تشهد الساحة الاقتصادية ، السياسية والإعلامية جدلا واسعا حول تدني أسعار النفط المصدر الرئيسي للمداخيل الخارجية ، وانعكاساته على أفاق البرامج الحكومية في ظل التوقعات التي لايمكن التحكم فيها في الاسواق العالمية المثيرة للانشغال ، وهي مسائل سبق وان أصدر بشأنها الرئيس بوتفليقة توجيهات واضحة كان قد بعث بها عند ترؤسه لمجلس مصغر ضم مسؤولي الدولة المدنيين والعسكريين نهاية السنة المنصرمة. وبالعودة إلى محتوياتها وما تلاها من إجراءات اخرى ، يسجل أن الرئيس كان سباقا في إقرار المحاور الكبرى لمواجهة الوضعية من أجل التحكم في التوازنات المالية للاقتصاد الوطني ؛ ومتبصرا بشكل سياسي واع لحقيقة انعكاسات التدني المفاجئ لأسعار النفط على الصعيد الداخلي والخارجي وما تملكه الجزائر من آليات وطاقات للتصدي والاستمرار في النمو ؛ و قدرته في الاستباق لتناول المحاور الجانبية للنقاش الدائر و الذي لم يصل بعد إلى الخطوط الكبرى التي اقرها آنذاك و بصفة ملزمة لجميع الجزائريين سواء كان مثارة من قبل المعارضة ، أو ما يثار حول الاجراءات المتخذة من قبل الحكومة والتي جاءت بفضل السياسة الحذرة التي انتهجتها البلاد منذ أكثر من عشر سنوات، و مكنت من تسديد ديونها و توفير احتياطات نقدية تعطي لصندوق ضبط الإيرادات دورا في مواجهة مخلفات انخفاض سعر النفط . سيناريوهات، وعين على 3700 مليار دينار وبالرغم مما توفر مرحليا من هامش مناورة لمواجهة الازمة ، فإن حكومة سلال التي إشتغلت على ضوء توجيهات الرئيس والمكلفة بالمراقبة المستمرة لسوق البترول الدولي وانعكاسات ذلك على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ، لم تخف تراجع أسعار النفط على الاقتصاد الوطني ، ووضعت سيناريوهات مترتبة وفاصلة بين آليات تمويل المشاريع التنموية ، بعضها يتم عبر تنويع مصادر اللجوء إلى السوق المالي عوض الاعتماد على ميزانية الدولة ، والعمل على جمع الموارد المتواجدة خارج القنوات الرسمية والمقدرة بحوالي 3700 مليار دينار ، فيما يخصص التمويل الحكومي للمشاريع الكبرى المسطرة خاصة المتعلقة بقطاعات الفلاحة والتعليم والصحة والسكن . وتبقى مثل هذه الخيارات مرتبطة بإجراءات أخرى على مستوى الجبهة الاجتماعية العريضة التي أوصى الرئيس بوتفليقة بإقامة جسور التواصل معها لبلورة الاجماع و التعبئة الشعبية التي يحاول الوزير الاول تجسيد مفاهيمها بلغة مغايرة برزت في لقاء الحكومة مع الولاة ، وبشكل تبقى متباينة بين الاداري والسياسي الموالي من جهة والمعارضة من جهة أخرى ،إلى جانب بعض الخلل التي مازال يعاني منه الاتصال المؤسساتي الذي يثير فجوات كثيرا ماتستغلها المعارضة للتشويه و التأويل المغرض والتغليط على ضوء عديد الاسئلة المرتبطة ببنية الخطة الشاملة المتخذة سياسيا وآليات التكيف الجديدة لمستقبل البلاد الذي لايزال بعد أكثر من 50سنة من الاستقلال قائم على المداخيل البترولية بنسبة 99 بالمائة . ويصف رئيس حكومة سابق المعارضة التي تخندق معها في بعض الوقفات بأنها لم تصل إلى المستوى والنضج المطلوبين ، ويسجل عن رؤيتها حول الموضوع أنها اتجهت إلى الصخب الاعلامي والخطاب التهويلي الذي يفتقد إلى التأسيس وطرح البديل الواقعي ، ولم تقو على الفصل بين المفاهيم السياسية والمفاهيم الاقتصادية لتقع في دائرة اجترار بعض الطروحات العامة والسقوط في تشخيص النقاش وتغليب الاحكام السياسية الجاهزة في شكل "معارضة من أجل المعارضة "، بينما لجأت الحكومة وفي موقف " أحادي " إلى محاولات التفصيل العملي لتوجيهات الرئيس الذي سبق وأن وصف الازمة بالحادة ، ومثيرة للانشغال وآفاقها لايمكن توقعها على المدى القصير. تأويل ، تفاؤل أم خلل إتصال والظاهر أن المتابعة الحكومية