يقدم الفيلم البريطانى les miserablesالمأخوذ عن رواية فيكتور هوجو الشهيرة نموذجاً مدهشاً للطريقة التى يتم بها تقديم دراما موسيقية تتفاعل مع روح العمل الأدبى، تنقل مضمونه وفكرته من خلال الغناء والموسيقى، وتستخدم فريقاً فنياً إحترافياً يجعلنا نكتشف من جديد قصة إنسانية نكاد نحفظها بكل تفاصيلها. الفيلم ليس مقتبساً مباشرة عن الرواية، ولكنه يمثّل إعداداً سينمائياً لمسرحية موسيقية بنفس العنوان، نحن بالأساس أمام تكثيف لأحداث رواية ضخمة، ومحاولة لحصر الأماكن المتعددة واختزالها، ولكن النجاح الأهم فى اختيار تلك المواقف الإنسانية التى تصلح لكى يترجمها الغناء، نستطيع وقد شاهدنا الفيلم أن نتحدث عن نجاح مذهل فى هذا الصدد، مع نجاح جيد فى استخدام إمكانيات السينما الأكثر تأثيرا، وخصوصاً فى مشاهد الحركة والخدع والمؤثرات البصرية. البؤساء كما ظهروا فى أحدث طبعاتهم، لم يقللوا شيئاً فى التعبيرعن معاناتهم، بل إن الجانب العاطفى فى الفيلم قوى ويهز المشاهد من الأعماق، لم ينتقص السيناريو أيضاً من الخلفية السياسية للأحداث خصوصاً فى نصفه الثانى، والآجمل أن طرفى الصراع المعروفين وهما جان فالجان وجافيير، قُدما بصورة تكشف عن وعى وعمق، عبّر الفيلم بالغناء والموسيقى عن منطقيهما ببراعة، كما أضاف لهما تساؤلات تجعلهما تجسيداً لتيارين يتعاملان مع الإنسان من زاويتين مختلفتين. روح الرواية التى نقلها الفيلم هو التعاطف الكامل مع الطبيعة الإنسانية الخيّرة، والانحياز المطلق لفكرة الرحمة التى تسبق العدل، والرفض الواضح لأى قانون جامد وأحمق يجعل من الإنسان رقماً، تنسجم هذه النظرة تماماً مع كلمات هوجو التى قدّم بها روايته حيث قال :»تخلق العادات والقوانين فى فرنسا ظرفاً إجتماعياً هو نوعٌ من الجحيم البشرى، فطالما توجد لامبالاة، ويوجد فقرعلى الأرض، فإن كُتباً كهذا الكتاب، ستكون ضرورية دائماً». الإطار السياسى تبدو شخوص الرواية الشهيرة وكأنها تدفع ثمن ما انتهت إليه الثورة الفرنسية، من التصفيات بالمقصلة، الى صعود نابليون وانكساره، بدا كما لو أن شعارات مثل الحرية والإخاء والمساواة مجرد عناوين، الإطار السياسى لأحداث رواية البؤساء يمتد من سقوط نابليون الى الثورة الفاشلة عام ,1832 سيتضح أكثر فى الفيلم ما سيقود إليه الفشل السياسى والعسكرى من زيادة الفقر والبؤس، سيتحول تمرد جان فالجان الفردى الى محاولة تمرد جماعى، وسيقترح الفيلم طريقاً رومانتيكياً للخلاص بالحب وبالحلم، وبقدر إدانة المنطق الأحمق الذى يمثله جافيير، سيتعاطف الفيلم مع منطق فالجان والثوار معاً، سيُبعث الموتى والضحايا من جديد، لكى يقدموا أغنية للمستقبل. وبينما يبدأ الفيلم بالمساجين الذين يمارسون الأشغال الشاقة وهم يرددون بصوت مهيب «اخفضوا عيونكم»، ويكادون يعيشون بلا أمل غير واثقين من وجود إله، ولا يؤمنون إلا بوجود الجحيم، فإن النهاية متفائلة تماماً، الذين عانوا وضحّوا يعودون ليحتلوا الميدان، يرفعون أعلامهم، ويبشرون