مضت 57 سنة على ذلك اليوم الرمزي المشهود (19 ماي 1956)، وأقول الرمزي لأن الجدل حول التاريخ قائم كما هو الحال بالنسبة لخمسة جويلية 1962، ولا يؤثر على القيمة التاريخية للحدث، وتتمثل فيما قدمه شباب الجزائر من تضحيات بدءا بترك مقاعد المدرسة والجامعة والانخراط في الثورة لتحرير الوطن من كابوس الاحتلال الاستيطاني والجرائم التي اقترفها ضد الأرض والإنسان، وتعبئة جهودهم للدفاع عن حق الجزائريين في الكرامة والحرية وتكوين نواة النخبة التي أطرت الدولة الوليدة بعد التحرير. وينبغي أن نشير إلى أن قادة الثورة الواعين بتحديات ما بعد التحرير أوصوا الشباب الذين قاطعوا الدراسة بمواصلة التكوين، بل أرسلوا الكثير منهم إلى معاهد البلدان الشقيقة والصديقة لتحضير إطارات جزائر المستقبل أثناء ملحمة الكفاح المسلح وستكشف سجلات التاريخ الخالي من الجدل حول السابقين واللاحقين من شباب الداخل والخارج ومن فرنسا وخارج فرنسا، ستكشف تلك السجلات أن المعركة واحدة مهما اختلفت المواقع الجغرافية ووسائل الانخراط فيها. ليس في النية في هذه السطور تقييم حصيلة قطاع استراتيجي والجزائر تحتفي بخمسينية استعادة السيادة وانطلاق المشروع الوطني لبناء ما دمره الاحتلال خلال 132 سنة، ولكن قد يكون من المفيد التذكير بأن إحصاءات ديوان الحاكم العام الفرنسي سنة 1960 حسبما ذكره المؤرخ أجرون(ch. Ageron )، هي 87% من الأميين الذكور و93 % من الأميات النساء ولمواجهة هذه الوضعية الكارثية وضع الساسة والمعنيون بالتخطيط والتدبير والتيسير منذ البداية قطاع التربية على رأس قائمة الأولويات الوطنية، فقد قررت الدولة مجانية التعليم والسعي لنشره في المدن والأرياف وتوسيع تعليم البنات في كل أنحاء القطر، وهو أمر سيكون له تأثير إيجابي على تطور المجتمع في الأمد المنظور، فالمرأة المتعلمة تمسك بأحد مفاتيح المواطنة الفاعلة. ولا شك أن من أهم الانجازات التي تحققت خلال نصف القرن الماضي هو ديموقراطية التربية والتعليم في كل أنحاء القطر، وقد بقي هذا التوجه ثابتا حتى أثناء شح موارد الدولة في بداية الستينيات من القرن الماضي وفي منتصف الثمانينيات، ولم تتخل عنه كل القيادات التي تولت مختلف المسؤوليات العليا في هرم الدولة، ولا ينفي ذلك وجود "رغبات" للانتقاء الطبقي لم تتمكن لحد الآن من تغيير التوجه العام لديموقراطية التعليم لعدة أسباب نذكر منها: 1- مرجعية البيان المؤسس لثورة نوفمبر 1954 الذي أعلن أن احد الأهداف الكبرى للثورة هو بناء دولة ديموقراطية اجتماعية، والمطلب الأخير يعني تساوي الفرص بين جميع المواطنين بل ومساعدة الأقل حظوظا من الفئات الفقيرة أو المعزولة جغرافيا على دخول السباق والاستفادة من التعليم والتكوين في كل المستويات من المدرسة إلى الجامعة. 2- بطء الظهور العلني للتمايز الطبقي بين فئات المجتمع لأسباب تاريخية وثقافية، فمن المعروف أن قسما من طبقة الأعيان القديمة كان رديفا طوعا أ كرها لإدارة الاحتلال على الرغم من أن البعض من تلك الطبقة قدم دعما بأشكال مختلفة لجيش وجبهة التحرير الوطني أثناء فترة الكفاح المسلح، وقد تركت تلك الوضعية نظرة سلبية وخاصة لدى شرائح من الجيل الذي عانى من ويلات جيوش الاحتلال وأعوانه من الأعيان، فضلا عن المرتزقة من الحركة 3- يقترن التمايز الطبقي بسياسات الدولة واختياراتها الايديولوجية وهو ما لم يكن ممكنا قبل 1962 حيث كان المجتمع الجزائري ينقسم من جهة إلى أقلية من المستوطنين الاوروبيين يتمتعون بحقوق المواطنة على الرغم من وجود نفس الطبقية الممثلة في مجتمعهم الأصلي (فرنسا) وأغلبية من جهة ممن يسمون الأهالي قد يحصل بعضهم على مرتبة قريبة من الأقلية الاروبية بشروط منها الاقتراب من ثقافة وأسلوب حياة تلك الأقلية وخدمتها. 