يتوفر الأدب الجزائري الحديث على مجموعة من التجارب الأدبية، كان لها الفضل الكبير في تشكيل ''جدارية'' الأدب الجزائري لمختلف أشكاله، وتنويعاته، ومستوياته الجمالية والموضوعاتية أيضا؟ (01) ولعل تجربة الأدب الجزائري الذي رحل عنا مبكرا، رمضان حمود (1906م - 1929م) تعد من أفضل التجاري الأدبية الأولى التي دعت إلى التجريب وتغيير بنية القصيدة العربية التي ظلت الشكل الفني الرسمي للوجدان العربي منذ العصر الجاهلي وإلى غاية نهاية أربعينات القرن العشرين. كما تدل هذه التجربة المبكرة والرائدة في تاريخ الأدب العربي الحديث على جرأة الكاتب الجزائري لاقتحام فضاءات جديدة في مجال الإبداع والتميز عن منجز السلف، ولوامتدت حياة الأديب رمضان حمود قليلا (والأعمار بيد الله) لأتى من القول ما لم يأتي به الكثير من معاصريه انجازا وتنظيرا حيث يحوز جرأة أدبية قل مثلها في زمنه. وقد حمل بعض عناصر تجربته هذه، مقاله الشهير :''حقيقة الشعر وفوائده«(2) الذي نشره في جريدة الشهاب عام ,1927 ويدل هذا المقال الذي نشر في جريدة اصلاحية محافظة على رجاحة وسعة عقل وصدر المفكر الإمام عبد الحميد بن باديس فهو - ودون ريب - قد كان مطلعا على حركية وتفاعل الشعر العربي وتوقه الشديد إلى حرية أكثر، حتى وإن أدت إلى ''نسف'' بنية القصيدة العربية التي كادت تتحول إلى »هبل« جديد يتضمن هذا المقال :''حقيقة الشعر وفوائده'' جملة عناصر تجديد الشعر العربي التي دعا إليها الشاعر رمضان حمود، وقد تلخصت في رأينا في مسألتين جوهريتين. 1 - دعوته لتجديد هيكل القصيدة العربية، والتي بقيت محافظة عليه لمدة قرون، تمتد من العصر الجاهلي وإلى غاية عهد نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وصلاح عبد الصبور، وأبو القاسم سعد الله، ومحمد الفيتوري« وغيرهم. وتبين الشواهد التالية بعض مفاصل نظريته الشعرية الجديدة وقد عبر عنها أحيانا نثرا، ومرة أخرى شعرا، يقول نثرا:''قد يظن البعض، أن الشعر هو ذلك الكلام الموزون المقفى، ولو كان خاليا من معنى بليغ، وروح جذاب، وأن الكلام، الموزون المقفى، ولو كان أعذب من الماء الزلال، وأطيب من زهور التلال، فهذا ظن فاسد، واعتقاد فارغ، وقلم بارد...«(3* وقال شعرا: أتوا بكلام، لا يجزل سامعا ''عجوز له »شطر« وشطر هو »الصدر« وقد حشروا أجزاءه تحت خمية كعظم ركميم ناخر ضمه القبر وزين ''بالوزن'' الذي صار مقتفى »بقافية« للشط يقدمها البحر وقالوا وضعنا ''الشعر'' للناس هاديا وما هو شعر ساحر لا ولا نثر ولكنه ''نظم'' وقول مبعثر وكذب وتمويه، يموت به الفكر فقلت لهم كما تباهوا بقولهم: ألا فاعلموا أن الشعور هو الشعر وليس بتميق، وتزويق عارف فما الشعر إلا مايحن له الصدر فهذا خرير الماء، شعر مرتل وهذا غناء الحب، ينشده الطير وهذا زئير الأسد تحمي عرينها وهذا صفير الريح ينطحه الصحر وهذا وصيف الرعد في الجو ثائر وهذا عذاب الليل يطرده الفجر فذاك هو ''الشعر الحقيق'' بعينه وإن لم يذقه الجامد الميت ال// ويقول نثرا أيضا : (... فالشعر تيار كهربائي، مركزه الروح، وخيال لطيف تقدفه النفس لا دخل للوزن ولا للقافية في ماهيته، وغاية أمرها أنهما تحينات لفظية اقتضاها الذوق والجمال في التركيب لا في المعنى، كالفاء لا يزيده إلاناء الجميل عذوبة ولا ملوحة، وإنما حفظا وصيانة من التلاشي والسبيلان...