ضرورة التعريف بالقضية الصحراوية والمرافعة عن الحقوق المشروعة    العدوان الصهيوني على غزة : استمرار الإبادة الوحشية خصوصا في الشمال "إهانة للإنسانية وللقوانين الدولية"    مجلس الأمة: رئيس لجنة الشؤون الخارجية يستقبل وفدا عن لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بمجلس الشورى الإيراني    كرة القدم/كان-2024 للسيدات (الجزائر): "القرعة كانت مناسبة"    الكاياك/الكانوي والبارا-كانوي - البطولة العربية 2024: تتويج الجزائر باللقب العربي    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: إبراز دور الوسائط الرقمية في تطوير أدب الطفل    مجلس الوزراء: رئيس الجمهورية يسدي أوامر وتوجيهات لأعضاء الحكومة الجديدة    تمتد إلى غاية 25 ديسمبر.. تسجيلات امتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق هذا الثلاثاء    "رواد الأعمال الشباب، رهان الجزائر المنتصرة" محور يوم دراسي بالعاصمة    الخبير محمد الشريف ضروي : لقاء الجزائر بداية عهد جديد ضمن مسار وحراك سكان الريف    غرس 70 شجرة رمزياً في العاصمة    صهاينة باريس يتكالبون على الجزائر    مشروع القانون الجديد للسوق المالي قيد الدراسة    عرقاب يستقبل وفدا عن الشبكة البرلمانية للشباب    يرى بأن المنتخب الوطني بحاجة لأصحاب الخبرة : بيتكوفيتش يحدد مصير حاج موسى وبوعناني مع "الخضر".. !    حوادث المرور: وفاة 2894 شخصا عبر الوطن خلال التسعة اشهر الاولى من 2024    تركيب كواشف الغاز بولايتي ورقلة وتوقرت    شرطة القرارة تحسّس    رئيس الجمهورية يوقع على قانون المالية لسنة 2025    اختتام الطبعة ال14 للمهرجان الدولي للمنمنمات وفن الزخرفة : تتويج الفائزين وتكريم لجنة التحكيم وضيفة الشرف    صليحة نعيجة تعرض ديوانها الشعري أنوريكسيا    ينظم يومي 10 و11 ديسمبر.. ملتقى المدونات اللغوية الحاسوبية ورقمنة الموروث الثقافي للحفاظ على الهوية الوطنية    افتتاح الطبعة ال20 من الصالون الدولي للأشغال العمومية : إمضاء خمس مذكرات تفاهم بين شركات وهيئات ومخابر عمومية    الجزائر العاصمة : دخول نفقين حيز الخدمة ببئر مراد رايس    تبسة: افتتاح الطبعة الثالثة من الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير "سيني تيفاست"    مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية        الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    المخزن يمعن في "تجريم" مناهضي التطبيع    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    دخول وحدة إنتاج الأنابيب ببطيوة حيز الخدمة قبل نهاية 2024    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    إنقاذ امرأة سقطت في البحر    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    مباراة التأكيد للبجاويين    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    دعوى قضائية ضد كمال داود    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين توطين المعرفة وتنمية رأس المال البشري
اللغة الوطنيّة الجامعة
نشر في الشعب يوم 06 - 12 - 2010

ارتبطت اللغة العربيّة بالقرآن وعلومه، وتمّ توحيد لهجاتها في فصحى واحدة وموحّدة للناطقين بها لغة أولى في أوطانها أو لغة ثانية بين ملايين المسلمين والعديد من المستعربين في شتى أنحاء العالم، وهي من أولى اللغات التي تمّ تقعيدها في زمن مبكّر يزيد على 1200 عام، ويمكن الإطلاع على تراثها قبل الإسلام وبعده بالعربية مباشرة، وهو يزيد عدّة مرّات على التراث الهليني واللاتيني مجتمعين الذي يحتاج إلى ترجمة إلى اللغات الأروبية المتداولة اليوم، فاليونانيّة القديمة واللاتينية لا يعرفهما إلا قلّة من أهل الاختصاص، وتصنّف اليونسكو العربيّة في المرتبة السادسة بين اللّغات التي تستعملها نصف البشرية.
