وجه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عند ترأسه لاجتماع ضم أهم مسؤولي الدولة المدنيين ومنهم العسكريين لمواجهة آثار تطورات الانهيار الحالي لأسعار النفط الذي يعد المصدر الرئيسي للمداخيل الخارجية للجزائر، رسائل عديدة، مذكرا الجميع بتحمل مسؤولياتهم لمواجهة الوضع وانعكاساته. تدني أسعار النفط، وفي السياق العام للتوجيهات المعطاة خلال المجلس المصغر جعلت الرئيس يشدد على بعض الكلمات أهمها تأكيده أن الأزمة حادة ومثيرة للانشغال وآفاقها لا يمكن توقعها على المدى القصير. وفق ذلك أوصى الحكومة بالمراقبة المستمرة لسوق البترول الدولي وانعكاسات ذلك على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للبلاد، وبالرغم من أنها تملك »هامش مناورة« لمواجهة الأزمة الحالية لأسعار النفط ومواصلة العمل إلا أنه عليها »ترشيد« النفقات العمومية والواردات والاستهلاك الداخلي. في خضم هذه الكلمات والحيثيات يقتضي الأمر إقامة جسور التواصل لبلورة الإجماع الذي من الطبيعي أن يثير عديد الأسئلة المرتبطة ببنية الإجراءات المتخذة سياسيا وآليات التكيف الجديدة وعن مستقيل اقتصاد البلاد الذي لازال بعد أكثر من خمسين سنة من الاستقلال قائم على الريع النفطي بحيث تتجاوز مداخيل البلاد من المحروقات ال99 بالمائة، في حين لا تتجاوز صادرات البلد خارج المحروقات بضعة ملايين من الدولارات بعضها من المنتجات الفلاحية وأكثرها من معادن أخرى تستخرج من باطن الأرض دون قيمة مضافة .. وبلغة التحليل فإن الأمر يحيلنا إلى فهم الأمور على النحو التالي: أولا.. الانخفاض السريع لأسعار البترول الذي بدى مثيرا للانشغال لدى المختصين في المجال الاقتصادي لم يكن بنفس الأمر عند بعض المتتبعين السياسيين الذين أدركوا خفايا توظيفه في الحسابات السياسية بعضها كان قد تم تداوله في أكثر من تصريح مبطن قبل شهور، وأكده الارتباط بتطورات أسواق العالم التي تفيد يوما بيوم أن انهيار أسعار النفط بين يونيو2014 وديسمبر 2014 إلى مستويات أضرت بالدول المصدرة لم يكن سببها قوانين السوق، وإنما تزامن حدوثها مع تطورات سياسية أُتْبِعت بقرارات سياسية، ولم تعد تلك التطورات بخافية، وقد تجر العالم إلى منزلق خطير من المواجهة. فإن كان الهدف من القرار السياسي باستخدام النفط والهبوط بأسعاره هو ممارسة المزيد من الضغوط على إيران على خلفية برنامجها النووي فإن إيران، كما يبدو، عازمة على ممارسة حقها في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية ولن تتخلى عنه، ولم يثنها عن تحقيق هدفها طول الحوار مع الغرب أو العقوبات. أما الهدف الأول وهو الأخطر المتمثل بمعاقبة روسيا لموقفها من الحرب الأهلية الأوكرانية التي كانت قد تأججت أصلا بسبب تدخل الغرب في شؤون أوكرانيا بتشجيع القوميين الأوكرانيين بخلع الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، الأمر الذي أجج صراعا داخليا سوغ لروسيا عدم الوقوف متفرجة. فالعقوبات الاقتصادية المتوالية على روسيا تسببت بتصدع الاقتصاد الروسي، وكان أكثر تبعات العقوبات وضوحا الخسارة المتوالية للروبل الروسي بفقدانه 50% من سعر صرفه مقابل الدولار خلال عام 2014. كما قدرت منظمات دولية أن خسارة روسيا بسبب العقوبات قد تصل إلى أكثر من 30 مليار دولار منذ بدء سريان العقوبات التي أضرت بالشعب الروسي في انتظار الرد بأكثر وضوح الذي يعتزم بوتين اتخاذه لمواجهة العقوبات. وإذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تستخدم سلاح النفط للضغط على روسياوإيران بدعم من حلفاء على الصعيد العالمي، فإن