للتخفيف من أثار تراجع أسعار النفط والبحث عن حلول ناجعة تخفف من الاعباء التي تواجه المواطن لم تسلم من بعض " التناقض " بتسجيل تصريحات متابينة لبعض أعضائها ، و بشكل لم يرتق في بعض النواحي إلى توجيهات الرئيس في مجال التواصل و التعبئة الشعبية .. فهل يمكن الصمت عن ما يروج بخصوص التضحية بالعمال المتعاقدين وغالبيتهم من الشباب الجامعي في حين يوصي الرئيس بالحفاظ على الشغل ضمن المكاسب الاجتماعية والدفع بالتنمية البشرية ،ويعلن سلال عن تمويل 10 الاف منصب شغل في الصحة والتعليم ، ألا يحدث عدم تجديد عقودهم نزيفا في الوظيف العمومي المطالب بالابتعاد عن البيروقراطية وتثمين مردودية التجاوب الاداري وترقية الاداء أمام التأخر المسجل على مستوى تحقيق مشروع الحكومة الإلكترونية ، و إزالة العقبات أمام مشاريع الاستثمار على المستوى الاداري في ظل تراجع الشباك الواحد إن لم نقل إنعدامه مع الاقرار بأن بلوغ نسبة مقدرة ب4.6 بالمائة تحتاج إلى فتح الاستثمارات وإزالة كل العراقيل امام المستثمرين وفق بيئة ثقافية تحيط وتسهم وتشجع على ذلك ولا يمكن أن تكون كبنية ثقافية مشمولة بإجراءات التقشف بعد تطهيرها .. وهل يمكن حث الولاة والمنتخبين على بحث التنويع الجبائي و مصادر تمويل جديدة بعد طغيان فكر الإنفاق وعدم الاكتراث بالتحصيل الجبائي باستثناء المكفول من قبل الضرائب مع ما تواجهه من تهرب جبائي واقتصاد موازي ، في حين ماهو مشمول بإيرادات التحصيل البلدي ودور الادارة المحلية في تحريكه عبر التحيين والتطهير مازال متأخرا ويحتاج إلى تحريك بيداغوجي وتأهيل ذهني وهيكلي قبل التنفيذ . . وهل من المحكم القول بأن الجزائر قادرة على مواجهة الازمة الاقتصادية حتى وان نزل سعر البترول إلى 10 دولار، و أن المشكل الوحيد يتحدد في تسريع وتيرة انجاز المشاريع للتقليل من فاتورة الاستيراد وتعزيز الاقتصاد الوطني بينما مفاتيح النمو عبر التعليم والبحث والتكنولوجيا تعاني في تجسيد علاقتها التكاملية مع المحيط للتواصل قبل الانتاج ، مثلما تحتاج عدة منظومات إلى إعادة النظر وتحفيز تلك الراكدة التي تقدر ب 12 قطاع منها الصناعة التي تنتج 5 بالمائة والفلاحة ب8 بالمائة والسياحة ب3 بالمائة . صياغة القرار ،التشكيك والغياب خلال هذه الصائفة ، سجلت الاحزاب المساندة لبرنامج الرئيس وبعض المنظمات والجمعيات غيابا عن الساحة ، واختفت المنابر المعتاد إقامتها لاستدراك التباينات المرصودة تعزيزا لرؤيته والتبليغ السليم لتوجيهاته وتطبيقها ، ولم تشفع لها بعض السطور في بيانات خلق الحضور القوي لمواجهة دائرة المشككين الذين كانوا قد إحتلوا بعض المساحات ، حتى أن الاستفاقة لم تكن إلا عبر كلمات جاءت في إفتتاح الدورة الخريفية للبرلمان بإجماع كل من رئيسي البرلمان بغرفتيه على التأكيد على أهمية الابتعاد عن الخطاب التيئيسي الذي تقدمه الأحزاب السياسية وخبراء الاقتصاد والذي يشرح الوضع الاقتصادي في البلاد بعد انهيار أسعار النفط بصورة وصفوها بالقاتمة والمخيفة . وكان من القوي لو جاء الرد مسنودا لعمل سياسي هيكلي و ميداني لأحزاب الموالاة ، يستجلي جوانبه من كافة الزوايا ، أو على الاقل يكون مسايرا للإجراءات المتخذة في أخر مجلس للوزراء وذات العلاقة العملية بما تحوز عليه من أغلبية على مستوى المجالس المنتخبة التي طالبت من قبل عبر جامعاتها الصيفية ( لم تعقد هذه السنة) ، وعبر جلسات الاستماع التي اشرف عليها المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في أواخر 2011 عبر ال48 ولاية ، بأمر من الرئيس ، بسن إجراءات عدم تجريم فعل التسيير ومراجعة قانون الصفقات لمحدوديته ، والجباية المحلية وغيرها من المسائل التي تضمنها قانون المالية التكميلي ، او ما ستعرفه