لا ينكر إلا جاحد مساهمة العرب والمسلمين في حقب سابقة في تقدّم العلوم والفنون والآداب، فقد أثروا رصيد المعرفة الإنسانية، ومن الثابت أن العربية كانت لغة العلم والتأليف العلمي، وأوْلى العديد من الخلفاء والأمراء عناية كبيرة بالترجمة من علوم الأولين والمتأخرين، وقد أمّ حواضر الإسلام باحثون عن المعرفة من مختلف الأجناس والأديان وشاركوا في المناظرات العلمية بتسامح كبير، نذكر من بين تلك الحواضر دمشق وبغداد وما وراء النهر والقاهرة وفاس وقرطبة والقيروان وبجاية وتلمسان التي ستكون في العام القادم عاصمة للثقافة الإسلامية.
2 - لماذا تتّهم العربيّة بالتخلّف..؟
إنّ ذلك الرصيد النفيس الذي صنع حداثة عصره وأضاف الكثير إلى تراث الإنسانية بمقاييس ذلك الزمان، هو منذ بضعة قرون جزء من تاريخ العلوم والآداب، وليس المعرفة كما هيّ عليه بعد الانطلاقة الكبرى للنهضة الفكريّة والعلميّة والتصنيع في غرب أروبا وشمال أمريكا، ولا ننسى أنّ قسما كبيرا من ذلك التراث العلمي قد تعرض للإتلاف والسرقة على يد المغول القدماء والجدد، وواجه التجاهل والإنكار في عهود الركود والانحدار، حتى نفض الغبار عن بعض ما بقي منه المستنيرون في حركة النهضة والإصلاح والنزهاء من علماء الاستشراق، والجدير بالذكر أن المسيحيين العرب ساهموا بجهد كبير في خدمة ذلك التراث والعربية لسانا وثقافة وكانوا من السباقين في صناعة المعاجم وإحياء الترجمة وتحديث لغة الصحافة. لم تتمكّن العربيّة -أو على الأصح أهلها- من مواصلة التقدّم الحضاري وتحقيق التراكم العلمي والإبداعي، فقد تحالفت ضدّها ثلاثة عوامل عطّلت تقدّمها وأضعفت إشعاعها أولها ما حاق بالعرب والمسلمين من تخلّف وجمود وفتن بسبب ضعف الدّولة وسوء التدبير والتسيير والاستقواء بالأجنبي في الماضي البعيد والحاضر القريب، والعامل الثاني يرجع إلى المد الكولونيالي الذي اجتاح المنطقة مشرقا ومغربا، واٌستفاد من تفوقه العلمي والتقاني وحالة الضعف والتخلّف السائدة في بلداننا، فعمل على دفعها نحو مزيد من التخلّف، وفي فترات طويلة من تاريخنا كان الإسلام عقيدة وتراثا الملجأ الأخير للفصحى.
وثالث العوامل تخاذل أهلها وغفلة شرائح من نخبها وأولى الأمر في أوطانها عن تحريك النهضة وتوليد العلوم والتقانات باللغة العربية، إما بحجة الإسراع باللحاق بالدول المصنّعة، وإما بسبب الركون للميراث اللساني الكولونيالي لدى شرائح من النخب التي لا ترى في أقرانها من النخب التي توصف بالتقليدية الكفاءات اللاّزمة للتطوير والتنمية، والنتيجة هي تجاور مجموعتين في البلد الواحد يقال عن الأولى إنها في غربه معرفية، ويقال عن الثانية أنها في غربة عن الانتماء.
