"رواد الأعمال الشباب, رهان الجزائر المنتصرة" محور يوم دراسي بالعاصمة    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)    مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية        ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 44211 والإصابات إلى 104567 منذ بدء العدوان    الجزائر العاصمة: دخول نفقين حيز الخدمة ببئر مراد رايس    فترة التسجيلات لامتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق يوم الثلاثاء المقبل    العدوان الصهيوني على غزة: فلسطينيو شمال القطاع يكافحون من أجل البقاء    الكاياك/الكانوي والباركانوي - البطولة العربية: الجزائر تحصد 23 ميدالية منها 9 ذهبيات    أشغال عمومية: إمضاء خمس مذكرات تفاهم في مجال التكوين والبناء    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    قرعة استثنائية للحج    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    المخزن يمعن في "تجريم" مناهضي التطبيع    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    دخول وحدة إنتاج الأنابيب ببطيوة حيز الخدمة قبل نهاية 2024    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخصوصيات الثقافية وتأثيرات العولمة والعالمية(الجزء الثالث)

يتّجه قسم كبير من الخطاب السياسي والإعلامي في بلادنا إلى تحميل المدرسة وحدها مسؤولية الفشل أو العجز عن استبدال قيم بأخرى ويرجعون كل الظواهر غير المرغوبة مثل العنف في ملاعب كرة القدم والتشدد الديني والبطالة إلخ...إلى المدرسة وهو توصيف وتفسير سهل، والحقيقة أن المدرسة حلقة في منظومة مجتمعية سياسية مترابطة ولا تعطي أكثر مما تأخذ مما سبقها ومن المجتمع الكلي، على الرغم من أن المدرسة نقطة اٌرتكاز أساسية في أي مشروع مجتمعي سياسي تقوده نخب مستنيرة ويحظى بتأييد شرائح واسعة من الشعب في مرحلة معينة من تاريخه.

القيم المهيمنة والقيم الملجأ
على الرغم من ثبات مجموعة القيم التي تسمى النواة المركزية وهي التي تسمى الطابع العام أو المميز لبلد معين (National character )، وهو ما يلاحظه الأشخاص الذين ينتقلون من بلد لآخر وتبدو لهم بعض الظواهر والسلوكات غريبة أو تختلف عما في بلادهم، على الرغم من ذلك الطابع العام الذي يميّز المشتركات في منظومة القيم في بلادنا، فإن شرائح من النخب الآن وفي السابق تقبل وترفض في آن واحد القيم المتوارثة، يلاحظ ذلك عند الأفراد والجماعات وهو نوع من التعارض الوجداني Ambivalence الذي يجمع بين الحبّ والإعجاب والكراهة والنفور تجاه طرف أو ثقافة أخرى.
نجد ذلك التعارض بين اٌتجاهين أو نظرتين إلى فرنسا، فبينما يتذكر الجزائريون حتى الجيل الثالث بعد حرب التحرير أن أجدادهم تعرضوا للتحقير والإذلال والقتل والتعذيب، فإنهم يرون في فرنسا قبلة يرغبون في الحج إليها والطواف بمعالمها والإقامة حتى في أكواخها البائسة، فضلا عما يتعرضون له من أزمات وصراعات نفسية واجتماعية بسبب اٌختلاف المرجعيات القيمية وصعوبة الجمع بين نمطين من القيم أو التخلي عن أحدهما واستبداله بالآخر، وهو من أسباب التمرد والاحتجاج والتطرف لصالح أحد النمطين الأصلي أو الموروث والمستجد في بيئة المهجر، والملاحظ أنه كلما زاد الإقصاء والتهميش للجالية المهاجرة زاد التمسك وحتى الغلو في التمسك بالقيم المخالفة لثقافة بلد الإقامة، كما هو الحال بالنسبة للجيل الثالث من الجالية المقيمة بفرنسا وهي فرنسية الجنسية بحكم مكان الميلاد والتعليم والعيش في نمط الحياة في تلك البلاد، وهذا نوع من العلاقة الجدلية بين القيم المهيمنة والقيم الملجأ، وعلى سبيل المثال كان من النادر أن يقيم الناس الصلاة في شوارع المدن والقرى في بلادهم وهو ما يلاحظ منذ سنوات في المهجر في فرنسا وغيرها.
