في الاستفادة من منجزاتها ومكاسبها على مستوى الرؤى وعلى جهة القراءات العميقة للتراث والحداثة وطرائق التفكير والضروب المتنوعة من الذهنيات المحمية بسياج دوغمائي. بدءاً لم تكن الأركونية ممارسة ديماغوجية، تلبس لبوس الزلفى والتودد لجموع الجماهير أو القراء الذين يبحثون عن مأوى فكري آمن وكهف معرفي مُطمئن، ويتلذذون بصورة سادية بانتكاسة المثقف الثائر، وإنما كانت وما زالت توجها معرفيا خالصاً يبتغي فقط تحقيق انجازات أبستيمولوجية فارقة، والدفع بالعملية النقدية إلى نهاياتها القصوى حتى تحقق جميع إمكاناتها الكامنة فيها، من هذا المنظور النقدي توجهت الأركونية إلى الإعلان عن موقفها من التراث العربي الإسلامي، بحيث تضع هذا المنجز التراثي في دائرة التراث القروسطي، وتنظر إليه من زاوية التجاوز التاريخي بعد إنبجاس لحظة الحداثة الغربية. بعد ذلك، دعت الأركونية إلى الاستثمار في منجزات الحداثة الغربية خاصة من الناحية الأبستيمولوجية، ومن مدارسها التي اشتغلت على فهم وتفكيك آليات الخطاب الغربي، والنبش في طبقاته العميقة، بغية معرفة ما يعتمل في جوفه من أنظمة معرفية ومن أبستيميات تستمد وجودها من أرشيف فكري لا شعوري، ومن تأويلات لا متناهية للنصوص التاريخية، ومن رساميل رمزية لكل الأنساق الثقافية، ومن أنثروبولجية تتكئ على مسعى فينومينولوجي يرمي إلى العودة إلى الأشياء في ذاتها قبل أن ترد في التاريخ وفي اللغة. على أساس ذلك، وبالرغم من النقد الذي انصب على الأركونية في هذا الجانب، فإن المشتغلين بحقل الفكر العربي الإسلامي ما زالوا متمسكين بهذه الفضيلة، إذ أن كل الأسئلة التشريحية تأتي من الغرب، فتنحني لها الأذهان فكرا ولساناً، أي أننا لم نستطع بعد الدخول في معركة إبداع المصطلح، بالرغم من بعض المحاولات الجريئة، الشيء الأساسي هنا والآن، هو أن نبدأ من حيث انتهت الأركونية، ونسعى في بناء جهاز مفاهيمي وترسانة منهجية ورؤية ذاتية منفتحة على منجزات العصر، وننتبه إلى أن مسألة التراث هي مسألة مصيرية تعني، في مجمل ما تعني، أن الحداثة هي أفقنا القادم الذي يخرجنا من وهدة التخلف، شرط أن نذهب إليها ونحن مقتنعون بالتجاوز، وبالمقدرة على دخول الحداثة من باب التراث، وعلى التموقع داخل التراث بمداميك حداثية، من هنا تكون الأركوينة، إحدى المشاريع الكبرى التي لم تكتمل وفي حاجة ماسة إلى فارس فلسفي ومغامر لغوي وثائر اجتماعي وقائد سياسي، لأن الحداثة التي نرنو إليها قد اقترنت بحدث على درجة عالية من الثراء الأنطولوجي والزخم المعرفي، وهو الثورة العربية في مستهل قرن جديد حمل معه أسئلة محرجة وقلقة في محتواها وفي مقاصدها، رأس الأمر فيها أسئلة الدين، ومسائل الهوية، وقضايا السلطة، وهموم التاريخ، وإشكالات المواطنة، ومناحي الحق، وهواجس التخلف.