قد يكون من المفيد في هذا المقام الإشارة إلى حال العربيّة أثناء محنة الاحتلال الاستيطاني في الجزائر بهدف التذكير وليس للتبرير والتأجيل، فقد كانت لغة أجنبيّة بحكم قانونه الجائر، وبلغت الأميّة أكثر من 87 % حسب تقارير مكتب الإحصاء الفرنسي سنة 1960، ولم يتجاوز عدد المنخرطين في التعليم العالي بضعة مئات من الجزائريين والمغاربيين في الجامعة التي أسستها فرنسا للمستوطنين سنة 1909، ولم تعد إلى الجزائر إلا بعد التحرير سنة 1962 والشروع سنة 1970 في إصلاح المناهج والمضامين والتعريب التدريجي لعدد من التخصّصات في الجامعات والمعاهد العليا لتتوافق مع التعريب الكلي لكلّ مراحل التعليم من الابتدائي إلى نهاية التعليم الثانوي وبجميع شعبه الذي استكمل في منتصف الثمانينيات.
3 - تحدّيات تنتظر الجواب:
لقد تخلّصت معظم بلداننا بتضحيات جسيمة من ظلم وظلام الاحتلال والحماية، ومضى ما يزيد على نصف قرن بعد تحرير الأوطان، وبقي في ربوعنا عدو لا يقل خطرا وتهديدا لأقطارنا، إنّه التخلّف وما يفرضه علينا من عجز وتبعيّة، هناك بلا ريب وعي متزايد بين النخب الفكريّة والسّياسيّة بعدم كفاية الحصيلة المنجزة في العقود السابقة في مجال بناء القدرات العلميّة والتقانية، مقارنة بطموحات شعوبنا المشروعة للتقدّم والتنميّة، يُطرح ذلك الوعي في صورة تساؤلات ومطالب عند السّاسة والهيئات الرسميّة ومنظّمات المجتمع المدني من بين تلك التساؤلات الملحّة:
- هل تؤدي أنظمة التعليم والتكوين والبحث وظائفها في إعداد رأس المال البشري صانع الثروة الحقيقية والرهان الأهم على المستقبل؟.
- هل لدى بلداننا استراتيجية طويلة المدى لتنسيق الجهود داخل كلّ قطر وعلى مستوى المنطقة العربية لنقل العلوم والتكنولوجيات الحديثة تمهيدا لتوطينها والمشاركة في إنتاجها باللسان العربي على المديين المتوسط والبعيد؟.
- كيف تستفيد بلداننا من عولمة واثقة من نفسها وهجومية، وتساهم في تدفقها دون أن تفقد خصائصها الروحية واٌنتماءها الحضاري؟
- هل هيأنا بيئاتنا المحليّة بالقدر الكافي لتكون جاذبة وليس طاردة؟ وذلك للحدّ من هجرة الكفاءات العلمية إلى خارج الأوطان، فنحن من بين البلدان التي تُكوّن على حسابها لصالح البلدان الأجنبيّة، بينما تفتقر جامعاتنا ومراكز البحث ومتطلبات التنمية إلى الخبراء والمؤهلين في كثير من العلوم والتقانات المتقدّمة وتضطر للاٌستعانة بالأجانب في الكثير من مشاريعها ولا شك أنّ التبعية في مجال الخبرة والتأهيل هي أم كل التبعيات الأخرى.
إنّ نقل التكنولوجيا وتوطينها بالعربيّة يتطلّب توفر الآليات الضرورية للاٌستيعاب والتمثل في محاضن تكون مثل خليّة النحل التي تمتصّ رحيق الأزهار لتنتج الشهد، كما تقتضي اٌبتكار سياسات لا تخضع للأهواء والأمزجة تشجع معنويا وماديا النخب التي تنتج الأفكار ويشركها أصحاب القرار
Policy makers في بناء السياسات الداخلية والعلاقات الدولية، وتقيم الجسور بين مراكز البحث العلمي وقطاعات الفلاحة والصناعة والخدمات.
4 - الطريق لتوطين المعرفة العلمية والتقانية وتوليدها بالعربيّة:
لبلوغ هذه الأهداف لا بدّ من الشروع دون إبطاء في وضع سياسات تتحاشى بعض الأخطاء الشائعة وأولها الاعتقاد بأنّ استيراد منتجات العلم والتكنولوجيا في صورة سلع وخدمات يعني التطوّر والتنمية والحداثة، فقد تأكد في مختلف تجارب البلاد النامية، ومنطقتنا جزء منها، أن ذلك لا يعني أبدا اٌمتلاك المعرفة، التي أنتجتها أو تقبل السلوكات والعقليات الملازمة لها، بل إنّها تؤدي إلى مزيد من التبعيّة والاٌتكال على الآخر.