«(5) لقد استخدم رمضان حمود (1906م - 1929م) الشعر والنثر معا وبمقدرة مكافئة، ولا يدل هذا في رأينا إلا على أصللة موهبته وقراءاته العديدة والمتنوعة لما أنتجته الأديبة العربية والأجنبية على السواء، فهو يعد في رأينا فلتة إنسانية، وجوهرة عربية جاد بها القرن العشرون مثلما جاد بأمثاله: كأبي القاسم الشابي وجبران خليل جبران، وأحمد زكي أبو شادي... وغيرهم من نوابغ اللغة. وقد دفعته حماسته الكبيرة في نفسه، وفي آرائه لأن ينقد متون الشعر العربي الحديث، والتي لم ير فيها يسرى متونا تقليدية جوفاء وخالية من الصدق، وروح الإبداع الخلاق، ولذلك فقد هاجم هجوما عنيفا فئة المقلدين منهم، وقد تكونت له نظرة نقدية متفردة في زمنه عبر عنها بقوله :-»فمن شاء منكم التشطير فليشار مواطنيه...««(6) كما قادته هذه الجرأة، والثقة الأدبية، وامتلاكه لرصيد معرفي واسع تراكم لديه مثلما يتراكم حصاد مواسم القمح في البيادر، فسما بنقده إلى ابتداء آراء نقدية لم ترد على لسان أحد في مثل سنه في تاريخ الأدب العربي، وفي عمر تجربته الأدبية، والنقدية القصيرة، فاعتلى سدرة النقد إلى نقد أمير الشعراء العرب، الشاعر الكبير : أحمد شوقي، وهو في قمة وأوج شهرته، وتتويجه بإمارة الشعر العربي عام 1927م، ولم يكن يخشى لا فارق السن، ولا فارق التجربة الأدبية من تجربته، وتجربة الشاعر أحمد شوقي، كما أنه لم يشعر بالصغار أمامه، لذلك لم يتردد في قراءة شعره، والجهر برأيه في تجربته الشعرية، وتعبر هذه الفقرة عن أراءه في شعر شوقي، يقول : - »... نعم إن شوقي أحي الشعر العربي بعد موته - أو كان في طليعة من أحياه - وفتح الباب الذي أغلقته السنون الطوال ولكنه مع ذلك كله لم يأت بشيء جديد لم يعرف من قبل، أو سن طريقه ابتكرها من عنده وخاصة به دون غيره، أو اخترع أسلوبا يلائم العصر الحاضر، وإنها غاية كاهنالك جاء بهيكل الشعر القديم الموضوع في قرون بلى عهدها ودرس رسمها، فكساه حلة من جمال خياله، ورقة أسلوبه، وفخامة ألفاظه، وقوة مادته وتوجه باستاع دائرة معارفه، ومعلوماته، وضرب به على أوتار قولب كانت تتمنى بجدع الأنف أن يرسل الله لها من يسمعها نغمات شعر الفحول من القدماء ويحتذي حذوهم حتى تكون حياتهم متصلة بسلسلة حكمة العقد مع حياة أجدادهم، تبعا لقاعدة (كل خير في اتباع السلف، وكل شر في اتباع من خلف) فلما ظهر شوقي تلقفته على ظمإ..../.... شوقي وما أدراك ما شوقي! شاعر حكيم في الطبقة الأولى من الفحول البائدة له غيرة كبيرة على الأدب القديم كغيرته على شرفه ومتمسك به إلى حد التقليد وعدم الالتفات إلى جوانبه، وأكثر شعره أقرب إلى العهد القديم منه إلى القرن العشرين الذي يحتاج إلى شعر وطني قومي سياسي حماسي، يجلب المنفعة ويدفع الضرر، ويحرك همم الخاملين، ويوقظ الراقدين الخامدين، خصوصا والشرق الفني في فاتحة نهضته، فهو يخطو أولى خطوة، ويقطع أول مرحلة في سبيل الحياة والرقي والمدنية العصرية الجميلة....« - والسؤال الذي يمكن طرحه هنا ماذا لو وجدت هذه الآراء النقدية سبيلها إلى الفضاءات الثقافية العربية تلك الفضاءات الثقافية المغاربية التي تذر بها ساسة الحركات الوطنية لشعوب المغرب العربي طوال مدة طويلة تبدأ منذ سطوع نجم شمال افريقيا عام 1927م بفرنسا. لقد تبخرت جميع الأحلام لوحدة المغرب العربي وازداد الحدود ألغاما واشتد التضييق على وسائل الخطاب الثقافي والاعلامي، والتجاري - لقد ناضل الشاعر الكبير مفدي زكريا أمدا طويلا من أجل وحدة المغرب العربي، وناضل العديد من الاعلاميين والسياسييت، والمثقفين (وتعد