بيوم جديد، رؤوسهم الى أعلى، وخلفهم آلاف الثائرين. تتابع الدراما الموسيقية جان فالجان فى مراحله المختلفة، من لص يقضى عقوبته، ويحمل رقماً هو 24601 ، الى عمدة يحمل اسم مادلين بعد ثمانى سنوات من الإفراج المشروط عنه، وصولاً الى رجل ثرى يقوم برعاية الطفلة كوزيت، التى تركتها أمها البائسة الراحلة، وكانت تعمل فى مصنع يمتلكه مادلين/ فالجان، وتتابع الدراما، على الطرف الآخر، الضابط جافيير، من السجن الى المدينة، وصولاً الى محاولته خداع الثائرين، وانكشاف أمره، ثم مواجهته لنفسه، وانتحاره، فشل ن يتغيرّ، كان صلباً فانكسر، ربما كان سيتعذب إذا استرجع ماضيه وسلوكه الذى لم يستطع الصمود أمام تسامح جان فالجان. دخل جان فالجان السجن لأنه سرق رغيفاً لأن ابنة شقيقته كانت جائعة، حُكم عليه بخمس سنوات فقط، ولكنه كان يحاول الهرب فيُحاكم من جديد، بعد عشرين عاماً يطلقون سراحه، ولكن بشرط أن يمتثل للعودة فى أى وقت، يحمل معه وثيقة تؤكد أنه مجرم خطير، بالطبع لن يجد عملاً على الإطلاق. وحده القس الطيب يفتح له أبواب الكنيسة، وحتى عندما يسرقه جان فالجان، يدّعى القس أنه هو الذى منح مضيفه «المحترم» الفضيّات المسروقة، بل ويمنحه تحفتين إضافيتين، فى مونولوج غنائى بديع، تستيقظ روح جان فالجان، يقرر أن يمنح روحه لله، يلقى بشهادة السجن فى الهواء، ترتفع الكاميراً الى الفضاء، لتصاحب ورقة شجر تتراقص فى سعادة. يمكن أن تعتبر البؤساء، الرواية والمسرحية والفيلم، مجرد حكاية عن حلم البداية الجديدة، جافيير هو الذى يحاول أن يدمر بدايات فالجان الجديدة، وهو أيضاً الذى يحاول إفشال ثورة البؤساء فى باريس، ورغم الظروف القاسية التى تجعل فانتين (آن هاثواى) تبيع شعرها لكى ترسل عشرة فرنكات لابنتها، ورغم أنها تحترف الدعارة، إلا أن فالجان يلعب تجاهها نفس الدور الذى لعبه القس فى حياته، يعدها وهى على فراش الموت، بأن يحافظ على ابنتها كوزيت. هوس الواجب اما مشكلة جافيير كما قدمها الفيلم فهى تجاوز فكرة هوس أداء الواجب الوظيفى، إنه يؤمن بأن الإنسان شرير بالفطرة، يقف الضابط الصارم ( يلعبه راسيل كرو) على حافة الهاوية ليغنى تحت سماء مليئة بالنجوم،يقدم نفسه باعتباره سيف العدل الباتر للخطيئة، لم يتأمل جافيير تلك المسافة الواسعة بين القانون والعدل، ولم يفهم أن تحويل الإنسان الى رقم لا يقضى على البؤس أو الشر، هذه النظرة المتعالية للمذنبين تكاد تجعل ممن يطبقون القانون أنصاف آلهة لا يخطئون أبداً. عندما يتحول جان فالجان الى عمدة طيب، يطارده جافيير حتى يضطر الى مغادرة المدينة، فى إحدى أجمل لوحات الفيلم الغنائية تتداخل أصواتهما تعبيراً عن وجهتين للنظر على طرفى نقيض، يتبارزان، يظل جان فالجان مصمماً على أن خلاص الإنسان روحى وليس قانونى، يتابع رحلته لإنقاذ كوزيت. فى باريس يكتشف الشباب أن الماساة الفردية التى تعبّر عن نفسها فى صور المتسولين والعاهرات والجائعين، تحتاج الى حل جماعى يتمثل فى الثورة، يختارون