4- غير أن التصنيف الطبقي قد لا يعود إلى الثروة، فهناك النسب والانتماء إلى السلالة الشريفة (إمبراضن) أو شبكة الزوايا المنتشرة في كل أنحاء القطر ويحظى شيوخها والمنتسبون إلى هياكلها بالتقدير والاحترام لأسباب روحية دينية، ولما تقدمه من خدمات لمحيطها وخاصة الفقراء من الناس، باستثناء العميلة لإدارة الاحتلال، وخاصة في بداية القرن الماضي. 5- يتساكن في مدن الجزائر منذ عدة عقود تجاور وتداخل بين الطبقات أشبه بما يسمى الخلطة في الولاياتالمتحدة Multing pot بغض النظر عن الدخل والمهنة والملاحظ أن للتداخل أسباب تاريخية ترجع إلى الهجرة أثناء حرب التحرير وتجمع عائلات من نفس المنطقة حيث يتجاور في نفس العمارة السكنية سائق الحافلة مع مدير في إحدى الادارات وأستاذ في الجامعة إلخ. غير أن بداية الترخيص بفتح المدارس الخاصة يؤذن ببداية محتشمة لظهور نمطين من التعليم أحدهما للخاصة والآخر للعامة، وقد يصل إلى الجامعات والمعاهد العليا في التعليم العالي عن طريق الشراكة أو على نمط الجامعات الأمريكية في مصر ولبنان والصربون في بعض بلدان الخليج. 6- قد تتخفى نزاعات أخرى وراء نقد نظام التربية والتكوين وخاصة بعد اعتماد المدرسة الأساسية وإلزامية التعليم حتى 16 سنة من عمر الأطفال من بين تلك النزعات. 6-1- نزعت نسبة ضئيلة من المتعلمين في نظام المدرسة الفرنسية الاقصائي للأندجين والحنين إلى مناهجها المتفوقة فعلا بحكم تراكم التجربة التربوية وخاصة بعد توجيهات بما يعرف بمدرسة جول فيري اللائكية المعتمدة منذ 1905. 6-2- رغبة فئات من الاجيال السابقة والتي خلفتها في تثمين الفرنسية لغة وثقافة، لا وجود للغة بدون ثقافة ولا لثقافة بدون لغة وإلا بقيت شفوية ومعرضة للاندثار فهي تعكس تطورها في مختلف المراحل التاريخية، فقد بقيت في ذهن ووجدان الجزائريين صورة المتفوق والقوي وحداثته وفنّ الحياة عنده وبين حال بلادهم التي ترزح تحت أثقال التخلف الموروث من عدة قرون، تخلف زاده الاحتلال عمقا وانتشار بالتفقير والتجهيل وتدمير الهياكل التقليدية للجزائر بعد بضعة عقود من الاحتلال. 6-3- انعكست تلك المقارنة على النظرة إلى المدرسة التي ابتعدت في مضامينها وبعض هياكلها عن النموذج الفرنسي وأخذ النقد أحيانا صبغة ايديولوجية يلتقي فيها اليسار الموصوف بالتقدمي واليمين في صورته الكمبرادورية والتكنوقراطية وأجنحة من التيارات الوطنية والإسلامية التي تنادي بالتأصيل أو مقاومة التغريب بدون مشروع يبتكر المستقبل. وقد تبين عمق الصراع بين تلك الاجنحة سواء في التوزيع السياسي الايديولوجي لأعضاء ما عرف بلجنة بن زاغو في بداية العقد الماضي أو في مقترحات لإصلاح التعليم كما ظهرت في نهاية السبعينيات بعد أن عين المرحوم مصطفى الأشرف وزيرا للتربية وشرع في إعادة النظر في توجهات المدرسة