اليامين بن تومي/ كاتب وباحث وأستاذ تحليل الخطاب والآداب العالمية بجامعة سطيف
يجسد عبقرية نبتت من كتف الهم الكوني والمتوسطي والإسلامي
ليس جديدا أن يعرف الناس أن محمد أركون جزائري دفعته سنوات البلد العجاف إلى السفر خارجه ليصبح بعد سنوات من الدراسة العميقة أستاذ كرسي في أعرق جامعة في العالم: السربون. وهناك بدأ مشروعه الكبير في دراسة أسباب التكلس في المشهد الفكري والفلسفي العربي ومن ثمة دراسة تلك الأبنية التراثية الشاقة والمجهدة حيث عمل وفق ترسانة متعددة من المناهج على النبش في التراث الإسلامي، تفكيك طبقاته وترسباته التي صيرت العالم الإسلامي إلى مجرد تابع سخيف لم يقف على الأسباب الحقيقية لتخلفه، لذلك حفر أركون في الأنظمة الدوغمائية التي أنجبت الجهل المقدس وبالتالي أغلقت العقل العربي على بنية تتريثية، الغالب فيها نموذجه التكراري، هذا الذي أوقع المنظومة الثقافية في صراع مرير في محاولة مجهدة لنهضة مهزومة داخليا بأنواع المصادرات الكبرى لاتساع دائرة الحرام وتقلص دائرة الإبداع نتيجة هيمنة نموذج سلبي في أس تلك الثقافة، واتجه من ثمة إلى دراسة النموذج التمثيلي لذلك الخطاب الذي بات يشكل مانعا ثقافيا كبيرا في تدافعنا الحضاري نتيجة تعطل الثقافة برمتها على تلك الأبنية. أركون الذي بقيّ خارج المجال وداخل الثقافة يبين عن عوراتها، رحل كما يرحل الكبار غريبا عن الجغرافيا ليبقى القلب هنا في ثقافتنا الجزائرية التي تَربَّت على النكران والاستيعاد، ليبقى الجسد هناك في المنفى الطوعي بعيدا عن حُنوة التراب ورحمة الذاكرة، يجسد أركون عبقرية نبتت من كتف الهم الكوني والمتوسطي والإسلامي، لكن بؤرة الإنهمام انطلقت من هنا، من الجزائر لتتشظى التجربة وتصبح كونية في تمثيلات المسلم في عالم اليوم لما أطلق عليه هو شخصيا بالإسلاميات التطبيقية، وهو يدرس من خلالها انعكاس نصوص السيادة العليا على التجارب التطبيقية للإسلام على مدى فضاءه. لقد كابد أركون محنة وطنه إلى النخاع ليرحل ويبقى وشما غائرا في تاريخ مليء بالجحود والنكران، فأركون ملأ الدنيا وشغل الناس، فماذا بعد أركون؟، هل استطعنا أن نكمل مسيرته وأن نؤثث خراب الأسئلة المقلقة لوجودنا ومدى فاعليتها؟ أم أننا مازلنا خارج ذواتنا نطرح أسئلة غيرنا أو بالأحرى أسئلة خارج ذواتنا؟، إن السبيل الوحيد يكمن في استنبات مدرسة أركونية تدرس بعمق مشكلة الإنسية في الجزائر التي ما زالت تطرح قضايا أنطولوجية حقيق بنا أن نفض النزاع فيها وأهمها إشكالية الهوية وأحادية التصور في القرارات الكبرى والمشاكل الأبستيمية للعلاقة العضوية بين العلوم الإنسانية والعلوم التقنية، ومشكلة أولوية الفضاء في أي اتجاه، تلك الحاجة المعرفية تعتبر من وجهة أركونية ضرورة منهجية للحسم في الخيارات والتصورات، هذا العطب الكبير الذي ألم بتوجه البلد وانحسار دوره في ترقيع بؤر التوتر التاريخي بدل البناء في المستقبل من خلال تجذير عميق للإشكاليات. أركون المفكر والفيلسوف فتح المجال واسعا نحو تأهيلنا لتحقيق انخراط جدي في عالم اليوم، وأركون الإنسان بقيّ وشما منحوتا في الانتماء الثقافي، ولكنه على مستوى آخر ظل غريبا ومبحوحا هنا نتيجة الموانع التي تضطهد حضوره دوما فمتى تظل ثقافة الإلغاء حاضرة في الحياة وتُتابع الخطى بعد الموت، إنه التغريب المقصود ثقافيا ووجوديا، ولكن طيف أركون يحوم في الجوار مثل الطيور المقدسة التي تحمل أغاني الحياة.