الحقيقة أن جاذبية النمط المستجد من القيم وخاصة المتصلة بالارتقاء الاجتماعي وفن الحياة (L'art de vivre )ظهرت في الجزائر عقودا قليلة بعد الاحتلال أي منتصف القرن 19 حيثأن قسما من الأعيان ورجال الدين يفضلون الإقبال على التعليم في المدارس الفرنسية وإرسال أبنائهم إلى المعاهد وراء البحر، وذلك الجيل من المتعلمين في فرنسا من أطباء ومحامين وصيادلة ومهندسين هم الذين سينشطون فصائل الحركة الوطنية ويحاولون إدخال بعض الاصلاحات في مجتمع يعيش على هامش الأقلية الأروبية من المستوطنين ويرى في أغلبيتها ما ينشده من رفاهية وتفوق في استخدام مستجدات الحياة العصرية بمقاييس تلك الفترة.
ومن المفارقة أن الكثير من قيادات جيش التحرير وجبهة التحرير في بداية الثورة ينتمون إلى العمق الريفي للجزائر وأحيائها الشعبية، وأغلبهم تعلموا داخل الجزائر في نظام التعليم التقليدي (الكتاتيب) أو في معاهد البلدين المجاورين المغرب وتونس، وقد بقيت منظومة القيم الأصليّة بعد تحويرات تطلبتها الثورة وخاصة في مجالات العلاقات الاجتماعية ووسائل التعبئة والانضباط، ونجد في أدبيات جبهة التحرير أثناء كفاح التحرير الكثير من القيم الايجابية الصالحة اليوم مثل الاعتماد على النفس والاستحقاق والتقشف والتواضع ...إلخ وليتها تعود إلى مجتمعنا اليوم فهي صالحة اليوم مثل الأمس.
يرجع التناقض في العلاقة مع القوة الكولونيالية السابقة ومع منظومة قيم الآخر أي الغرب الأوروبي الأمريكي بوجه عام إلى الأزمة الحضارية التي يعاني منها العالم الإسلامي وعجز الأغلبية من نخبه على توطين قيم الحداثة من داخل بلدانهم ولجوء آخرين طوعا أو كرها للهجرة لعالم الحداثة والعديد منهم يقدم في المهجر قراءات أخرى للنصوص الدينية تُحكّم العقل وتقربها من القيم المهيمنة مثل حقوق المرأة والأحوال الشخصية بوجه عام واللائكية، ومسائل أخرى مثل الحجاب ودور المرأة في الحياة السياسية والاقتصاديةإلخ...لا يهمنا أن تكون تلك المقاربات معبّرة عن قناعات واٌجتهاد في فهم النصوص الدينية أم هي سباحة في اٌتجاه الريح للحصول على الشهرة أو القبول في مجتمع آخر أو حتى لدى شرائح من المجتمع الأصلي، فالمشكلة تتمثل في توطين الحداثة والتحكم في الخبرة ودخول سباق الاختراع والإبداع.