الاساسية وإبعاد من يدعمها. أضيف إلى عوامل الصراع السابقة وخاصة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي المطلب الأمازيغي في المدرسة وتعميم تدريسها في مدارس الجزائر في أسرع وقت وتوفير ما يساعد على العناية بتراثها وإحياء ثقافته، وهي كلها تدخل ضمن مطلب شرعي لا يخص منطقة بعينها، فالأمازيغية من تراث كل الجزائريين وليست عرقا أو سلالة أو عنصرا فارقا بين المواطنين، ويمكن بعد توحيد لهجاتها والاتفاق على الحروف التي تكتب بها وترقيتها في مختلف الفنون والعلوم وإثراء قاموسها اللساني الموحّد أن تكون مثل العربية لغة وتراثا جامعا وليس حجة وسندا للغة أخرى مهمة بحكم تاريخ يمتد إلى 132 سنة أو مجرد ذريعة لإضعاف العربية والامازيغية ونعرف بحكم التجربة في مواقع مختلفة ما تعانيه اللغة العربية لغة تواصل وعمل من مصاعب وما تتطلبه من جهود للحاق بركب التقدم في العلوم والفنون والآداب ولكنها تبقى لغة جامعة وقطب أساسي في هوية الأغلبية من الجزائريين. ونتساءل في نهاية هذه المقاربة المدرسة الجزائرية إلى أين؟ وعما سيسفر الحوار حولها (والصراع غير الحوار الذي ينبغي أن يستمر كما هو الحال في كل الأنظمة التربوية في العالم) وهل سننجح في بناء مدرسة وفيه في مضامينها لمسارنا التاريخي وتجربة شعبنا وفي نفس الوقت تساهم في تقدم المجتمع وبناء حداثته أي مستقبله المنظومة بين خيارين هناك اتفاق على أن نظام التربية والتعليم العالي هو نقطة الانطلاق للتحرر من التخلف الثقافي وتسريع وتيرة التنمية والتحرر التدريجي من التبعية في ثلاث قطاعات رئيسية هي الصناعة والفلاحة والخدمات والطريق إلى ذلك يبدأ بتوطين المعرفة والتكنولوجيات والحرص على الاستثمار في البحث العلمي النظري والتطبيقي للتنمية (RD)، فطريق التقدم والازدهار يحدث وفق المعادلة التالية: علم ? ثروة ? سلطة (Savoir-Avoir-Pouvoir) . لسنا من أنصار كل شيء أبيض أو كل شيء أسود، ونعرف بحكم تجربتنا المتواضعة في القطاعين: التربية والجامعة أن المنظومة كلها تقع في صميم إشكالية التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهي مطالبة من جهة بتصميم حاضر ومستقبل مغاير للواقع، أي أفضل منه، وعلى نظامنا التربوي والجامعي أن يختار إما الاقتصار على تكوين نخبة الامتياز وإما النشر الأفقي للتعليم والتكوين العالي، في الخيار الأول يمكن أن تنجح بلادنا في تكوين نخبة قليلة فيما يسمى أقطاب الامتياز وسط أغلبية كبيرة من حاملي شهادات عليا لا تدلّ دائما على مدى تأهيلهم العلمي في مجال الاختصاص، وفي الخيار الثاني تعطى الأولوية للنشر الأفقي للتعليم والتكوين العالي وفي هذه الحالة تبتلع الأغلبية العددية القيمة النوعية وتبطل مفعولها أو تقلل من مردودها في التنمية، ولكن ما جدوى نخبة معزولة تعيش في عليين وتعجز عن نشر المعرفة وحتى التخاطب مع شعبها ؟ وما هي الفائدة من مئات الآلاف من حاملي الشهادات العليا كثير منهم على الورق فقط، إن الخيار ليست معضلة أو دايلاما، إنه المناهج والمكونين الأكفاء والتقويم الموضوعي للتحصيل المدرسي والجامعي ومشاركة المحيط من الاسرة إلى منظمات المجتمع الأخرى في إسناد التربية والتكوين العالي والاستفادة من التكنولوجيات الحديثة منذ الطفولة وتمكين المتمدرسين من التدريب على استعمالها في كل أنحاء القطر.. وهذه في الحقيقة مشكلة تواجه الكثير من بلدان المنطقة وحتى بلدان المقدمة في غرب أروبا وشمال أمريكا، وفي البلدان العربية على سبيل المثال وأغلبها على هامش النظام اللبيرالي، فقد تبنت تلك البلدان نظاما تربويا وجامعيا موازيا أي مخوصص إلى جانب المدارس والجامعات العمومية باسم الجامعة الأمريكية في لبنان ومصر والأردن والمغرب والسعودية، والسوربون في الإمارات. ويرى بعض الباحثين أن ذلك النظام الموازي قد أدى إلى امتياز طبقي وشبه وراثي لعائلات تتمتع بفرص أفضل ماليا واجتماعيا للارتقاء في المناصب السياسية، وبالتالي تقاسم عائدات الثروة وما يتبعها من جاه وسلطة، والدليل على ذلك أن نسبة الأمية والفقر تتجاوز في بعض تلك البلدان نسبة 50% من عامة الشعب، وحتى في البلدان المتقدمة التي يواجه فيها نظام التربية والتعليم العالي انتقادات كثيرة تتركز على ضعفه والنقص في تحيينه لملاحقة واستيعاب التراكم المعرفي والتكنولوجي المتسارع وتنتقد أكثر تشدده في الانتقائية الدارونية (Darwinisme) أي البقاء دائما للأفضل الذي أدى إلى ظهور فئات قليلة تسمى اليوبيز (Youppies) أو الشباب الذهبي (Golden Boys) وهم من الذين تُفتح لهم أبواب جامعات هارفارد وماساشوست وأوكسفورد ويسمون القلة السعيدة (Happy Few). التربية والتكون الجامعي هل هما على هامش التنمية؟ تواجه مؤسسات التكوين المدرسي والجامعي في بلادنا عزلة مصطنعة عن محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهي في بعض الحالات تكاد تتحول إلى ما يشبه الدير الذي يتعاقب عليه القساوسة ويكررون نفس الطقوس والمراسيم، وذلك بسبب قدم مضامينه وعدم تلاؤم التنظيمات والتشريعات التي تسوسه وتسيره، بالإضافة إلى الكتل البشرية التي تنهال على نفس الهياكل، وتضخم حشود التلاميذ والطلاب بدون توجيه مدرسي أو متابعة بداغوجية، بالإضافة إلى ندرة أو على الأصح انعدام وسائل التثقيف خارج المدرسة مثل المنشورات المتعلقة بقصص الأطفال والمعارف العلمية المبسطة عن الإنسان والطبيعة والبيئة والأشرطة التي تقدم بطريقة مشوقة تاريخ وحضارة وجغرافيا الوطن التي يعيش فيها وخاصة قصص الخيال العلمي. ولا يوجد ترفيه تثقيفي خارج الانترنت أو الشابكة، وأغلب ما يعرض على الشاشة من أفلام الكارتون هو ترجمة لما يُنتج في أوروبا وأمريكا واليابان، أما مقررات التربية المدنية والدينية فهي إمّا كلام تجريدي لا يؤهل حامل الباكالوريا لملء اٌستمارة طلب في البلدية وإما حديث عن عموميات ونصوص وعظية لا تغرس في الشباب أصول الحياة المدنية (Civisme). وبالنسبة للجامعات ومراكز البحث التابعة لها فإن الديباجات المنمقة إلى تتصدر مخططات التنمية والتصريحات الرسمية لا تجد لها صدى في السياسات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ففي أغلب المشاريع لا تشرك الخبرة الوطنية في التصور والتنفيذ إلا نادرا، وتوكل تلك المهام لمكاتب الدراسات والخبرة الأجنبية من الألف إلى الياء، ومن المعروف أنه من الصعب نقل الخبرة العلمية والتكنولوجية إذا اقتصرنا على استيرادها جاهزة وبقينا نحن مجرد متفرجين ومستهلكين، إن الوفرة المالية الراهنة في البلدان المصدّرة للطاقة، وفي الجزائر بوجه خاص، ليست دائمة ولا مضمونة، فالكفاءة