وأما ثانيها فيتمثل في قلّة العناية بالبحث الأساسي أو التنظير في العلوم الدقيقة وعلوم الإنسان والمجتمع، إذ يعتقد البعض أن ذلك غير مجدي، والحقيقة أنّ التقدّم العلمي عمليّة مترابطة لا ينفصل فيها التنظير عن التطبيق في مختلف حقول المعرفة، كما أدّت معاينة الهوّة التي تفصل بلداننا عن القسم المتقدّم من العالم إلى تخصيص التكنولوجيا بالاهتمام، وكأن في المعرفة علوم نفيسة وأخرى خسيسة، وبالتالي عدم إعطاء العناية الكافية للتكوين والبحث في علوم الإنسان والمجتمع، ممّا أدّى إلى ضعف المنتوج العلمي الأكاديمي في مباحث هامة، مثل علم الاجتماع الديني والمقارن وفلسفة التاريخ والفلسفة بوجه عام واللسانيات وعلوم الاتصال والإعلام التي لا نساهم في تطورها المتسارع إلا بقدر ضئيل.
وتكفي الإشارات السريعة التالية للتنبيه لوضعيتنا الحرجة في تلك المجالات الحيويّة، فليس هناك بحث علمي كاف يرقى لاٌستشراف أوضاع عالمنا العربي والإسلامي وينير الطريق لأصحاب القرار، بينما بعض أقطار العرب والمسلمين في اٌشتباك مهلك مع مرجعياتها الدينية وتتراجع إلى عهد الملل والنّحل الغابر، وفيما يتعلق بوسائط الاتصال الحديث، فإن حضور العربية لا يزيد على 0,4 % على الشابكة (الأنترنيت)، بينما تحتل الانجليزية 47 % وهي تمثّل 70 % من حجم الاتصالات والبريد الالكتروني التي قدر عائدها التجاري سنة 2008 ب 10,000 مليار دولار.
أما ثالث الأخطاء وأكثرها ضررا، فيتعلّق من ناحية في البطء في تطوير وتحيين مناهج ومضامين التعليم والتكوين العالي، ويتصل من ناحية أخرى بإبعاد العربيّة عن حركيّة التطوّر والتقدّم العلمي في جامعاتنا التي تقتصر العربيّة في كثير منها على الآداب وعلوم الإنسان، ممّا أدّى إلى قلّة المراجع ذات القيمة الأكاديميّة في العلوم الدقيقة والطبية والتقانات التي تقود حداثة اليوم وما بعد الحداثة التي تتصدرها اليوم تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الجينية والاكتشافات المتلاحقة للفضاء ما بين الأرض والشمس وما وراءها.
وقد أصبح ذلك النقص أحيانا عائقا حقيقيا لطلاب الجامعات العربيّة والباحثين المهتمين بمتابعة الأدبيات العلميّة الغزيرة في العالم، وأحيانا أخرى ذريعة لبقاء الحال على ما هو عليه، إنّ اٌعتبار لغة الضّاد لغة الدين فقط وحصرها في علومها مثل النحو والصرف وعلوم الفقه وأصوله، قد أدى إلى اٌنشطار النخب إلى تقليدي وحداثي وأحكام مسبقة متبادلة بين الطرفين لا تخدم العلم ولا المجتمع ولا التنمية، فكما يحتاج موروثنا الثقافي من غير أصول العقيدة إلى غربلة بعقل المعاصرين، فإن التحديث عملية انتقالية ودائمة من فكر ومسلكية إلى أخرى تبرهن على فاعليتها وجدواها.