إسماعيل مهنانة/كاتب وباحث وأستاذ محاضر للفلسفة الغربيّة المعاصرة في جامعة قسنطينة
أركون لا يهدف إلى القطع نهائيا مع الدين وإنما يدعو إلى علمنة السياسة والفضاء العمومي
أعتقد أن أركون قد اختار الدرب الأنسب للمرحلة في رؤيته للتراث والتاريخ الإسلاميين، وهي الرؤية التي تقوم على إعادة قراءة جذرية ومحايثة، لكل النصوص، الأحداث الكبرى، المحطّات والتحولات والقطائع التاريخية الكبرى التي عرفها التاريخ الإسلامي والعربي. يعتقد أركون أن العرب لا يمكنهم أن يلجوا إلى أية حداثة إلا بقراءة حداثية وعلمية لتاريخهم وتراثهم، وذلك لأن هذا التراث في نسخته القديمة والقروسطية لا يزال يحكم كل المجتمعات الإسلامية بواسطة بنيات لا شعورية في معظمها تتلفّع أحيانا بالتديّن، أو بالعادات والتقاليد. كما أن هذه البنيات تسمح للكثير من القوى السياسية الرجعية باستغلال الدين لأغراض سياسية. ولهذا يرى أركون أن تفكيك هذه البنيات التراثية بوسائل معرفية معاصرة ضرورة ملحّة وعاجلة للفكر.
من جهة أخرى لاحظ أركون أن العالم الإسلامي هو العالم الثقافي الوحيد في عصرنا الذي بقي يتخبّط في مشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية لا حصر لها. بل أنه بقي يرواح مكانه الحضاري الذي توقّف عنده منذ ثمانية قرون. مما يشير إلى وجود خلل بنيوي يصيب مجمل الثقافة العربية، ثمّة عسر حضاري وانسداد تاريخي ينبغي تجاوزه مهما كان الثمن. العالم الإسلامي هو العالم الوحيد الذي يواجه تعارضا صارخا مع قيم الحداثة والحقوق الفردية المعاصرة. لم يجد الصينيون أو اليابانيون، أو الهنود مثلا مشكلة كبرى في الاندماج داخل مقتضيات العصر. والسبب حسب أركون هو ثقافي محض، ويتعلّق بالضبط بعلاقتنا بالتراث. هناك سياق آخر يبرر كل مشروع أركون الفلسفي، وهو سياق العلمنة التاريخية التي باشرتها الإنسانية الغربية لكل عالمنا منذ أربعة قرون. أي حركة نزع السحر والقداسة عن العالم المعاصر. إن مسايرة هذه الحركة التاريخية المعلمِنة للأشياء والفضاء العمومي خاصة، لا يمكن أن تتم قبل إعادة تصحيح علاقتنا بالتاريخ والتراث التي يراها أركون علاقة مرَضية وباهظة التكاليف. ومع ذلك فإن أركون لا يهدف هنا إلى القطع نهائيا مع الدين أو مع الإيمان أو حتى مع الأسطورة، التي تبقى حاضرة ومؤثّرة بقوة، وإنما يدعو إلى علمنة السياسة والفضاء العمومي حتى يسمح بالتعايش لكل الطوائف والتيارات والهويات والأفكار.
وأخيرا، ثمّة سياق ظهر بقوة بعد أحداث 11/سبتمبر في نيويورك، وهو الثورة الأمنية التي يخوضها الآن كل العالم، ضد التطرّف الديني واللجوء إلى العنف والصدامات الدامية التي قد تتحول إلى صدام عالمي، يكون فيه المسلمون أول الضحايا, وفي هذا الصدد يدعو أركون إلى نقد مزدوج: من جهة على المسلمين أن يباشروا نقدا ذاتيا لبقايا العنف في ثقافتهم، وأن يتمثلوا القيم العالمية المعاصرة، ومن جهة يدعو الغرب بلغته إلى التخلّص من الكليشهات الجاهزة حول العرب والمسلمين. وأن يثق الجميع في قدرة الديمقراطية والمجتمع المدني في قيادة تحوّل جذري داخل العالم الإسلامي.
فصل من كتاب "البناء الإنساني للإسلام" لأركون
ترجمة/ حميد زناز
"البناء الإنساني للإسلام" هو آخر كتاب للراحل محمد أركون، وهو مجموعة من الحوارات أجراها معه قبيل وفاته رشيد بن زين بمعية جان لويس شليغل. كتاب يسافر فيه القارئ مع الراحل محمد أركون عبر أهم محطات حياته ويتعرف على جل أطروحاته. هنا ترجمة لبعض مقاطع من الفصل الأول.