وفي المقابل هناك دعاة باسم السلفية والجهادية اليائسة إلى حد الانتحار والقتل الجماعي للأبرياء بدعوى الحق في تكفير الآخر وهدم الدولة وتشويه الإسلام في العالم غير الإسلامي بدل منافسة ذلك العالم في مجال العلوم والفنون والآداب، وذلك باستخدام عدد من المنابر وخاصة الفضائيات والشبكات العنكبوتيةوالتوجه إلى الشباب ودعوتهم لإبقاء ما كان على ما كان وعدم التعلق بقيم أخرى متسللة أو مفروضة، ونحن في حاجة إلى دراسات ميدانية ومقارنة بين الخطابين والبحث عن أسباب تأثير التيار الدعوي وضعف تأثير خطاب التيار الذي يدعو لقيم تنسب للحداثة وصعوبة عقلنة فهم النصوص الدينية والاجتهاد في تطبيقها في غير الأركان الخمسة للعقيدة، وهو ما يتطلب بناء منظومة قيمية تقوم على الحرية والمسؤولية ابتداء من الأسرة والجماعات المحلية إلى مؤسسات الدولة المركزية ومن المهم نشر المعرفة العلمية وخاصة المتعلقة بالإنسان والطبيعة، إذ كثيرا ما يؤدي اٌقتران الجهل بالتخلف إلى الجهالة أي التعصب والعنف بدل الحوار والتعاون، ولا شك أن فكرة القيم المرتبطة بالوسطية تعني رفض الغلوّ في تعاليم الدين واٌستعماله مطية للسلطة، وهنا يتساءل المنتسبون لهذا التيار: أين تبدأ الوسطية؟ وأين تنتهي؟ والجواب إن الوسطية هي التي تعطي الروح حقها وتسمح للعقل بتقليص مساحة المجهول والانسان أي اٌنسان، ليس ملاكا ولا شيطانا بالفطرة، إنه كائن يحقق التوازن بين عقله وروحه باٌتقان عمله للدنيا والآخرة وللإنسانية جمعاء.
ولا يتمالتحول في تلك المنظومة القيمية عن طريق المراسيم والقوانين سواء أكانت لدعم العلمانية والحداثة أو كانت لدعم الأصالة والأصولية إذا هدّد أي منهما النواة المركزية للثقافة القيمية التي أشرنا إليها في بداية هذه المقاربة وهو ما حدث في تركيا بعد أكثر من سبعة عقود (1924-2000) من الأتاتوركية وهو ما شهدته روسيا بعد العهد السوفياتي وهنا نضيف إلى التصنيف الثنائي إلى قيم مهيمنة وقيم ملجأ، قيمًا أخرى نسميها مؤقتة أي لمرحلة تاريخية في مسار الأمة، ومن الملاحظ أن المظهر يكتسب دلالة من المناخ السياسي الاجتماعي فقد كانت اللحية في السبعينيات تشير إلى الانتماء إلى اليسار السياسي قبل أن تصبح من علامات الانتماء إلى التيار الاسلامي منذ نهاية الثمانينيات وما بعدها.
القيمة القطب
ولا شك أن القيمة القطب في الهرم الصاعد للبناء القيمي هي العقيدة الدينية فالأغلبية الساحقة من الجزائريينسواء أكانوا مطبقين للفرائض والتعاليم أم لا، لا ينكرون أنهم من المسلمين، فأثناء حقبة الاحتلال الاستيطاني المظلمة لم يبق لكل ما كان يسمى الأهالي أو السكان الأصليين (autochtones) سوى صفة مسلم في بطاقات التعريف (Français musulmans)،كما كانت العقيدة طوال تلك السنوات الرهيبة هي وقود المقاومة والصمود وحتى دعاة سراب الاندماج لم يتخلوا عن صفة المسلم ولكن الأغلبية من الجزائريين اعتبروا التجنيس أي التحول إلى الجنسية الفرنسية هو نوع من الكفر أو الخروج عن الدين الإسلامي، وللإمامعبد الحميد بن باديس وقفات مشهودة في ثلاثينيات ومستهل الأربعينيات من القرن الماضي، وهو أيضا موقف الحركة الوطنية في الدفاع عن هذه القيمة القطب على الرغم من أن مؤسس الحركة الوطنية الحاج مصالي باسم نجم شمال إفريقيا قبل أن تصبح حزب الشعب ثم انتصار الحريات الديمقراطيةقد تدرب في الحركة العمالية الفرنسية واستفاد من تقنيات النضال في الحزب الشيوعي الفرنسي، كما كانت النوادي والفرق الرياضية والمنظمات الشعبية توصف بالإسلامية أو إلى أعياد دينية مثل النوادي الرياضية التي تسمى المولودية في كثير من مناطق الجزائر، ولا ننسى أن الكشافة التي كانت مشتلة لأجيال من المناضلين والمجاهدين، وكذلك اتحاد الطلاب المسلمين الجزائريين (UGEMA) فيما بعد أبقت إلى اليوم على وصف مسلم، وكان الدافع لهذا الانتماء هو التميز عن المستوطنين الأروبيين ومنظماتهم العنصرية، وهذا الانتماء يختلف عن التنظيمات الحزبية ذات التوجه الإسلامي والمنظّمات الدعوية المعاصرة.