لقد أثبتت تجارب ناجحة في اليابان والصين وفيتنام وإسرائيل، أن التحصيل العلمي باللغة الوطنيّة يوفر الجهد ويرفع من كفاءة المتكوّنين ومردودهم في الميادين التي يعملون فيها بعد التخرّج، كما أنّه يضمن النشر الأفقي للمعرفة وتقبّل الحقائق الثابتة في العلم الحديث بين الجمهور، وتقدّم كوريا الجنوبية مثالا يستحقّ التأمل والاٌعتبار، فقد كانت قبل حوالي أربعة عقود في مصاف البلاد المتخلّفة وتحت الحكم العسكري، وفقيرة من الثروات الباطنية وقد تمكّنت من تحقيق طفرة علميّة وتكنولوجيّة مكّنتها من الحصول على موقع منافس في موكب المقدّمة بلغتها الوطنيّة وتصدر من التقانة والخبرة (Soft wear) ما يساوي أو يفوق ما تصدره أغنى بلداننا بموارد الطاقة، بفضل الكفاءات العالية Think Tanks أو ما يعرف البحث الابتكار .recherche innovation
وأمّا الخطأ أو العائق الرّابع، فيتعلّق ببطء وتيرة الترجمة وهي الأكسجين الذي ينعش اللّغة ويثري رصيدها ويحيّن ثروتها الفكريّة والإبداعيّة، وهي من أهمّ الوسائط لاستيعاب المعرفة ونقل التقانة تمهيدا لاٌستنباتها في بلادنا فحسب مؤشرات اليونسكو عن مسار الترجمة في العالم، فإنّ ما نقل إلى العربيّة خلال العقود الثلاثة الماضية لا يزيد على ما نقل إلى اللّغة اللّيتوانية في نفس الفترة وعدد سكانها لا يتجاوز أربعة ملايين من الناطقين بها، وتأتي اللّغة العربيّة بعد اليونانيّة في المرتبة 27 عالميا مع العلم أنّ عدد الناطقين بالعربية حوالي 300 مليون نسمة أي 5 % من البشريّة وتشغل 10 % من مساحة كوكب الأرض.
تلك بعض التحديات التي تواجه العربيّة وتدفع إلى الاعتماد على اللّغات الأجنبيّة وخاصّة الانجليزيّة والفرنسيّة في بعض التخصّصات الجامعيّة وتفضيل الباحثين نشر نصوصهم بها بهدف الوصول إلى صفوف العالميّة الأكاديميّة، وليس ذلك مأخذا في حدّ ذاته، إذا ساهموا أيضا في إثراء لغتهم الجامعة، كما يفعل علماء ومبدعون بلغات أخرى، يرفقون أبحاثهم بملخصات بالانجليزية في الدوريات المحكمة.
5 - مرتبة جامعاتنا في العالم: الحصار والحواجز.
إنّ الاٌبداع العلمي باللّغة هو أيضا إبداع في اللّغة، فليس من الضّروري أن لا يكون الإبداع إلا بلغة أجنبيّة، كما أنّه ليس كل من يتقن لغة أجنبيّة مبدعا، ولا يعني ذلك التقليل من أهميّة تعليم وإتقان لغة أجنبيّة أو أكثر وإصلاح تعليمها وتوظيفها لتكون رافدا للتواصل مع طوفان المعرفة العالمي، وليس للاٌنتقال إليها، وقد قدّم تقرير المعرفة العربي لعام 2009، بعنوان نحو تواصل معرفي منتج بإشراف برنامج الأمم المتّحدة الاٌنمائي (UNDP) مسحا شاملا لوضعية التعليم والتكوين والبحث في المنطقة العربيّة، وخلاصاته بوجه عام غير مرضية.
ونحن لا نتفق مع بعض ما جاء فيه، وخاصة فيما يتعلّق بمرجعيات التشخيص والتقييم وتصنيف الجامعات في البلاد العربية التي تعتمد على معايير في حاجة إلى مراجعة، فضلا عن عدم التنبيه إلى الحضر الشامل الذي تفرضه الدول المصنّعة على نقل التكنولوجيات المتقدّمة عن طريق نظام التشفير الذي يمنع من الاطلاع على تقاناتها ويقصر اٌقتناءها على الاستهلاك، أي الاستفادة من خدماتها فحسب، فضلا عن حقوق الملكية الفكرية والصناعيّة الذي يضرب حصارا على المعرفة أو يبيع القديم منها بتكلفة باهضة.