الدورة الخريفية للبرلمان من دراسة العديد من النصوص القانونية المهمة فيما يتعلق بالبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا ، ومكافحة التهريب ،والصحة ، والتجارة ، وترقية الاستثمار والنشاطات الاشهارية ، وكلها مشاريع تعزز من استكمال الإصلاحات الشاملة التي اطلقها الرئيس بوتفليقة لتحيين وتحديث التشريعات الجزائرية لتنسجم مع واقع المجتمع والتحولات التي يعيشها داخليا وفي محيط دولي يشهد توجهات جديدة وعميقة . ويسجل بعد الاستفاقة من "صيف مشحون بالتخويف " ان هناك تفاوت كبير بين الأحزاب المساندة لبرنامج الرئيس نفسها ولو على صعيد التوضيحات الاعلامية وإصدار البيانات كحد ادنى دون الحديث مع مناضليها و من خلالهم الفئات الشعبية حول نظرتها لمسألة اللجوء إلى الاستدانة الخارجية أو تجنيد الادخار الوطني وأيهما أنفع ومالقدرة على التعبئة عند الفصل ، أو ما يتعلق بخفض قيمة الدينار وانعكاساته على المؤسسات والعائلات ، ومواجهة مروجي إشاعة تقليص حجم الميزانية إلى النصف ، وهي الأعلى بالمنطقة ، مع التفريق بين الترشيد والتراجع وإجراءات الصرامة الإقتصادية لترشيد ميزانية الاستهلاك للدولة . الحقيقة بلغة التوافق المطلوب الاحساس بذلك ، أدى بالوزير الاول إلى توجيه خطابات مباشرة للتأكيد والشرح بأن الشعب سيكون حليف الحكومة في مواجهة تدني أسعار البترول ، وأن الجماعات المحلية خط الدفاع الاول ، كون مسالة تقاسم الاعباء سبق وأن دعا إليها الرئيس بوتفليقة عندما حمل الجميع مسؤولية المواجهة ، إلا أن الجهاز التنفيذي وجد نفسه وحيدا في معركة الاقناع والتنفيذ لصالح تنمية تعتمد على مداخيل البترول ، ظل بوتفليقة يحذر منها بعد أن جنب البلد الدخول مرحلة الأزمة الاقتصادية الخانقة ، وهو ما أكده خبراء مشهود لهم من أن الجزائر لا تعيش أزمة وإنما مشكل في التوقع بعد أربع سنوات مغطاة باحتياطات صرف مهمة لعجز الميزانية وعقلنتها مع الإجراءات ، ما يعني أن ميزانيات الدولة من سنة 2015 الى غاية 2019 تعد كلها ميزانيات متجهة الى النمو في اطار ركود اقتصاد دولي ،وذات علاقة بالتحويلات الاجتماعية والدعم المتمسك بمبادئ العدالة الاجتماعية والتضامن الوطني الذي يحتاج إلى تعبئة شاملة وواقعية . وبلغة التوافق والمنطق ، من الطبيعي والضروري ان تسعى الدول المنتجة للنفط والمعتمدة بشكل كبير على عائداته الى اعادة حساباتها والعمل بكل السبل الممكنة من اجل استيعاب هذا التطور ، الذي لا مهرب منه ، ومحاولة تقليل الآثار السلبية المترتبة عليه الى ادنى قدر ممكن وفي اقل عدد من القطاعات ايضا لكن بمحصلة الثقافة الجمعية وليس جهود الحكومة وحدها . وفي دروس التاريخ أن دولا عبرت بأزمات مالية وعملت عبر التكاتف الجماعي على تجاوز الوضع إلى تحقيق السياق الأفضل ، وبالتالي فإن الأزمات تكون عابرة وما يبقى هو الدروس والعبر والقدرات على التكيف والاستفادة اللازمة بحيث يتحول التحدي دائما إلى مزيد من التضحيات وفيض من العطاء.
كذلك فإن توليد الأفكار والمشروعات المبتكرة والجديدة يظل من النقاط المستمرة التي يكون عليها التركيز دوما، إذ أن الظروف المحيطة دوليا وتبعات الاقتصاد العالمي وما يقود إليه لابد أن يؤثر على أي بلد كان بغض النظر عن حجم الأثر الذي يحدث، ما يتطلب اختراع الحلول سواء الآنية أو الدائمة، وهذا يعني إنتاج فكر لابد منه مما يمكن أن يعرف بمنهج الابتكار المواكب للازمات ، وإن كان هذا الدور تقوم به مراكز الدراسات والجهات المختلفة في الدولة ، فهو يتكامل مع باقي الفئات الاخرى في المواجهة وتقاسم الاعباء والمضي في سياسة تنويع مصادر الدخل الوطني وفتح باب الترشيد وسياسة الانفاق بالوجه السليم. مختار بوروينة [email protected]