والمهارات والحكم الراشد هو الذي ينشئ الثروة وينميها على المدى الطويل. ولا يعني ذلك أن نظامنا التربوي والجامعي كله ضعيف ومتدني (Médiocre) فهناك أحيانا مواقف نقدية ايديولوجية، وأخرى ترجع إلى ما يقال عن العربية لغة التعليم، وهو ما لا يرضى عنه أحادي اللغة (فرنسية) أو عربية في صورتها المجمدة والوعظية وثالثة ترجع إلى معايير التصنيف والترتيب للجامعات حسب معايير أنغلوسكسونية تميل إلى ما ينشر من بحوث باللغة الانكليزية، فهناك بالتأكيد محاولات لتحيين النظام التربوي في المناهج والمضامين ما تزال في طور التجريب، ولا شك أن الحكم على منتوج أية منظومة للتكوين والبحث يتطلب دورة زمنية لا تقل عن المدّة التي تستغرقها المنظومة من بداية المرحلة الابتدائية إلى ما بعد التدرج. في بلادنا ينبغي أن يكون ذلك التصميم على درجة كبيرة من الضبط والدقة حتى يستجيب لمنطلقات فكرية من مسار التجربة الوطنية وإرادة للتنمية تعتمد أساسا على الإنسان الذي هو مبتداها وخاتمتها لأن أي خطأ في ذلك التصميم ستكون له عواقب سلبية تمتد إلى جيل بأكمله، كما أن تكرار محاولات الإصلاح في فترات زمنية قصيرة، على طريقة الحملات الموسمية، يحول مؤسسات التربية والتكوين والبحث إلى "كوباي" في مخبر للتجريب، بدون منظور اٌستراتيجي لقطاع يعتبر قاطرة التنمية ورهانها الأساسي. تتصدّر الولاياتالمتحدة وهي اليوم القوة الشاملة (Global Power) الوحيدة في العالم الصفّ الأول في قيادة العلم والتكنولوجيا بين الدول المتقدّمة فقد كشفت إحدى الدراسات عن تزايد المؤسسات الاقتصادية والتكنولوجية الفرنسية التي يقودها المتخرجون من المعاهد العالية الأمريكية، وأن 80 % من المتخرجين من معهد هارفارد يتولون بنجاح مناصب المدير العام والرئيس المدير العام وهذا المعهد هو معهد الاقتصاد والتجارة High School Harvard Business، وتجري الجامعات ومراكز البحث المتخصصة دراسات تتبعية، لتقييم إنتاجها من الإطارات المؤهّلة، ولتدقيق برامجها، وتحديث مخابرها، وإعادة تكوين وتدريب أساتذتها، حسب ما يستجد في عالم المعرفة وأدواتها. وليس من السهل في بلادنا القيام بمثل هذا التقييم لعدد من الأسباب، من بينها أن جزءا كبيرا من البحث العلمي يتم في مراكز البحث والجامعات الأجنبية، وفي بعض الأحيان لا تعود تلك الأبحاث ولا الباحثون إلى الوطن الذي أرسل تلك البعثات وموّلها، وهجرة الأمخاخ ونزيف الخبرة الذي تعاني منه كل البلدان النامية، -(حيث يُقدّر عدد الجزائريين المؤهلين تأهيلا عاليا أو متوسطا الذين هاجروا في العقدين الأخيرين إلى فرنسا و كندا وبلجيكا وغيرها خلال ثلث القرن الأخير بحوالي 40 ألف). لذلك النزيف أسباب موضوعية وأخرى مصطنعة، نذكر منها: عدم توفر هياكل البحث، أو سوء تنظيمها، والنزعة الخاطئة لتكليف المتفوقين في البحث بأعباء إدارية روتينية، وما يتعرض له الباحثون من إغراءات في الجامعات ومراكز البحث والتشغيل الأجنبية مثل أروبا وأمريكا وبلاد الوفرة المالية في الخليج (انظر ترجمتنا لدراسة ع. الكنز في مجلة معالم عدد- 3-) وصعوبة التكيف مع ظروف البحث عند العودة إلى الوطن، ونقص الثقة في كفاءة الخبرات الوطنيّة، والاٌلتجاء المفرط لمكاتب الدراسات الأجنبيّة مما يعطّل تراكم التجربة والخبرة ويزيد من