لها غايات داخلية أخرى، فالمستهلك الأمريكي راضٍ كل الرضا عن تراجع كلف وقود المركبات بنسبة 30% في موسم شتاء 2014 / 2015، ففي الوقت الذي كان يدفع أكثر من 4 دولارات للجالون في شتاء 2013 / 2014، صار يدفع أقل من 3 دولارات في جالون البنزين اليوم، وقد يكون تراجع أسعار مختلف المشتقات النفطية داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية في صالح الشركات الإنتاجية التي تعتمد تشغيل خطوطها الإنتاجية على النفط. في تقرير لمجلة »الإكونوميست« قالت فيه هناك ربيع في أمريكا هذه الأيام. حيث إن التوقعات حددت نسبة النمو الاقتصادي السنوي في الربع الثالث من العام الحالي ب 3.9٪، وذلك بعد أن بلغ متوسط هذه النسبة أكثر من 4٪ سابقا، أما سوق الأسهم فهي مستمرة بضرب مستويات قياسية جديدة، كان آخرها في 26 نوفمبر 2014. كما شهد سوق العمل تسارع نمو الوظائف، ذلك هو الرهان الكاسب لدى إدارة الرئيس أوباما على المستويين الدولي والداخلي الأمريكي من خلال دخول النفط في المعادلة السياسية على المدى الطويل. أما الآثار المتوقعة للقرار السياسي بخفض أسعار النفط فلم يكن الضرر قد وقع على روسياوإيران، فمعظم، بل الدول المصدرة للنفط كلها لم تكن متوقعة انهيار الأسعار المتسارع خلال الربع الأخير من عام 2014 . إذ إن معظم التكهنات المؤسسة على واقع وتطور الاقتصاد العالمي الذي شرع بالتعافي، وإن كان بطيئا، بأن أسعار النفط ستبقى فوق 100 دولار للبرميل خلال عام 2015. وعندما تسارع انهيارها تأكد أن قوانين السوق لم تكن تسوغ هبوط الأسعار وحل حلها القرار السياسي. ثانيا ..من التبعات المباشرة لتهاوي أسعار النفط ما يحصل في أسواق الأوراق المالية للدول المنتجة والمصدرة التي سجلت تراجعات بنسب موازية لنسب تراجع أسعار النفط، مع أن مسؤولين في حكومات كثيرة من الدول المصدرة التي تمتلك إمكانيات المواجهة لمرحلة معينة يؤكدون أن موازناتهم تتحمل حتى أن يهبط سعر برميل النفط إلى 40 دولارا، غير أن مثل تلك التصريحات تتجاهل دول محدودة الصادرات من النفط الخام، كما أنها تتجاهل قلق المستثمرين في أسواق المال في المنطقة. الجزائر التي تعد واحدة من الدول التي تملك في الظرف الحالي إمكانيات الصمود داخليا أكدت على لسان الرئيس بوتفليقة أنها تستبعد فكرة التخلي عن الأهداف الرئيسية للتنمية وسياسة الاستثمارات العمومية الجارية التي تظل محرك النموسيما في القطاعات التي تعني بشكل المواطنين بشكل مباشر سيما في مجالات التربية والتعليم والتكوين والصحة والسكن كخيارات أساسية وطنية من أجل العدالة الاجتماعية والتضامن الوطني. وكمسؤول أول عن البلاد أكد أنه سيسهر شخصيا على تطبيق التدابير الضرورية العاجلة وعمليات التكييف الواجب إجراؤها عبر إصدار تعليمات للحكومة للمتابعة الدائمة والقيام بالتكييف الضروري للأولويات والتكاليف في تسيير الاقتصاد والميزانية. المجالات المتاحة لذلك وظف لها بوتفليقة كلمة »هامش مناورة« عبر سعر برميل يفوق 100 دولار إلى حد كبير )مقابل أقل من 60 دولار حاليا( وفائض تجاري قياسي ومديونية خارجية شبه منعدمة وتسجيل ميزان المدفوعات الخارجية للجزائر خلال السنوات الأخيرة فائضا معتبرا مون احتياطي صرف يقارب 200 مليار دولار وكذا الادخار العمومي على مستوى صندوق ضبط الإيرادات. وبحسب التقديرات القادمة سوف لن تتجاوز المداخل النفطية 42 مليار دولار سنة 2015 بسعر للبرميل قدر ب 60 دولارا. الخطاب السياسي الرسمي بتفسير الكثير من الخبراء يقر أن الوضعية المالية الحالية كفيلة بمواجهة انخفاض أسعار النفط لمدة خمس إلى ست سنوات