حظيت جلسات الحوار الوطني الليبي التي احتضنتها مدينة غدامس بجنوب غرب ليبيا برعاية من الأممالمتحدة في نهاية شهر الفارط بترحيب دولي وتجاوب من قبل الفرقاء السياسيين الليبيين رغم رفض بعض الجماعات المسلحة وإصرارها على الحل العسكري للأزمة التي تشهدها ليبيا. ويأتي الترحيب كمؤشر أمل في الظرف الحالي على خلفية محاولات إنهاء الانقسام السياسي بوجود حكومتين برئاسة عبد الله الثني وعمر الحاسي ومجلسين تشريعيين هما مجلس النواب المنتخب والمؤتمر الوطني العام الذي قرر في نهاية أغسطس الماضي استئناف نشاطه رغم انتهاء ولايته وتكليف الحاسي بتشكيل حكومة إنقاذ في وقت تتواصل فيه المعارك الدامية بين الميليشيات و أعمال العنف وتسجيل أول ظهور لتنظيم الدولة في درنة شرق ليبيا حيث أثار إعلان»مجلس شورى شباب الإسلام« مبايعته ل»داعش« تساؤلات في الأوساط الليبية مقرونة بمخاوف من وصول مجموعات متشدّدة إلى البلاد، وبالتالي انتقال الحرب على الإرهاب إليها. رئيس بعثة الأممالمتحدة لدى ليبيا برنارد ينو ليون أعلن أن جولة الحوار بين الفرقاء الليبيين في مدينة غدامس وبالرغم من مأساوية المشهد العام المحيط بها إلا أنها جرت في أجواء بناءة وإيجابية وأن المجتمعين اتفقوا على بدء العملية السياسية مهما كانت درجة العنف ومناقشة كل القضايا، مسجلا من ناحية مبدئية في انتظار الملموس ميدانيا إجماع أعضاء من مجلس النواب الليبي المنتخب من قبل الشعب و12 آخرين من النواب المقاطعين لجلسات المجلس المؤيدين للمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار بكافة أرجاء البلاد. من جهته رحب الاتحاد الأوروبي الذي يعترف إلى جانب المجتمع الدولي بحكومة الوزير الأول عبد الله الثني الذي تم انتخابه في 25 جوان الفارط رغم فقدانه السيطرة على مؤسسات الدولة في طرابلسوبنغازي التي سقطت في يد الميليشيات الإسلامية أو الجهاديين ، بانطلاق الحوار بين الأطراف الليبية وتشجيعه لها على تبني موقف بناء يؤدي إلى إرساء حوار سياسي شامل، مشيدا بالموقف الشجاع لكل الليبيين المشاركين في الحوار داعيا إياهم إلى التحلي بالصبر للوصول إلى الأهداف المرجوة. بدوره الاتحاد الإفريقي أكد دعمه لجهود الحوار الوطني والعملية الديمقراطية واحترام الإعلان الدستوري لليبيا مذكرا بمختلف الخطوات المبذولة من قبله ضمن مجموعة دول الجوار قبل وبعد لقاء الحمامات بتونس ومصر ثم الجزائر وانطلاقا من الاجتماع الوزاري للدول المحيطة بليبيا على هامش ندوة حركة بلدان عدم الانحياز. إجماع الفرقاء السياسيون الليبيون بمدينة غدامس على ضرورة وقف أعمال العنف في البلاد والعمل من أجل إخراج ليبيا من هذا النفق لقي أيضا الترحاب الداخلي من قبل »رابطة علماء ليبيا« التي أكدت دعمها لجولة الحوار الوطني وما يصدر من توافق وحسن نوايا من أبناء هذا الوطن لدعوى وقف إطلاق النار وشد أيديهم للمضي قدما في مساره الذي يبعث الآمال في النهوض بحضارة ليبيا بعدما ظن البعض أن أبناءها لا يتحاكمون إلا للدماء والقتل والخراب . إنها أمنية تستدعي حكمة وجهدا وصبرا ودعما إقليميا ودوليا لمساعدة البلد على الخروج من مأساة الدم حتى تكون الخطوة الأولى نحو ليبيا العلم والأمل والبناء والقانون وفق إرادة أبنائها مثلما جاء في بيان مجلس النواب الليبي الذي أكد على أن حوار أعضاء المجلس في مدينة غدامس اتسم بالود والألفة وأن الليبيين قادرين على حل خلافاتهم وحدهم وأنهم ما أن يجتمعوا حتى تتبدد كل المخاوف والشكوك . ليبيا التي تريد أن تبقى بيتا واحدا لكل الليبيين وترفض السقوط في دائرة التقسيم وحمام الدم مثلما يظهر في خطاب الساسة محتاجة لنبذ الخلاف وتجاوز الآلام مع الإدراك بأن الوقت قد حان لإعادة السكينة والأمل للبلاد عبر التزام الجميع بالحوار والعمل على رعايته والدفاع عنه هذه الإرادة هي التي أدت بالمجتمعين في غدامس إلى الاتفاق على دعوة كل الأطراف مهما كانت مواقعها إلى وقف فوري لإطلاق النار والشروع فورا في حوار جامع شامل دون إقصاء أو تهميش سيتواصل لاحقا بالجزائر وبتزكية دولية وفق برنامج عملي وفاعل ينطلق من المبادئ الأساسية في الحفاظ على الوحدة