التكلفة، بالإضافة إلى العجز عن متابعة التطوّر التكنولوجي السريع والنّقص الفادح في التقنيين المؤهّلين في الصّيانة وتحديث الهياكل الصّناعيّة، ولذلك فهي تصبح بعد دورة زمنيّة مجرّد "خردة" وتذهب الاٌستثمارات فيها هدرا، والأمثلة كثيرة نذكر منها تجهيزات المستشفيات، نظام الري وتوزيع المياه، ومقابر الأجهزة والآليات في المدن والقرى في كثير من أنحاء البلاد. ومن السّابق لأوانه تقييم التنظيم الذي اٌعتمده التعليم العالي في الجزائر ليسانس ماستر دكتوراه (L.M.D)، إذ من الضّروري تقدير منتوجه من الكفاءات المتوسّطة والعالية بعد دورة زمنيّة قد تستغرق عشريّة كاملة بعد تخرج منتوجها وممارسته في الميدان. إن أبرع الأخصائيين في التكنولوجيا لا يستطيعون كما قال الأستاذ "رونيه ماهو" (René Maheu) مدير اليونسكو السابق- في مؤتمر التكنولوجيا والبلاد النامية، لا يستطيع تحريك التقدم إذا لم يعززهم في عملهم هذا رجال حكماء يمسكون بالمقود ويدفعون بالريف والمدينة معًا إلى الأخذ بأسباب التطوّر والتقدم. فيما يتعلق بالتراكم المعرفي في الجامعات الجزائرية وهي المطالبة بانتاج البحث الأساسي والنظري، فإن مردودها العلمي والتطبيقي أقل كثيرا من عددها، تقريبا جامعة أو مركز جامعي في كل ولاية فضلا عن المخابر ومراكز البحث التي تشرف عليها أو المتصلة بها، حيث أن منتوجها لا يظهر في حسن التدبير والكفاءة في التسيير Savoir Faire ولا في عدد الأبحاث المنشورة في المجلات العالمية المحكمة التي يتجاوز عددها ألفين وخاصة ما ينشر في كتاب خلاصات الأبحاث الدورية Book of abstracts، والحقيقة أن القليل جدا من المجلات الجزائرية التي تحمل وصف محكّمة تستحق هذا الوصف. هناك أيضا التباس شائع يضع علوم الانسان والمجتمع في مرتبة الكماليات يرى البعض أنه يمكن الاستغناء عنها أو هي كما يقول الفيلسوف المرحوم محمد عزيز الأحبابي كلامولوجيا في معرض وصفه بما يسمى المتفرقات التي تطغى ما هو مهمّ، وأن الإهتمام كل الاهتمام ينبغي أن يوجّه إلى الرياضيات والفيزياء وعلوم الطبيعة، وهذا توجه خاطئ بلا شك يرجع إلى التأثر بالوجه الظاهر والمباشر للحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي بعد صدمة الاحتلال الفرنسي للجزائر وإدراك مؤلم للفجوة التي تفصلنا عن الصناعات والتكنولوجيا عند القادمين من وراء البحر. وهذا صحيح غير أن تقدم الولاياتالمتحدة وغرب أروبا لم يكن في تلك المجالات وحدها، فقد كان ولا زال تقدما على كل الجبهات، ولعل الدليل على ذلك أننا نعتمد اليوم على دراسات تلك البلدان لتاريخنا ومجتمعنا ونحتاج إلى خبرة وبالأخص إلى مراجع وتفسيرات الباحثين في شؤون السياسة والثقافة والتربية المتعلقة بالجزائر. إنّ التقدم العلمي لا يتحقق بالفصل بين فروع ومجالات المعرفة التي تتبادل المناهج والاكتشافات والنتائج، فليس هناك في شجرة العلم فروع خسيسة وأخرى شريفة، وقد أشار محمد أركون إلى ضعف الأبحاث في العلوم الدينية التي لا يرقى الكثير منها إلى المستوى الذي كانت عليه في القرن الرابع الهجري، ينبغي أن نضيف إلى ذلك أن المؤسسة الجامعية التي بدأت في الجزائر لأول مرة في شمال إفريقيا سنة 1909، كانت غريبة عن الجزائريين باستثناء قلة لم تتجاوز حتى 1962 3.8% من مجموع الطلبة