في هذا المجال جريدة ''المنار'' الجزائرية التي أسسها الشاعر والاعلامي المرحوم : محمود بوزوزوالبجائي في مطلع خمسينيات القرن الماضي (1951 - 1953) مثالا عظيما لطريق الوحدة المغاربية)، ومن رجال وحدة المغرب العربي، المرحوم عبد الحميد مهري الجزائري. ولكن ما أمر مصير وحدة شعوب المغرب العربي، وما أفظع الفجائع التي تتعرض لها، وقد اشتدت الوطيس بين نخبها الدينيه والسياسية، كما ازادا عمق الهوة بينها، واستنفدت الأحلام للتلاشى والتبخر، وذلك بعد أن غدا مصير وحدة المغرب العربي بين شلات رحى، رحى الاستعمار العربي الحديث، ورحى إعادة فتح أراضي شمال افريقيا من جديد من قبل جماعات الموت، بعد أن مر على فتحها نحو خمسة عشر قرنا على يدي عقبة بن نافع الفهري. - فأما المسألة الثانية فتتمثل في مجموعة الأفكار والآراء التي دعا إليها معاصريه من الأدباء والنقاد والمفكرين، وهي أكفار وآراء لم يجرؤ على القول لها الكثير من أقرانه. و (عبد المجيد الشافي (1933 - 1973) وتعد تجربنا الأديبان : أحمد رضا حوحو (1911م - 1956م) من التجارب الأدبية التي لم تنل حظها من القراءة، والنقد والتموقع ضمن مسار تشكل البنية الأدبية، وتفتح الوعي الأدبي في فضاء ()شديد التعقيد، ومتنوع المشارب والروافد، والرهانات التليدة والحديثة، الجوانبية والبرانية، الفردي والجماعي، الذاتي والآخر..إلخ... فقد كنت الأول (أحمد رضا حوحو)، الرواية، والقصة، والمسرحية، والمقال الأدبي والاجتماعي، وأدب الرحلة، والموسيقى وجمع بين التأليف والممارسة في فني المسرح والموسيقى. ولن نبالغ إن قلنا أنهما أثريا الأدب الجزائري المعاصر بجملة من الفنون الأدبية، وساهما أيضا في نشأة وتطور الوعي الأدبي في بعض الأقطار العربية، فعلى سبيل الذكر فإن الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو ساهم أثناء اقامته في الحجاز (مكةالمكرمة) (1934 - 1946) بفعالية في نشأة القصة والرواية، والترجمة الأدبية، وذلك بنشره العديد من الأعمال الأدبية في مجلة ''المنهل'' التي صدرت في السعودية في ثلاثينات القرن الماضي، فقد كان حوحو من كتابها المداومين، فنشر فيها قصصا، ومقالات عديدة كما نشر فيها بعض الأشعار بعد أن قام بترجمتها من اللغة الفرنسية التي كان يتقنها اتقانا كبيرا، كيف لا؟! وهو خريج أحد معاهدها بمدينة سكيكدة عام 1927م وقد حفل كتاب :''أحمد رضا حوحو في الحجاز 1934 - 1945 لفقد الأدب الجزائري المرحوم الدكتور : صتلح خرفي مجموعة الأعمال الأدبية التي نشرها حوحو في مجلة (المنهل)، يقول عن مساهمة حوحو وريادته في نشر بعض الأنواع الأدبية أثناء اقامته بأراضي المملكة العربية السعودية (1934 - 1945):- (..... في المدينةالمنورة وفي (مدرسة العلوم الشرعية) بها كانت البدايات التي استرجعت للشهيد (حوحو) لغته العربية التي أبدع فيها، وملامحه الأصلية التي تميز لها وفي مجلة (المنهل) ترعرعت هذه البدايات، التي لم تكن بدايات بمفهوم النشوء فحسب ولكنها بدايات بمفهوم الريادة، فقد كان حوحو في هذه الريادة، ثاني اثنين في كتابة القصة في الأراضي الحجازية في تلك الفترة من الثلاثينات مع (محمد عالم الأفغاني، و(حوحو) هو الذي غذى بنفسه الموصول في القصة، باب (منهل القصص* في مجلة (الأنصاري)، وكان في الترجمة الأدبية ثاني اثنين، وهو من الفرنسية وبعده (عبد الحميد عنبر من الانجليزية) ولعل ريادته في المسريحة في الأراضي الحجازية كانت ريادة متفردة، غير متناة، فلم تنتشر مجلة (المنهل) في المسرح لغير سكرتيرها (أحمد رضا حوحو...