جنازة الجنرال لامارك للتمرد، يسدّون الشوارع بالمتاريس، يعتقدون أن الشعب سيثور، يحلمون بأنه سيعيد من جديد ما فعله فى ثورته الكبرى. ماريوس الشاب الثرى الثائر يحب كوزيت بينما تحبه الفقيرة إيبونين، فى لوحة غنائية أخرى يجادله زملاؤه حول الخلاص بالحب والخلاص بالثورة، اللون الأحمر لون الرغبة والعاطفة المشتعلة، وهو أيضاً لون دماء الضحايا، اللون الأسود هو لون الماضى البائس، وهو أيضاً لون الأيام فى عين من فقد حبيبته. وسط الثورة والحب ومطاردات جافيير لغريمه فى باريس، تظهر إحدى أجمل شخصيات فيكتور هوجو، الطفل الصغيرجافروش، المتسول الثائر الذكى الذى يكشف للثوار شخصية جافيير الحقيقية، يغنى جافروش ساخراً وراصداً ثورة شعب طالب بالحرية والمساواة، وانتهى به الأمر وهو يطالب بالخبز والطعام. تنتصر القوة الغاشمة على الثوار الحالمين، وينتصر جان فالجان على غريمه أخلاقياً، يحرّره من الثوار ويطلق سراحه دون شروط، يواجه جافيير نفسه فينتحر، يخوض فالجان معركته الخاصة لإنقاذ ماريوس من الموت، يصارحه بقصته القديمة، فى الكنيسة يستدعى فالجان صورة فانتين، يموت بين ماريوس وكوزيت، يظهر القس الطيب الذى أهداه الخلاص الروحى، يُبعث كل ضحايا الثورة ليغنون أغنية النهاية، البؤساء ينتصرون، حتى لو كان ذلك على مستوى الحلم. ينجح الفيلم رغم طوله فى اختيار أكثر مناطق الرواية تأثيراً، لا يمكن أن أصف لك جمال الأغنيات وطاقتها التعبيرية والروحية دون أن تسمعها، ودون تراها بإدارة المخرج توم هوبر الواعية، إنه يترك الكاميرا فى مرات كثيرة ل هيو جاكمان لكى يعبر عن مشاعر متباينة ومعقدة لدى السجين التائب ، ويتركها للرائعة آن هاثواى لكى تستقطر لحظات البؤس والإنتهاك الجسدى لدى فانتين، وينطلق بالكاميرا الى الفضاء أكثر من مرة وكأنه يحاول أن ينتزعها من الأرض وهمومها، ربما أسرف هوبرفى استخدام الكادر المائل كتعبير مكرر عن الحال المائل، ولكنه أدار ببراعة كل أبطاله من النجوم، اكتسبت مشاهد الثورة حيوية فائقة بقطعات المونتاج، ونجح فى نقل الجو العام الخانق والمؤلم، واستوعب إيقاع كل لوحة غنائية ومزاجها العام. ولكن البطل الأول للفيلم فى رأيى هو واضع الموسيقى كلود ميتشيل شونبرج، قال سيد درويش ذات يوم إنه يستطيع أن يقوم بتلحين الجريدة، أعتقد أن شونبرج يستطيع تلحين كل جرائد العالم، التداخلات الحوارية بين الشخصيات كما فى لوحة اليوم السابق على الثورة، أو فى لوحة علاقة الحب بين كوزيت وماريوس من ناحية، وبين إيبونين وماريوس من ناحية أخرى، تقدم درساً مجانياً فى الإستخدام الفذّ للموسيقى فى التعبير الدرامى القوى والمؤثر. ويبقى أفضل ما فى نسخة البؤساء السينمائية الجديدة، أنها تمنح مشاهدها أملاً رغم كل شئ، يموت فالجان وجافيير وفالنتين وجافروش والثوار، لكن أرواحاً أخرى تولد من قلب المأساة، يعود الموتى مبتسمين، لم يعد جان فالجان رقماً، ولكنه أصبح نموذجاً للإنسان الذى أنقذ روحه، فأنقذ الآخرين .