يعتبر الفن التشكيلي من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان ومارسها منذ بداياته، وتطور هذا الفن وفق التطور المعرفي للإنسان، الذي استمر في البحث عن تفسير لكل ما يحيطه من غموض في الطبيعة، فخط الرسومات فوق جدران الكهوف لتدل على وجوده، ورسم الحيوان والشجر تبجيلاً كمأوى ومصدر للطعام والرزق، ثم تقرّب إلى الآلهة اتقاء لشرها وغضبها وطمعاً في رضاها عليه. ومع التقدم المعرفي ونشأة الحضارة أصبح الفن هو المُعبّر عن روح هذه الحضارة، متجسدا في التماثيل والمعابد كما في الحضارة الإغريقية والمصرية القديمة وبلاد ما بين النهرين، وبلاد فارس. لكن الأديان التوحيدية كان لها موقف مغاير من الفن، وعملت على إقصاء مبدأ التجسيد ومحاربته، وتبخيس دور الفن والفنان والحط منه، إن لم يتبع هوى وأهداف هذه الديانات. فنشأت الأزمة ما بين الجمالي والديني، التي تخلص منها الغرب الآن، بينما لم يزل الشرق والإسلام يعانيانها، خاصة في الخطاب الديني والفقهي الرسمي، دون الواقع اليومي. لن نستغرق في الحديث عن تاريخ الفن، ولكن تشغلنا مسألة تحريم التجسيد التي طالت الأديان التوحيدية، خاصة اليهودية والإسلام، بخلاف المسيحية التي أدخلت الفن بعد صراع طويل لخدمة أهداف الكنيسة. من السمات المميزة للفن الإغريقي أنه حوّل المطلق إلى نسبي، وبالتالي جاءت الأساطير والحكايات والأعمال الفنية، النحت بوجه خاص، لتسرد حكايات الآلهة مع البشر. فزيوس كبير آلهة الأولمب، لا يتورع عن إقامة علاقة مع امرأة من البشر، ليُنجب منها نصف إله. ومن هنا كانت الآلهة تكتسب الصفات البشرية، التي أسبغها عليها العقل اليوناني، فتتشاجر وتغضب وتلهو، ويتم الإيقاع بها من قِبل مؤامرات أنثوية. كما كانت المثالية من أهم صفات الفن اليوناني، مثالية نِسب التكوين الجسدي، سواء الأنثوي أو الذكوري، فأصبح الجمال يتحدد بمدى المثالية والكمال في الفن. لم يفصل المصري القديم بين ما يحياه وما سيؤول إليه بعد الموت، وتبلورت فلسفته في الخلود الأخروي، وما الحياة إلا دار فناء، ورحلة عليه التمسك خلالها بالقيم والمبادئ الإنسانية، حتى تتاح له الأبدية والخلود ليطمئن قلبه. مع ملاحظة أن المصري القديم عرف التوحيد والحساب الأخروي، دون أنبياء، ودون رُسل ونصوص سماوية، بل عقله الحي وتطوره الحضاري هو الذي أوصله لهذه النتيجة، أو الصيغة النفسية والروحية، التي كان يعيش من خلالها. وكان الحاكم الفرعون هو ظِل الإله المتعالي على الأرض، فالإله لا يحكم ويُقيم العدل بذاته، ولكن من خلال الحاكم المؤتمن على تحقيق العدالة. وهو نوع من التوازن بين الغيبيات والواقع. لذا جاء تجسيد الحكام في شكل تماثيل غاية في المبالغة في النِسب، فجاء تصويرهم في شكل عمالقة، وهي نسب لا تمت للحقيقة بصلة، ولكنها تبجيل وجلال لمهام الفرعون، دون شخصه. بخلاف المقابر التي فاق اهتمام المصري بها اهتمامه ببيته الذي يعيش به، ولعل الأهرامات خير دليل على ذلك. جاءت الأديان التوحيدية لتقطع الصلة بكل ما سبقها، وأدركت خطورة الفن وخيال الفنان، فيُطالعنا العهد القديم بداية فيقول .. «ملعون الإنسان الذى يصنع تمثالاً منحوتاً أو مسبوكاً» سفر التثنية 72. وفي سفر الخروج، الأصحاح الثاني .. «لا يكون لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً، لا منحوتاً ولا صورة ما عما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرّب إلهك». وبذلك تكون التوراة قد حرّمت صناعة التماثيل والمنحوتات. وقد ترجع علة التحريم للعداء بين الشعب المختار والحضارة المصرية القديمة، فكان لابد من نفي أي ذكرى أو علاقة تذكّر الشعب المختار بوجوده في مصر. وربما تشخيص المعبود، الذي كان يماثل ما في المعابد الفرعونية، هو ما قام به «السامري» حسب الحكاية القرآنية، وقد جسّده بعجلٍ له خوار، من الذهب الخالص. وهو ما أراده اليهود، وعاقبهم الرّب بسببه، أنزل لعنته على السامري، حسب النص القرآني. أما المسيحية … فلم تذكر الأناجيل المُعتمَدة أنها حرّمت التجسيد، ولكن الكنيسة ناصبت العداء للفن والفنانين، للتاريخ الوثني في التجسيد، وهو ليس ببعيد عن مظاهر الحضارة والحياة التي تحيط بالمسيحية. فالقديس «برنار» على سبيل المثال يحرم الزخارف المعمارية والتصاوير الجدارية، لأنها تصرف المصلين وتلهيهم عن الاستغراق فى صلاتهم. واستمر هذا العداء والصراع لعدة قرون، حتى تم الصلح على