الأروبيين، كما أن الجامعة التي تنسب اليوم إلى الجزائر استحقت وصف الوطنية بعد الإصلاح الكبير الذي تمّ على يد المرحوم وزير التعليم العالي محمد الصديق بن يحي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وهو يستحق أن يعتبر أب الجامعة الجزائرية الوطنية. يبين تاريخ انشاء بعض الجامعات المعروفة بالتميز في البحث العلمي والاختراعات والفتوحات أنها تعود إلى ما يزيد على خمسة قرون بينما أندثرت أو تجمدت بعض الجامعات في المنطقة العربية والإسلامية نذكر من تلك الجامعات الشهيرة كمبردج التي أسست سنة 1209 وأكسفورد التي تأسست سنة 1167 في بريطانيا وكلاهما كان قبل ثلاثة قرون تقومان بالتعليم الديني وتابعتان للكنيسة، وجامعة روستوك في ألمانيا التي تأسست سنة 1419 وجامعة بيركلي. ليس من المفيد المجادلة حول تصنيف وترتيب الجامعات التي تصدرها شانغاي أو بيركلي التي تردّ عليها السلطات الأكاديمية في جامعة الجزائر الأولى والأقدم أو زميلتها في باب الزوار، إن مستوى التكوين العالي في بلادنا يعكس على أي حال الواقع الثقافي والاجتماعي والفجوة التي تفصل الجزائر عن ركب المقدمة، وتدارك تلك الفجوة أو تضييقها يتطلب من النخبة السياسية والعلمية جهدا مشتركا على المدى المتوسط والطويل مصحوبا بإرادة لبناء التقدم، فالإنسان هو الذي يخلق الامكانيات والوسائل وليس العكس، إذ كلما تساءل أحدهم عن ضعف المنتوج الجامعي كان الجواب في الغالب هو قلة الإمكانيات والميزانية إلخ. ونظرا للتطور السريع في التكنولوجيات الحديثة فإنّ هناك علاقة بين مختلف مراحل التعليم والتكوين المهني إذ أن تكوين العمال والموظفين المهرة وتدريبهم على مختلف المهن يستفيد من التطور الحاصل في اختصاصاتهم التي تعد بالآلاف، بما فيها الصناعات التقليدية، ولعل الفجوة في قطاع التكوين المهني لا تقل عن الفجوة في مراحل التعليم من القاعدة إلى قمة الهرم ومنتوجه من المهارات نلمسه في آجال الإنجاز الطويلة ورداءة ما يُنجز. شجرة العلوم والتكنولوجيا: جذع واحد بعدة أغصان إن الاتجاه إلى تنمية الخبرة في ميدان العلوم الصحيحة والتقانات ينبغي أن يتعزز ويتأصل وينتشر في شتى شؤون الحياة، وأن يوازيه ويلتقي معه اتجاه مماثل يعمل على تنمية الخبرة في كل فروع المعرفة الأخرى، ونتساءل عن عدد وقيمة الأبحاث المتخصصة في علوم الإنسان والمجتمع للتنظير والتحليل وتفسير التحولات الجارية في بلادنا وداخل مؤسسات البحث العلمي مثل ماذا يحدث في جنوبنا؟ وما هي أوضاع المرأة؟ وماذا وراء الجنوح بكل أشكاله؟ وما حجم وقيمة الدراسات عن المتعاملين معنا والشركاء الأقربين فيما يخص سياساتهم وأحوال مجتمعاتهم وثقافتهم واقتصادياتهم ؟ وما هو حال البحث الاستشرافي في جزائر الأمس واليوم؟. تقاس الشراكة بين العلماء وقطاعات التنمية حسب معايير تقرير المكتب الإقليمي لبرنامج الأممالمتحدة عن التنافسية الصادر لسنة 2011 Global competitiveness Report بالمؤشرات التالية: 1- القيمة المضافة محليا في المنتوج الصناعي 2- نسبة التكنولوجيا ذات القيمة العالية في المنتجات المحلية 3- نسبة الصادرات من المؤشرين السابقين إلى مجموع الصادرات الأخرى، أي من غير المواد الخام. من الواضح أن تلك المؤشرات تمثل الهدف الذي ينبغي الوصول إليه في المدى