القرآن يرتل ولا يقرأ
فعلا.. ولكن هناك في الحقيقة "حيوات كثيرة" للقرآن. أكثرها ديمومة ومطابقة لزمننا الحاضر هي تلك القراءة التي تواصل ليس بالضرورة تجنيد العقل أو التفكير أو البحث العلمي أو الفكري في النص القرآني ولكن تعمل على تعبئة الجسد كله، بمعنى الجانب العاطفي لدى المؤمن الذي يرتل القرآن ولكنه لا يقرأ النص. لو كنا نقرأ النص بشكل مغاير لما كانت الأمور كما هي عليه الآن. وقد كان لهذه القراءة/الترتيل أهمية معتبرة منذ استقلال البلدان التي كانت مستعمرة إذ يمكن القول بأنها حافظت على بقاء الإيمان أو بالأحرى الاعتقاد.
ومع ذلك لا يزال علم التفسير قائما
نعم لدينا أيضا ما أطلقت عليه "حياة القرآن التفسيرية'. وكانت نشيطة، مُنتجة في بداية نشوء الإسلام. وقد أثمرت نتائج لا يستطيع أن ينكرها أحد. أكثرها دلالة كانت على وجه الخصوص محاولة البيضاوي التي أظهرت المعارف الموسوعية التي تراكمت حتى القرنين الحادي عشر والثاني عشر إذ استعمل علوما كثيرة بما فيها الطب في قراءة القرآن. وهكذا فتح مسالك خصبة جدا في مجال التفسير. وقبله بقليل حاول الرازي أن يجد توفيقا بين التفسير التقليدي والعقلانية. ولكن كل هذا توقف ابتداء من القرن الثالث عشر لأسباب تاريخية ينبغي تسليط الأضواء عليها.. ومنذ ذلك الوقت بدأنا في كتابة تفاسير تزداد فقرا بإطراد ولا تأتي في النهاية بأي جديد[...].
وبكلمة واحدة فإن كنت مضطرا مثلا وإلى اليوم أن أقرأ الطبري فأنا لست ملزما بقراءة تفاسير وتفاسير تفاسير كتبت بعد القرن الثالث عشر وهي متعلقة بسورة واحدة أحيانا.
هل يمكن القول أننا اليوم أمام قراءة روحية للقرآن ولا وجود لقراءة شخصية، حرة وجديدة؟
على حد علمي ليس هناك قراءة حرة. يتحدث المسلمون عن القرآن، ولا أحد يأتي بجديد. في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، كتب السيوطي ما يشبه الموسوعات في كل حقل من حقول العلوم الدينية، كانت مؤلفات ضخمة تحتوي على نوع من الجرد للدراسات القرآنية حتى حدود القرن السادس عشر: كل ما كتب عن القرآن وكل ما تم إنجازه. ويسمح لنا هذا الكم من أخذ فكرة عما كان يحدث في القرن السادس عشر. غير أننا نلاحظ أن هذا العمل مقصور على المرحلة الكلاسيكية أساسا. ولم يضاف بعد ذلك إلا الشيء القليل الذي يمكن أن يدخل تغييرا على التفاسير الفقهية الكبرى.
ما المقصود ب" نقد العقل الإسلامي"؟
قبل كل شيء، العقل ليس إسلاميا، كاثوليكيا أو يهوديا.. المقصود في الحقيقة هو الطريقة التي يستعمل بها العقل في الإسلام. فمثلا نفس العقل الذي استعمله ابن رشد وتوما الأكويني –بمعنى الأدوات الأرسطوطاليسية– يمكن وضعه في خدمة قراءة مغايرة لنص مؤسِّس. فهناك إذن عقلانيات مختلفة مرتبطة بنسبة كبيرة أو صغيرة بما نسميه "ال" عقل عموما. تقبل بعض العقلانيات استخدام الأدوات الفلسفية، ولا تقبل أخرى سوى معطيات العرف المتناقل. ومن هنا وجوب التفكير حول هذه الاختلافات وتحديد عقل على أساسها، يمكن أن يكون مرجعيا يفرض نفسه على الجميع. نقد العقل الإسلامي هو نقد تجلي العقلانية في المجتمعات الخاضعة للإسلام أو المحكومة بقوانينه أو المقولبة بتأثيره في مراحل ثقافية ولغوية مختلفة من تاريخه. وينبغي أن أذكر بالأهمية التي أوليها لدراسة استعمالات اللغة المكتوبة وبالتالي "تكوين الخطابات".
Mohamed Arkoun, La construction humaine de l'islam, Entretiens avec Rachid Benzine & Jean-Louis Schlegel, Albin Michel, 2012.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.