عندما تصدت بعض الأقلام وبعض الشخصيات لفكرة التدريس بالدارجة في التعليم الابتدائي بحجة أن الطفل يستوعب أكثر، وأن الأممالمتحدة عن طريق اليونيسكو أو اليونيسيف أوصت بعدم "صدم الطفل" بالتدريس بغير اللغة الأم، قامت أقلام أخرى وشخصيات أخرى بالتصدي لهؤلاء والدفاع عن فكرة التدريس بالعامية، واصفة المدافعين عن التدريس باللغة العربية الفصحى بحراس المعبد والمحافظين والبعثيين والقوميين والعروبيين وغيرها من الأوصاف. والحقيقة أنه إذا جاز وصف المدافعين عن التدريس بالللغة العربية الفصحى بالمحافظين و»حماة المعبد« فإن بالمقابل يجوز وصف المدافعين عن التدريس بالعامية ب "مهدمي المعبد". إن الملاحظة المهمة هو أن الإنقسام بين حماة المعبد ومهدميه هو انقسام لغوي بالأساس، فالتيار الفرانكوفوني، تاريخيا يعمل على استغلال كل الفرص لضرب أهم مقومات الهوية الجزائرية في الصميم. من معارضة "تعميم العربية" إلى "الهوية المتوسطية" لقد دافع هذا التيار عن المتوسطية والأورومتوسطية، زاعما أنها هوية تنتمي إليها الجزائر، وفكرة المتوسطية والأورومتوسطية ليست سوى وسيلة خبيثة لعزل الجزائر عن محيطها الطبيعي العربي الإسلامي على اعتبار أن عدة دول عربية بعيدة عن البحر المتوسط. والأكثر من هذا هي وسيلة خبيثة ايضا لإلحاق الجزائر بالدول الأوروبية الواقعة على المتوسط، وتحديدا فرنسا. ولأن إسرائيل تقع على البحر المتوسط فإن الجزائر ستتقاسم معها ذات الهوية ما يجعل التطبيع معها تحصيل حاصل. ولأن الكثير من الدول العربية والإسلامية لا تقع على المتوسط فإنه لا شيء يربطنا بها حتى لو كنا ندين بدين واحد وهو الإسلام. وتنتناغم فكرة الأورومتوسطية مع فكرة الرئيس الفرنسي السابق اليمني المتطرف الموالي للصهيونية العالمية ساركوزي المسماة "الإتحاد من أجل المتوسط" وهو المشروع الذي رفضتها المانيا. وتيار مهدمي المعبد هو الذي يقف دائما مؤيدا لأفكار العلمنة بمعنى توليف القوانين الجزائرية بما فيها قانون الأسرة بما يتماشى مع الهوية الأورومتوسطية والمتوسطية، اي عدم استمادته من النصوص الإسلامية. وكلما وقف تيار حماة المعبد يدافع عن أسلمة التشريع خاصة في الأحوال المدنية، يقوم تيار "تهديم المعبد" باتهامه بالإرهاب والشمولية والتوتاليتالرية والرجعية والتخلف. وعندما كان تيار "حماة المعبد" يدافعون على قانون الوئام المدني ثم قانون المصالحة الوطنية بعده من أجل حقن الدماء ولم شمل والتوجه نحو بناء الجزائر ليس نحو هدمها، كان تيار "تهديم المعبد" يقف ضدها مدافعا عن سياسة الاستئصال التي قسّمت المجتمع الجزائري ودولته في التسعينيات إلى حمائم وصقور، ووصل الأمر بهذا التيار إلى حد اتهام الزعيمين التاريخيين من صناع الحركة الوطنية بالخيانة، ويتعلق الأمر بالزعيم حسين آيت أحمد أطال الله في عمره والزعيم عبد الحميد مهري رحمه الله. وظل تيار مهدمي المعبد يقف دائما ضد تعميم اللغة العربية ويصفونها دوما بأنها ليست لغة علم، ولا لغة فكرة في تجني على الحقيقة والتاريخ مستعينين بلوبي سياسي وإعلامي قوي ومسنود. ولأن آبائنا عرفوا مكانة اللغة العربية والدين الإسلامي في الهوية الجزائرية وفي البناء الوطني والوحدة الوطنية، فقد تصدوا لفرنسا الاستعمارية طيلة 130 سنة، وصمدوا وحافظوا على أهم مقوم لهويتهنا الجزائرية، ولم تستطع فرنسا بسياسة الإدماج والتنصير والفرنسة القضاء عليها. العامية : آخر مسمار في نعش المدرسة الجزائرية لقد كان طبيعيا أن تستمر محاولات استهداف