« وقد بلغت الأعمال التي نشرت في مجلة (المنهل) باسمه أربعين عملا تفرعت إلى الأنواع الأدبية التالية : القصة، والمسرحية، والترجمة، والمقالة الأدبية، ومجالات أخرى. وما جاء الكتاب به، ويعد في نظرنا جديدا على المتلقي الأدبي في الجزائر، النص الشعري المترجم، فقد ترجم حوحو قصيدة، غروب الشمس الخيالي للشاعر الفرنسي شارل بودلير، وقصيدة : أهرام مصر« للشاعر ديديل (1737 - 1813) - فلولا هذا الجهد الوطني الجبار، لبقي جزء هام من أعمال الأديب الشهيد، أحمد رضا حوحو نسبيا منسيا في ثنايا أوراق مجلة ''المنهل'' الغراء التي كانت تعتبره أحد مؤسسيها، وأشرعت له صفحات ينشر فيها ما يرغب في نشره، سواء كان نصا أديبا موضوعابصدد كتابة مقدمة لأعمال الأديبين الجزائريين ''أحمد رضا حوحو وعبد المجيد الشافعي''- شريبط أحمد شريبط. أو ترجمة لنص أدبي، قصة، أو مقالة أدبية، فمنا كل الثناء وجزيل الشكر، والاعتراف بالجميل للمرحوم، طيب الله ثراه الأستاذ الدكتور صالح خرفي على المجهود الكبير الذي بذله في سبيل إحياء تراث أحد نوابغ الجزائر، الشهيد أحمد رضا حوحو، إذ لولاه ( والفضل الأول لله سبحانه وتعالى) لظلت كتابات الشهيد حوحو في ثنايا أرشيف مجلة ''المنهل'' الحجازية نسيا منسيا، وفي حكم المجهول. وعندما رجع إلى الجزائر في بداية عام 1946م. استقر المقام به بمدينة قسنطينة التي كانت تمثل آنذاك ولا تزال الثقافة الجزائرية أحد عجائب الدنيا بتضاريسها الجغرافية، وعادات أهلها، وأساطيرهم، وخرافاتهم، وأوليائهم، ودفاعها العظيم ضد الغزاة والمحتلين والمعتدين. ولما استقر المقام به في أحضانها انضم إلى ''جمعية العلماء المسلمين الجزائريين''، وشغل أولا منصب معلما، ثم أسند له منصب أمين عام جمعية العلماء، واعتنى في الوقت ذاته بالنشاط الأدبي والفني فألف بضعة كتب، وقام باقتباس وتأليف عدة مسرحيات تنوعت موضوعاتها، وأشكالها، كما تناول في بعض أعماله موضوعات جديدة مثل زواج الجزائريين بالأجنبيات، وخصوصا الزواج بالفرنسيات، وقد تجلى ذلك بوضوح في كتابه ''مع حمار الحكيم'' وقد تمكن من طبع عدة أعمال أدبية أهمها: 1 - 1 الرواية '' غادة أم القرى''(12) وهي عبارة عن نص سردي يمكن ادراجه أو تصنيفه ضمن ما عرف في النقد الحديث بمصطلح، :'' mini roman'' أي الرواية القصيرة وتجري أحداث هذه الرواية، وموضوعها وفضاءاتها في الحجاز، وقد اعتبرها العديد من الباحثين في شؤون الأدب الجزائري أول نص روائي في الادب الجزائري يكتب باللغة العربية، ويعود تاريخ كتابتها حسب اجتهادنا إلى فترة بداية الاربعينيات، وقد حاول طبعها، إلا أن جرأة موضوعها الذي يدعو إلى تحرر المرأة، ونقدها الجريء لوضعيتها الاجتماعية، وخضوعها خضوعا تاما لسلطان العادات، والتقاليد لمجتمع محافظ تقليدي لا وجود لنشاط المرأة فيه ولا حضور لها في أي مظهر من مظاهر الحياة العامة، وقد يكون وضع المرأة في العصر الجاهلي خير منه بألف مرة. وصعب عليه أيضا طبعها هنا في الجزائر بعد عودته في بداية عام 1946 م لما كان انذاك من تشابه في البنيتين العقليتين اللتين تتصفان بالتقيد المفرط بتحديد الفضاءات التي تتحرك المرأة فيها بصفتها مجلبة للعار، واعتبارها عورة، وتحديد نشاطها، ولم يكن هذا الأمر سوى تعبير أمين عن جهالة النخبة الذكورية المسيرة لنشاطات المجتمعات العربية والاسلامية.