وإيقاف لغة السلاح وسد منافذ التدخل العسكري بإرادة وطنية وتجفيف منابع تغذية الإرهاب وتخفيف الأزمة الإنسانية على أبناء الشعب خاصة من هم في حاجة للعلاج من الجرحى والمهجرين واللاجئين في بعض الدول. معلوم أن لكل حوار في مثل هذه الظروف كالتي تعرفها ليبيا سيعرف معيقات ومطبّات وضغوطات خلال مساره وإن كان يتسم في بداياته و بشكل عام برغبة جميع الأطراف في محاولة الخروج بالبلاد إلى بر الأمان، و رغم اتفاق الأطراف السياسة الليبية على حل خلافاتهم سلميا ، إلا أن الجماعات المسلحة في ليبيا أعلنت رفضها للحوار الوطني باعتبار أنه لم يبن على أسس شرعية صحيحة وستحاول أن تلهب البلاد بالنار لفرض منطقها ورأيها مستغلة فشل مبادرة السلطات الليبية في التحكم في السلاح الموجود بين أيديها وعجزها إلى حد الآن عن استرجاعه. جماعة »فجر ليبيا« المسلحة التي تشكل تحالفاً لمقاتلين من انتماءاتٍ مختلقة وتضم معتدلين ومتشددين عارضت الحوار بين نواب مؤيدين ومعارضين في البرلمان الليبي المنتخب )الذي تعترض عليه أساسا(، وأعلنت تمسكها بالحل العسكري واستمرار العمليات العسكرية للمحافظة على ثوابت ثورة ال17 فبراير حتى وان كانت تتقاسم انتصاراتها في الإطاحة بنظام القذافي مع من تقاتلهم الآن وكانت تؤمن معهم في البداية بالعمل على إعادة بناء الدولة وهيبتها قبل أن تستفرد باستعمال السلاح كنشاط ميداني يومي في وجه من لا يسايرها الطموح الدموي ودون رأفة بالمدنيين الليبيين مشيرة إلى أنه لا أحد كائنا من كان يستطيع إيقاف أعمال»فجر ليبيا« العسكرية . الأمر نفسه بالنسبة لمجلس »شورى ثوار بنغازي« الذي يرى أن الحوار الوطني بغدامس لم يبن على أسس شرعية صحيحة بل هي دعوة ليتنازل صاحب الحق عن حقه والرضوخ لأهل الباطل والعفو عنهم دون عقاب والسماح لهم للعودة لطغيانهم تحت غطاء المصالحة الوطنية. لذا يرى أنه لن يتدخل في هذه المبادرة ولن يكون طرفا فيها، معتبرا جلسة الحوار الوطني التي عقدت في غدامس هي محاولة لإقصاء الثوار من المشهد على الرغم من أنهم أصل وأنهم يقاتلون على الأرض لحماية البلاد وصونها من التدخلات الأجنبية السياسية والعسكرية. وفق ذلك، ورغم الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لاحتواء الأزمة الليبية يبقى العنف سيد الموقف أمام آمال الحوار التي تبقى قائمة للخروج بليبيا من أزمتها المتواصلة بدءا من استرجاع رمزيا الموقع الدستوري لمكان عقد البرلمان الجديد لجلساته في طرابلس عوضا لمدينة طبرق وهو ما يشكل الاحترام للشرعية التي تحظى بالإجماع الدولي قبل أن تفرض بالتدخل العسكري الخارجي . مثلما تبقى الآمال معلقة لاحقا على جولات الحوار الوطني الليبي المدعوم بمبادرات أطلقتها دول الجوار مؤخرا )الجزائر ? مصر ? تونس( والتي تدعو الفرقاء الليبيين إلى الجلوس حول مائدة الحوار بالجزائر العاصمة الذي سيواصل المرافعة والعمل ضمن الموقف الذي تبنته منذ تنصيبها في ماي الفارط والرافض لكل تدخل أجنبي في ليبيا وتشجيع الحوار الشامل الذي يسمح بالتوصل إلى حل سياسي يسمح بعودة الاستقرار و السلم إلى ليبيا. ومهم جدا أن يدعم المجتمع الدولي جميع الفرقاء في الذهاب إلى طاولة الحوار الوطني وتوفير الشروط اللازمة لفتح باب جديد في تاريخ ليبيا المضطرب، وهو ما عبرت عنه الحكومة الشرعية عبر أهمية أن يكون هناك وجود تنسيق في المواقف السياسية والتعاون العملياتي فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف حتى يكون هناك استقرار في ليبيا وبالتالي سيؤدي إلى بعد إيجابي على الاستقرار في المنطقة. مثل هذا الإجماع الدولي الذي يتوطد على أساس قواعد أساسية متفق عليا ضمن خارطة الطريق من شأنه أن يعزز موقف الرفض لأي حل عسكري للازمة الليبية التي تعد أزمة داخلية يتوقف حلها على الليبيين، وبالتالي يبقى الحوار الوطني الشامل حول المؤسسات الشرعية للدولة الليبية ضروريا ومسنودا إلى توضيح الأولويات من بينها آليات بناء الجيش والشرطة الليبية والمصالحة الوطنية وضرورة وجود اتفاق لنزع السلاح والعمل على تشكيل وحدات لوقف الانفلات الأمني السائد داخل ليبيا منذ سقوط نظام القذافي.