ولكن يجب مع ذلك ترشيد نمط المعيشة والكف عن ضخ الأموال دون مردودية اقتصادية وخاصة مراجعة نظام المساعدات. ويفرض التحذير الذي رفعه بوتفليقة من كون الأزمة النفطية التي أدت إلى انخفاض الأسعار إلى النصف في ظرف بضعة أشهر تستدعي ترشيد الواردات من السلع والخدمات ومكافحة أكبر لتهريب رؤوس الأموال من أجل الحفاظ على توازن ميزان المدفوعات صياغات اخرى اكثر صرامة. كما أن الارقام وبحجم التحديات المطروحة على الجزائر بما فيها الأمنية على الحدود مع دول الجوار ومنطقة الساحل تطالب الحكومة بتوخي المزيد من الحذر والمنهجية والعمل من الآن فصاعدا على ترشيد النفقات العمومية من خلال إن اقتضى الأمر اقتطاعات خاصة في ميزانية التسيير وجعل مؤسسات القطاعين العام والخاص تستثمر أكثر في المشاريع العمومية الكبرى )إلى جانب المؤسسات الأجنبية( من أجل تسريع الوتيرة وتقليص التكاليف والتحكم في التكاليف الزائدة للمشاريع وكذا تثمين الكفاءات الوطنية لتقليص تكلفة اللجوء المتكرر لمكاتب الاستشارة الأجنبية. والاعتماد بشكل أساسي على قدرات الانجاز الوطنية لتنفيذ المشاريع وعدم اللجوء للمؤسسات الأجنبية إلا إذا توفرت هذه الأخيرة على تكنولوجيات حديثة. ثالثا .. الحصيلة الايجابية للاقتصاد الكلي لا ينبغي أن تنسينا بأن التبعية الكبيرة للمحروقات تعد خطرا كبيرا لا يمكن احتواؤه إلا من خلال تنويع الاقتصاد انطلاقا من قطاع الطاقة الذي هو مكلف بترقية ترشيد الاستهلاك الداخلي للطاقة وترقية الانتقال الطاقوي بفضل تطوير الطاقات الجديدة والمتجددة وبتكثيف البحث واستغلال المحروقات . بالنسبة للجزائر فان كل الظروف والإمكانيات اللازمة للاستثمار قد توفرت بفضل الكثير من الاستثمارات العمومية العائدة عن مداخيل النفط إذا ما تم التحكم في تسييرها الجيد وتثمين مردوديتها العالية. تلك هي الرسالة الأخرى التي طرحها الرئيس الذي أمر الحكومة بإطلاعه في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة حول الإجراءات الواجب اتخاذها لإنعاش القطاعات التي يمكنها التأثير على بقية الجهاز الاقتصادي كقطاعات الصناعة والبيتروكيمياء والفلاحة والسياحة والمالية وتكنولوجيات الإعلام والاتصال الحديثة، وكلها تلعب دور المحرك في مرحلة التحضير الفعال للبناء الضروري لاقتصاد مرحلة ما بعد البترول الذي لن يتم إلا ببناء اقتصاد قوي،غير ريعي وغير تابع للمحروقات وفسح مجالات الاستثمار للقطاع الخاص المحلي والاستثمار الأجنبي كون الجزائر غنية وتملك المؤهلات التي تجعلها تتبوأ الصادرات في الكثير من الميادين. لكن، وبالرغم من الإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة، وبالرغم من التطهير والإصلاحات التي قامت بها الدولة إلا أن عملية الاستثمار الحقيقي لم تنطلق في الجزائر ماعدا في قطاع البترول والخدمات السلكية واللاسلكية لأسباب عدة منها المنظومة المصرفية والعقار والمنشآت القاعدية والسوق المالية والبيروقراطية المتفشية في الإدارات العمومية. ففضلا عن ما تبقى من القطاع الصناعي الذي بعاني من مشكلات التحديث ككل والصمود أمام الاستيراد هناك قطاع فلاحي غير مستغل كما يجب وقطاع سياحي بعيد جدا عن المقاييس الدولية مع أنه مصدر دخل قوي لاقتصاديات دول قريبة من الجزائر ناهيك عن غياب استثمارات محلية أو أجنبية مكملة للعمومي قادرة على التأسيس لمرحلة ما بعد البترول. في تقريرها،على سبيل المثال، سجلت الوكالة الوطنية للاستثمار حوالي 47600 مشروعا استثماريا منها 423 أجنبيا أما الباقي محليا بنسبة99 بالمائة،وبنسبة إجمالية لا تتعدى93,7 مليار دولار منها 27 