لا يستهدف التوصيف السابق إغفال الجهود التي تبذلها الدول العربية والمؤسّسات التابعة لجامعة الدول العربيّة وبعض مسؤوليها يشارك في هذه الندوة وكذلك مجامع اللغة العربيّة ومراكز ومخابر البحث المتخصّصة، ففي الجزائر على سبيل المثال يمكن القول بكلّ موضوعيّة بأنّ الدولة استثمرت بسخاء كبير في قطاع التربية والتعليم من الابتدائي إلى العالي والبحث العلمي، وخلال العشرية الأخيرة وحدها تضاعفت ميزانيات التربية والتعليم العالي عدّة مرّات، كما يتواصل إصلاح منظومة التربية والجامعة التي بادر بها رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في مستهل عهدته الأولى والملاحظ ارتفاع نسبة التمدرس بين الإناث في المدن والأرياف في كل مراحل نظام التربية والتكوين العالي وتفوقهن في التحصيل العلمي وهذا مؤشر لا يرى بالعين المجردة على التغير في العقليات والتطور في المجتمع.
6 - جهود على الطريق الطويل..
ولعلّ من أهم الخطوات لتوطين المعرفة وتوظيفها لصالح التنمية في الجزائر نذكر:
-تأسيس حاضنات للتكنولوجيا المتطوّرة (Incubateurs) وأقطاب الإمتياز.
-التحسين الملحوظ للوضعيّة الماديّة والمعنويّة للأساتذة الباحثين، وقد صادق مجلس الوزراء بتاريخ 28 من الشهر الماضي على حزمة من الحوافر الماديّة التي اٌقترحها وزير التعليم العالي تشمل كل مجالات البحث.
-إنطلاق برنامج التحكم في التكنولوجيات المتقدّمة مثل الأقمار الصناعيّة وتكنولوجيا المعلوماتية والشابكة والطاقات البديلة وخاصة الطاقة الشمسية ومركز للتكنولوجيا الحيوية والطاقة النووية لأغراض سلمية.
وفي سنة 1992 صدر مرسوم يقضي بتقديم ملخص بالعربية للأطروحات الجامعية التي تقدم بلغات أخرى كخطوة مرحلية.
وبالإضافة إلى جهود مجامع اللغة العربية التي لا تظهر أحيانا للرأي العام، فإن الجامعة العربيّة ومنظمتها للتربية والثقافة والعلوم تقوم عن طريق مكتب تنسيق التعريب في الرباط الذي أصدر أربعين معجما ثلاثي اللّغة بهدف توحيد المصطلحات، وكذلك المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر في دمشق الذي يسهر على ترجمة المراجع العلميّة الأكاديميّة المتخصّصة الموجّهة للأساتذة وطلبة التعليم العالي الذي أصدر 121 مؤلف مرجعي في مختلف الاختصاصات الجامعية ومشروع الذخيرة العربيّة والمعهد العربي للترجمة وكلاهما تابع للأمانة العامة لجامعة الدول العربية، كما يشاركنا في هذه الندوة البرنامج العربي لمنظمة الصحة العالمية
.)دحس-طبد(
وفي الجزائر مجلس أعلى للغة العربية تحت وصاية رئيس الجمهورية ويحظى بعنايته ورعايته فقد أشرف شخصيا على عدد من نشاطاته العلميّة في العاصمة وداخل الوطن، ويعمل المجلس وفق منهجية تجمع بين العمل الميداني لتعزيز استعمال اللغة الوطنيّة في المجتمع والمحيط والمؤسسات العموميّة والخاصّة وتنمية رصيد اللغة العربيّة بواسطة تبني البحث في علومها وفي مجالات العلوم والتكنولوجيات الحديثة.