أساس أن الفن خادم للدين، وأداة من أدوات الدعاية والترويج له. ونلحظ ذلك في العديد من أعمال فناني عصر النهضة … مايكل أنجلو ودافنشي وغيرهما، حيث الموضوعات مستوحاة من الكتاب المقدس، سواء التوراة والإنجيل، وتم تجسيد ما كانت تحرّمه التوراة، من سرد قصة الخلق وخروج آدم من الجنة، وطوفان نوح، وأنبياء العهد القديم. كلها في شكل منحى ديني للفن والفنان. بداية لم يزاول العرب الفن التشكيلي من نحت وتصوير بحكم ترحالهم الدائم، فكان فنهم زمانياً بخلاف اليمن لذا .. نجدهم مارسوا فن الشعر والقول والفنون التشكيلية البسيطة التي تنسجم مع طبيعتهم البدوية، وكل ما كان ينحت كان ينحت من قبيل الرمز القبائلي، أو ما يُطلق عليه في الاصطلاح «صنم». من ناحية أخرى نجد المسلم العربي وقد انشغل بالغزو، فأسقط انفعاله النفسي في الحروب، من دون أن يكون هناك مجال للفن. على العكس من امتداد الدولة الإسلامية واستقرارها، ودخول فنان هذه الدول في زمرة المسلمين. لم يحرّم النص القرآني الفن والتجسيد صراحة، لكن هناك العديد من الأحاديث الصريحة، والمواقف التي أتت بالتحريم، إضافة إلى الآراء الفقهية المتشددة، التي تواترت على هذا التحريم. وأخذت الأحاديث بحرفيتها. ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي … «مَن صوّر صورة فى الدنيا كُلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ»، »كل مصور في النار تجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم»/»إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة» ، »إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورين». وهناك حادثة مذكورة في عدة مصادر، عند فتح مكة ودخول «مُحمّد» الكعبة .. «لما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد فتح مكة قال لشبية بن عثمان.. يا شبيه امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي، قال فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه» راجع الأزدي في كتاب أخبار مكة. فمسألة التحريم كانت خاصة بحالة الشِرك بين العرب، فالعرب لم يعبدوا الأصنام لذاتها، ولكن تقرباً إلى الله، إضافة إلى أن هذه الأصنام أو التماثيل التي كانت منتشرة حول الكعبة قبل دخول الإسلام وفتح مكة، كانت عبارة عن رموز للقبائل العربية، التي كانت تحج كل عام للبيت الحرام، لتتجمع كل قبيلة أمام رمزها، وكانت هذه الرموز تتخذ شكل جد أعلى للقبيلة، تحول مع مرور الوقت إلى «طوطم» لهذه القبيلة أو تلك. ونرى أن مسألة التحريم جاءت لعامل اجتماعي، فالإسلام جاء لتوحيد العرب في كيان سياسي واجتماعي واحد، وكانت كل الخِشية من تفرّقهم، وتعدد رموزهم القبَلية كان دليل حي على هذا التفتت، وهو ما حاول الإسلام قدر استطاعته القضاء عليه، وبالتالي تم تحريم هذه التماثيل والمنحوتات. وهو أمر لا يمكن المهادنة فيه، خاصة وبشائر الدولة الجديدة لم تزل في طور التكوين. لعب الفقهاء دوراً حاسماً في تفسير الأحاديث والأخذ بحرفِيتها، فمنعوا التصوير وحرّموه كلية، رغم التطور في الفكر الديني، ولم تعد المنحوتة تدل على وثن عشائري أو ما شابه، لكن الفقه واصل إصراره المتشدد على مسألة التحريم حتى الآن! وكان لمثل هذه الآراء أبلغ الأثر في جمود الفن، الذي اتخذ أساليب الأنماط المتكررة، المحصورة في أشكال معينة، حتى أن الخروج عليها تم في فترات ما من التاريخ، وتأثراً بحضارات أعمق تاريخياً فن المنمنمات وتزيين الكتب في بلاد فارس، إضافة إلى تمرد المسلمين على آراء الفقهاء. الكثير من الآراء التلفيقية توحي بأن الفنان المسلم لا العربي أول مَن ابتدع التجريد، وبالتالي يدين له الفن الغربي في تطوره الأخير بسمة التجريدية التي أصبحت تميزه. ولكن… «لم يختر الفنان المسلم أسلوب التجريد في الفن، بل اتخذه كُرهاً، ودفعاً لأي شبهة وثنية قد تكون حياته ثمناً لها. على العكس من الفن الغربي، الذي اختار التجريد نهجاً فنياً لا أخلاقياً»، إلا أن الفنان المسلم، خاصة صاحب الحضارات القديمة حاول التحايل من خلال التجريد، خاصة في فنون … الخط والمنمنمات والزخارف بخلاف التجسيد الصريح في بعض الأعمال حاول اللعب على التشكيل ما بين الكتلة والفراغ، وجعل حسب رأينا التحاور ما بين الفراغ الذكوري وتكرارات الشكل والخط الأنثوي، في المنحنيات والدوائر، هذا التوحد في الشكل حاول الوصول به إلى المطلق. محمد عبد الرحيم القدس العربي