مليار دولار للاجانب والباقي للمحليين،ودلك خلال الفترة الممتدة من 2002 إلى 2012 . استنادا لنفس الحصيلة التي تبقى بعيدة عن قدرات وثروات الجزائر فانه من المرتقب أن تساهم هده المشاريع في توفير 755170 منصب شغل وهورقم قليل جدا قياسا مع الطلب المتزايد. ويستحوذ قطاع النقل حصة الأسد ب 26718 مشروعا أي نسبة 56,14 بالمائة، يليه قطاع الأشغال العمومية والري ب 9081 مشروعا بنسبة 19,08 بالمائة، والصناعة ب5113 مشروعا بنسبة 11,37 بالمائة، ثم الخدمات ب 4809 مشروعا بنسبة 10,10 بالمائة، الفلاحة ب 612 مشروعا بنسبة 1,29بالمائة، الصحة 545 مشروع بنسبة 1,15 بالمائة، السياحة ب 409 مشروع بنسبة 1,29 بالمائة، وأخيرا لاتصالات السلكية واللاسلكية ب 4 مشاريع فقط بنسبة 0,01 بالمائة. ويأتي القطاع الصناعي في مقدمة الاستثمارات الأجنبية ب 239 مشروعا بنسبة 56,50 بالمائة، متبوعا بقطاع الخدمات ب 18 مشروعا وقطاع الإشغال العمومية والري ب 64 مشروعا. الملاحظ أن الخطاب الرسمي الذي ظل طوال السنين يؤكد أن ما بعد البترول يقتضي الاستثمار في الفلاحة والسياحة لم يبلغ مداه عبر أرقام الاستثمارات التي جاءت ضعيفة جدا ولم يمكن أن تكون قد شهدت قفزة أخرى بعد تلك الحصيلة في ظل تأخر تحيين المعطيات والإبلاغ بها .
رابعا .. دعا بوتفليقة الحكومة إلى بذل جهد خاص في مجال الاتصال تجاه الشعب في مرحلة »أزمة البترول« من أجل طمأنتنه وتجنيده في مصلحته ومصلحة البلاد كون التعديلات الاجتماعية والاقتصادية قد تكون موجعة في مناخ يميزه الجدال السياسي المميز للمشهد السياسي وحجم الاحتجاجات الاجتماعية المسجلة في أكثر من قطاع ومنطقة. وبالنظر للنقص المسجل في الاتصال المؤسساتي، فإن جميع المؤسسات المكلفة بتجسيد التوجيهات الرامية إلى تنويع الاقتصاد الجزائري من حيث الشفافية ونوعية التسيير وموثوقية نظام الإعلام عليها بالانفتاح على الخبرات والقدرات التي من شانها ضمان ذلك علما وان الاتصال المؤسساتي هو منظومة متكاملة قائمة على مجموعة من العناصر تستوجب أساسا توفر الإرادة والقدرة السياسية والتعامل مع ذوى الاختصاص. ولا يمكن بلوغ هذا الهدف أيضا إلا من خلال عصرنة وتحسين النجاعة الاقتصادية للمؤسسات والإدارات من خلال تحسين أنظمة التسيير داخل المؤسسات والإدارات الجزائرية. إن عملية التواصل من أجل الإعداد الجيد لما بعد البترول عبر تجنيد واسع للجزائريين يتطلب في المقام الأول السعي إلى تحويل الكلام المدروس إلى عمل ميداني حقيقي والدفع به رغم العراقيل الظرفية التي ينبغي إعلام الرأي العام بها لبعث الاستثمار الفعلي ، وهو ما يتطلب تطوير الموارد البشرية لمرافقة الإصلاحات الاقتصادية التي انطلقت، وأن يشكل هدف تحسين نوعية التسيير الأولوية في مشاريع الاستثمار, وإعادة هيكلة القطاع العمومي الصناعي وتحديد الأهداف والوسائل من أجل تطوير المؤسسات الناجعة التي تستطيع أن تساهم بصفة فعالة في النمو وخلق الثروات، ناهيك عن الإصلاح المالي والمصرفي وبشكل خاص وإعادة تحديد الشبكات المالية والنقدية التي يمر عبرها الادخار الوطني نحو تمويل الاستثمارات المنتجة، إلى جانب إشراك الإطارات الشبابية في التسيير واتخاذ القرارات وإشراك الجمعيات المدنية ذات المصداقية في اتخاذ القرارات الاستثمارية المتعلقة بالجماعات المحلية وتطوير وتوسيع المنشآت القاعدية عبر مختلف مناطق الوطن. في صلب هذه المهام تبقى مسألة التبليغ من أجل التعبئة جد أساسية وفقها سينخرط الجميع في مسعى بناء اقتصاد ما بعد البترول.. فهل تكون الأزمة الحالية المعبر القوي لذلك؟ . [email protected]