وقد أصدر المجلس مجموعة من الأدلّة الوظيفيّة ثنائية أو ثلاثيّة اللغة بالاعتماد على معاجم مركز التعريب في الرباط وما أقرّته مجامع اللغة العربيّة، منها على سبيل المثال دليل لإدارة الموارد البشريّة وآخر للتسيير المالي والمحاسبي وثالث للمحادثة الطبيّة ورابع في الإعلام والاتصال ودليل آخر تحت الطّبع في المعلوماتيّة. كما أنشأ المجلس منذ 2003 ثلاثة منابر أولها حوار الأفكار حول قضايا العربية وعلومها وحاضرها ومستقبلها وثانيها فرسان البيان للتحبيب في اللسان العربي الجميل وثالثها بعنوان شخصية ومسار للتعريف بأعمال النساء والرجال الذين خدموا العربيّة وثقافتها وعلومها.
كما أنّ للمجلس مجلّة نصف سنويّة بلغت الآن 24 عددًا ودورية أخرى فصلية خاصة بترجمة مستجدات العلوم والتقانات من مختلف اللغات الأجنبيّة، صدر عددها الثالث وهي من المجلات القليلة في منطقتنا العربيّة المتخصّصة في ترجمة المنتوج العلمي والإبداعي العالمي الحديث والمعاصر.
كما نظّم المجلس عدّة ندوات عربيّة ودوليّة نذكر منها اللّغة العربيّة في تكنولوجيا المعلومات والفصحى وعامياتها والطريق إلى مجتمع المعرفة وأهميّة نشرها بالعربيّة، البرمجيات العربيّة باللغة العربيّة والطريق إلى الإدارة الإلكترونيّة، ومستقبل العربيّة في سوق اللّغات وثقافة الطفل، اللغة والهويّة والتعدّديّة اللّسانيّة، لغة المسرح، وظاهرة التهجين، والعربية في الإعلام المكتوب والمسموع...
ويطرح المجلس جائزة كل سنتين للتنافس في مجالات علوم العربيّة والعلوم الطبية والصيدلة والاقتصاد والترجمة ويطمح لتوسيع المشاركة إلى المجالين المغاربي والمشرقي وهو يتكفّل بنشر ما تصادق عليه لجنة التحكيم.
ويعتمد المجلس في كلّ نشاطاته السابقة على الأساتذة الجامعيين والخبراء والمدراء والمستشارين المعنيين في مختلف القطاعات في الجزائر ومن البلاد الشقيقة ومن الهجرة في أروبا والولايات المتّحدة وقد وصل منتوجه المنشور حتى النصف الأول من هذه السنة إلى 124 إصدار خلال أقل من عشريّة على تأسيس المجلس، وهي تقدّم بالمجان إلى من يطلبها وإلى المكتبات ومراكز البحث في داخل البلاد وفي العالم، وللاٌطلاع هناك دليل مفصّل لتلك الأعمال. ويطمح المجلس إلى توسيع نشاطاته العلميّة ميدانيا وكمَّا وكيفا، وهو يحضر الآن لندوة حول لغة العلم عند العرب قديما وحديثا، في إطار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلاميّة .
7 - خلاصة:
إنّ العناية بلغتنا العربيّة وهي من آخر ما يجمع بلداننا نخبا وشعوبا، ينبغي أن يحظى بأولوية على مستوى دولنا ومنظمات المجتمع المدني النشيطة في المجالات العلميّة والثقافيّة، ونحن في المجلس نسميها اللغة الأم أو اللغة المشتركة، وليس لغة الأم أي اللّغة الجامعة أو الموحّدة التي لا علاقة لها بالأعراق والسلالات فقد خدمها العرب والأمازيغ والأكراد وعلماء فارس والقوقاز وإفريقيا وغيرهم، ولذلك فهي لا تقصي اللّغات الوطنيّة المحليّة الأخرى التي ينبغي أن تحظى بالعناية والإحترام.
إنّ الطريق للخروج من التخلف ومضاعفاته يبدأ بالوعي بأن قوة بلداننا تقوم على نشر المعرفة وتوليدها بلغتنا الجامعة، ولاشكّ أن نظام التربية والتكوين العالي والبحث العلمي قطاع إستراتيجي، وله دور قيادي في أي مشروع مجتمعي للتطوير والتحديث في ظلّ حكم راشد يسوده الأمن والاستقرار والعدل ومعيار الاستحقاق .
خلاصة ورقة ألقيت في
ندوة تعريب التعليم والتنمية البشرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.