مقومات الهوية الجزائرية، على اعتبار أن الصراع الثقافي صراع مستمر ودائم وأبدي، وهو صراع تفرضه الدول المستعمرة (بكسر الميم) على الدول المستعمرة (بفتح الميم)، لذلك ليس مستبعدا على الإطلاق أن يتغذى استهداف اللغة العربية والدين الإسلامي من فكر استعماري محض. ونكتشف من فكر مالك بن نبي، وخاصة في كتابه الصراع الفكري في البلاد المستعمرة كيف يوظف المستعمر كل الأساليب لضرب الفكرة، وعندما يفشل في ضرب القلب يبدأ في ضرب الأطراف لإفشال القلب. ولأن الاستعمار حركة مستمرة في التاريخ بمختلف الأشكال والصيغ، فإن التحرير ومقاومة الاستعمار يجب أن تكون حركة مستمرة في التاريخ بمختلف الأشكال والصيغ. وفي سياق هذه الحركية، حركية الاستهداف الاستعماري التاريخي لمقومات الهوية، ولدت فكرة تدريس العلوم في الجامعات الجزائرية بلغة المستعمر وهي اللغة الفرنسية، رغم أن لغة العلم الأولى في العالم هي اللغة الإنجليزية، وحجة تيار تهديم المعبد في ذلك أن اللغة العربية ليست لغة علم، بينما هناك تجارب في عدة دول عربية أثبت أنه يمكن تدريس مختلف العلوم بما فيها الطب والتكنولوجيا باللغة العربية. وفي هذا السياق أيضا يتم تدريس اللغة الفرنسية منذ السنة الثالثة ابتدائي وكان مقررا أن يبدأ تدريسها في السنة الثانية ابتدائي، بينما لا يتم تدريس اللغة الإنجليزية إلا في السنة الأولى متوسط، ولو كان هناك تفكير غير استعماري تحرري عند تيار تهديم المعبد لحدث العكس، وتم أيضا إدراج تعليم الألمانية والصينية نظرا لمكانة الدولتين الاقتصادية والسياسية في العالم. أكذوبة "صدم" التلميذ وحقيقة "صدم الطالب" ويلاحظ أيضا، من خلال الكتب المدرسية لتلاميذ الابتدائي أن هناك توجها نحو فرنسة التلميذ أكثر من جزأرته، فرغم أن اللغة الفرنسية هي لغة أجنبية، فإن تدريسها لا يبدأ بالتدرج بل يبدأ مباشرة بالحوار، وكأن هذه الكتب صممت لتلميذ فرنسي أصلا. وهكذا كان لابد من مواصلة سياسة الاستهداف المركز، فتم ابتكار أكذوبة جديدة لضرب المدرسة الجزائرية في مقتل ودق آخر مسمار في نعشها، ويتعلق الأمر بفكرة التدريس بالعامية بحجة واهية هي عدم صدم التلميذ. وهنا لابد من توضيح سريع، يتعلق الأمر بفكرة اليونيسكو القاضية بالتدريس باللغة الأم حتى يستوعب التلميذ أكثر فأكثر، واللغة الأم في اليونيسكو تعني اللغة الوطنية بدل اللغة الأجنبية. وإذا كان تيار تهديم المعبد يفكر في تجنب التلميذ صدمة التعليم فلماذا لم يفكر في تجنيب طلبة الجامعات صدمة التعليم أيضا، فهم يدرسون في الإبتدائي والمتوسط والثانوي باللغة العربية ثم يصدمون في الجامعات بتدريس العلوم باللغة الفرنسية، ما جعلهم يعجزون عن الاستيعاب ويعيدون السنة وكثير منهم يغيّر التخصص.؟ أليس هؤلاء جزائريون أيضا ويجب حمايتهم من الصدمة ؟ رغم أن صدمة الطالب حقيقية بينما صدمة التلميذ وهمية. ثم متى كانت اللغات العامية حاملة فكر؟ ومتى كان للغات العامية قواعد نحو وإملاء؟ والأكثر من ذلك أن كثيرا من خبراء الأنتروبولوجيا والسياسة يقولون أن وجود أكثر من لغة في بلد واحد، يعني وجود أكثر من دولة، خاصة بوجود أكثر من لغة رسمية، وهو الوضع الذي تعانيه كندا وهي مهددة بالانقسام إلى دولتين، وتعانيه كذلك بلجيكا التي حصل أن عجزت عن تشكيل حكومة طيلة أشهر كاملة بسبب الانقسام اللغوي الحاد. وإذا كانت اللهجات واللغات العامية كثيرة ومتنوعة، فبكم لغة ندرس ؟ وإذا حصل وتطورت اللهجات فإن ذلك سوف يمهد لتفتيت كيانات الدول ليس في الجزائر فحسب بل في كل البلدان الهشة. العربية الفصحى هي روح القرآن في ذات السياق قرأت مقالا أو تصريحا لأحد المدافعين عن التدريس بالدارجة يرد فيه على الذين ربطوا بين استهداف اللغة العربية الفصحى واستهداف الإسلام، وينفي استهداف الإسلام من خلال التدريس بالدارجة، وكأن القرآن الكريم يمكن فهمه بغير اللغة العربية، فالفيلسوف والمفكر محمد عابد الجابري يقول إن العربية هي روح القرآن بمعنى لا يمكن فهم القرآن بغير العربية، فمذا يبقى للإسلام بعد ضرب اللغة العربية إذن؟ وإذا لاحظت وزارة التربية ضعف مستوى التحصيل العلمي وحتى مستوى اللغة العربية عند التلميذ والطالب وحتى عند الأستاذ، فهذا لا يرجع لصدمة التلميذ بل يعود للبرنامج الكثيف وغير المدروس ولعدم منح التلميذ فرصة للتسلية واللعب والرياضة وللإقسام المكتظة جدا جدا، وذلك هو جوهر النقاش الذي تجاهله تيار "تهديم المعبد. أكذوبة التعليم باللهجات: من أمريكا إلى فرنساوالصينوالهند تحرص عدة دول تكثر فيها اللهجات وتتنوع على التدريس في الغالب بلغة واحدة موحدة للمجتمع، ففرنسا – حسب محمد الهادي الحسني – تحصي أكثر من 40 لهجة، لكنها لا تدرس بها في مدارسها، بل هي تشتكي من ضعف الفرنسية أمام الإنجليزية، وحدث خلال اجتماع للدول الأوروبية في بروكسل في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك أن غادر هذا الأخير قاعة الاجتماعات احتجاجا على خبير فرنسي تحدث باللغة الإنجليزية وليس بالفرنسية ثم تبعه الوفد الرسمي الفرنسي ؟! وفي الولاياتالمتحدة التي تعتبر دولة متعددة اللغات، - وحسب موقع راديو سوا الأمريكي- فإن مكتب الإحصاء الأميركي يجري دراسات دورية لمعرفة التغييرات التي طرأت على اللغات المستخدمة في الولاياتالمتحدة. ونشر المكتب في شهر أوت 2013 خريطة توضح التعددية اللغوية الواسعة في المنازل الأميركية. حيث حلت اللغتان الإسبانية والصينية بعد الإنكليزية كأكثر لغتين محكيتين، ثم قدمت الدراسة دليلاً حول الدور المتنامي للغات الأخرى غير الإنكليزية في النسيج القومي الأميركي، وتقدر بنحو 15 لغة، منها الإسبانية، والفرنسية، والكريول الفرنسية، والإيطالية، والبرتغالية، والألمانية، والروسية، والبولندية، والفارسية، والصينية، واليابانية، والكورية، والفيتنامية، والتاغالوغية (لغة الفيليبين)، والعربية. ويظهر التقرير أن أكثر من 58 بالمئة من سكان الولاياتالمتحدة (أكبر من 5 سنوات) يتحدثون لغة أخرى غير الإنكليزية في منازلهم ويتحدثون أيضًا باللغة الإنكليزية بدرجة جيدة جدًا. لكنه لم تطرح فكرة التدريس بلغات ولهجات الوافدين إلى أمريكا من مختلف دول العالم لأن ذلك قد يؤدي إلى ميلاد دول لغوية داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية. والهند مثلا وهي ثاني أكبر دولة سكانية بعد الصين، تحصي أكثر من 1000 لغة ولهجة، لكن اللغة الهندية هي اللغة الرسمية طبقا للدستور، رغم أن عدد المتحدثين بها لا يتعدى 40 بالمئة. ورغم أن النظام الهندي نظام اتحادي ورغم أن 24 لغة أخرى في الهند يتكلم بها ما لا يقل عن مليون شخص، فإن هذه اللغات واللهجات ليست لغة تعليم لا في الابتدائي ولا في المتوسط ولا في الثانوي ولا الجامعي. ورغم أن الصين وهي أكبر دولة سكانية في العالم تحصي مئات اللهجات، فإن التعليم لا يتم بها. وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول توجه الحكومة الجزائرية لاعتماد العاميات واللهجات الجزائرية المختلفة في التعليم الابتدائي.