المنظور، فالتنمية الوطنية لا تقاس بالوفرة المالية أو باٌستيراد الخبرة مقابل تصدير المواد الأولية، فلا يوجد أي من البلاد العربية وصل في المؤشرات السابقة إلى حدود 15% والبلاد التي تقترب من تلك النسبة، إنما كان أداؤها مقتصرا على نقل (délocalisation) صناعات معينة بسبب تلويثها للبيئة أو بسبب ضعف تكاليف اليد العاملة، وهذا هو الفرق بينها وبين تلك التي تصنف في مرتبة البلاد الصاعدة في جنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية. لا شك أنّ التّكوين في الجامعات ومراكز البحث الأجنبيّة، وإرسال البعثات العلمية للتكوين العالي والمتخصص، أمر حيوي وخاصة في هذه المرحلة التي تجتازها بلادنا إذا خططنا لاٌستثمار ما اٌكتسبته من معرفة وخبرة في تطوير مجتمعاتنا، كما فعلت وتفعل بلدان جنوب شرق آسيا والهند والصين بوجه خاص. لا غرابة إذن والحال على ما هو عليه، أن تعود أحيانا جهود باحثينا لصالح العالم المتقدم في الشرق والغرب، ومن الواضح أنه لا يمكن لأي باحث أو مشتغل في قطاعات التربية والمعاهد الجامعية أن يستغني عن الاٌطلاع عما يجري في العالم من تقدم في العلوم والفنون والآداب، إن تبادل الخبرات ومقارنتها تجري اليوم بسرعة كبيرة داخل العالم المتقدّم نفسه، حيث تنشر الدوريات المتخصصة Abstracts ملخصات لكل ما ينجز من بحوث بعدد كبير من اللّغات، وتعدّ بالآلاف كلّ سنة في مختلف فروع المعرفة النظرية والتطبيقية. وبالنسبة للجزائر فإنّ نقل العلم والتكنولوجيا لا يتمّ بطريقة آلية، فلا بدّ أن تتوفر الآلية الضرورية للاٌستيعاب والتمثل في محاضن تكون مثل خلية النحل ويرجع قدر كبير من هذه الآلية بلا شك إلى سياسات المشرفين على منظومة التربية والتكوين والبحث وأن يتم تخطيط المعرفة والخبرة المنقولة في الزمان والمكان أي تطويعها للاٌحتياجات الحقيقية للمجتمع، حسب كل مرحلة من مراحل تطوره، وحسب اٌستراتيجية على وعي برهانات العصر وعلى المدى البعيد. ويمثل هذا المسعى خطوة على الطريق لإخراج مشروع المجتمع المتقدم من المطلبية (Revendication) والمجادلات المتفائل منها والمتشائم إلى الواقع، إن التحكم في المعرفة والقدرة على تطبيقها (Know How)، هي منذ أمد بعيد أساس الأمن الوطني بمعنى اكتساب القدرة على الردع (Dissuasion)، والحد من التبعية المطلقة في عالم القرن الواحد والعشرين وعولمته التي تستفيد منها دول المركز (core states) على حساب العالم المُهمَّش وخاصة في المنطقة العربية والإفريقية التي ينظر إليها في أحسن الحالات كأسواق للاٌستهلاك وأماكن لنقل الصناعات الملوّثة وتخزين النفايات السامة والمُشعّة. ولا ندري ما هو مصدر تقديرات النمو في إفريقيا ما بين 5 و 7% منذ حوالي عشر سنوات؟ وهي تتخبط في الفقر وتعاني من الأوبئة الفتاكة وتتجاوز فيها الأمية 50% من السكان وتفتقر للهياكل القاعدية، بل يقل دخل الفرد فيها عن 2 دولار في اليوم!! إلى أين يذهب الدخل الوطني، ولا نشير إلى الفتن والحروب الأهلية والانقلابات المسيّرة من القوّة الكولونيالية السابقة، ومؤتمرات التنمية التي تنظمها الدول الكبرى وكأنها تعيد اكتشاف إفريقيا وقد دمرت ثقافتها ونهبت ثرواتها لأكثر من أربعة قرون. محمد العربي ولد خليفة ألقي ملخص هذه الورقة في جامعة الجزائر3 يوم 12- 04 - 2015