هذه القيمة الجامعة للجزائريين منذ ما يزيد على ألف عام تعرضت مع الأسف للاستخدام السياسي في العقد الأخير من القرن الماضي وأصبحت حزبا يطلب السلطة ولو بحدّ السيف، وهذا ليس أول توظيف للدين الحنيف في تاريخ المسلمين فقد شهد العالم الإسلامي الكثير من الفتن والصراعات،التقت فيها السيوف بالمصاحف، وبالنسبة للجزائر التي لم تعرف قبل وبعد التحرير أي تمييز طائفي أو أثني في أدبياتها الفكرية والسياسية وفي إسلامها الشعبي أي الشائع بين عامة الناس، وكذلك لدى الأغلبية من النخب التي تتجادل أحيانا في مسألة العقلانية (la rationalité) وحدود الاجتهاد في النص القرآني المقدس وما هو صالح أو انتهت صلاحيته من المنقول عن السلف، ليس أكثر، ولكن من النادر جدا أن يسأل جزائري آخر عن مذهبه، على العكس من بلاد أخرى حيث ينص في بطاقة التعريف على المذهب أو حتى على الطائفة الأثنية وهو ما حدث في حرب أهلية وقعت في جنوب جزيرة العرب قتل فيها 12000 شخصا في حوالي شهر واحد قسم منهم في نقطة تفتيش يقيمها أشخاص من جهة أو قبيلة معادية، وقد كنت في أواخر الثمانينيات من الشهود على المجازر القبلية على السلطة باسم الإيديولوجية الماركسية اللينينية.
ونحن نرى أن الإسلام في الجزائر كان قيمة مرجعية ومعطى طبيعي يمتزج فيه العرف والتقاليد بروحانية بريئة ليست في حاجة إلى مراسيم حلال وحرام، ولم تكن بعض مظاهر وسلوكاتالشعوذة التي طرأت عليه سوى نتيجة لمحنة الاحتلال وتراكم التخلف في كل بلاد الاسلام، وما صاحب ذلك من جهل وفقر واضطهاد، دفع كل ذلك إلى التعويض بالسحر والخرافة، وقد وصف الطبيب د. فرانتز فانون F. Fanon وحلل في دراسته العميقة للمجتمع الجزائري بعنوان: "سوسيولوجيا الجزائرالعام الخامس من الثورة الجزائرية" هذه الظواهر واعتبرها طريقة للمقاومة ورفض الاحتلال وعلومه وطبّه وتكنولوجياته وليس عداء للعلم، وقد يغفل أحيانا بعض أنصار تسريع الحداثة وقيمها في مجتمعنا عن هذا الميراث التاريخي فقد اٌرتبطت قيم الحداثة لأكثر من قرن ببلد واحد هو فرنسا نموذجا ثقافيا وسياسيا، وقد ميز عدد من قادة الحركة الوطنية والثورة بين ما هو اٌستقطاب واحتواء containment وبين المفيد لتحقيق النصر.
وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن المرجعية الروحية والقيمة القطب للدين لا تخص المسلمين وحدهم في الجزائر، فمن المعروف أن المجتمع الأمريكي يقدس الدين ورموزه، كما يوضع الإنجيل في أفضل مكان في البيوت والفنادق، كما يلتصق بالوطنية، وهو ما يتفق عليه الحزبان الكبيران والكثير من منظمات المجتمع المدني، كما أن الحزب الشيوعي ممنوع في الولايات المتحدة بسبب عدائه للكنيسة بوجه عام والأرثوذوكسية في روسيا والبلدان السلافية خاصة، وقد قامت الماكارثية بتصفيات كبيرة في الولايات المتحدة لكل مشبوه بالشيوعية أشبه بمحاكم التفتيش باستثناء بولندة الكاثوليكية التي كانت ضمن الكتلة السوفياتية سابقا وهي الأكثر سكانا في شرق ووسط أوروبا حيث تحظى الكنيسة بنفوذ كبير وساهم البابا البولندي الكاثوليكي في الإطاحة بالنظام السوفياتي، وفي المملكة المتحدة (بريطانيا) الملكة هي رئيسة كنيسة كانتنبريالبروتستانية باعتبارها رمزا يجمع المقاطعات الثلاثة بالإضافة إلى كندا وأستراليا وغيرها من بلاد الكومنولث التي ترأسها الملكة عن طريق تعيين حاكم عام شرفي، وفي ألمانيا يبدأ المستشار أو المستشارة مهامه بالقسم على الإنجيل إلخ...
وفي البرتغال يحتفي مئات الآلاف من الكاثوليك بظهور القديسة فاطمة بالدعاء والابتهال والأمثلة كثيرة على رسوخ المعطى الديني باعتباره قيمة جامعة وتظهر إلى اليوم في المجتمعات الغربية الأكثر حداثة وتصنيعا معتقدات سحرية فقد طلبت سيدة بريطانية في لندن وهي مراقبة متقاعدة للقطارات، أن لا استعمل الخيط والإبرة يوم الأحد داخل البيت، لأن ذلك سيجلب الشر على سكان البيت وحتى على جيرانهم، لا أدري مدى انتشار هذا التفسير الخرافي، ولكن يوجد في ثقافتنا التقليدية ما يشبه ذلك في القرى والمدن إلى اليوم.
ولغرض الاختصار في هذه المسألة لا نفصل القول في الهند وطقوسها الدينية وخاصة في موسم تجمع الملايين حول نهر الكانج والله آباد حيث تلتقي المئات من الطوائف والأعراق ولكل إلاهه ومعتقداته، وكان الحل بالنسبة لهم اعتماد الانكليزية لغة رسمية جامعة للنخبة خاصة، وفي المهجر اعتمدوا حلا ناجحا سموه بيت الهند في لندن (House of India)يلتقي فيه يوما في الأسبوع وفي الأعياد الرسمية الهنود من السيخ والبوذيين والبراهمية والمسلمين بكل ألسنتهم ولباسهم المحلي نساء ورجالا، وهو ما اقترحته على المسؤولين في وزارتنا للخارجية قبل عدة سنوات، وخاصة بالنسبة لمواطنينا المهاجرين في فرنسا والتجمعات الكبيرة الأخرى باسم بيت الجزائر عوض أو إلى جانب المركز الثقافي الذي دخللعدة سنوات في نوم عميق قبل أن يستفيق في الشهور الأخيرة.
اللّغة تعدد داخل المشتركات
أما القطب القيمي الرابع- وهذا الترقيم ليس للترتيب كما هو الشأن في سابقيه فقد تتحول أي منها إلى أولى أو أقوى -إنه اللغة التي تعرضت بلسانيها العربي والأمازيغي إلى الضعف والاضعاف والاٌقصاء، أما الضعف فكان أولا بسبب التخلف الذي عمّ المنطقة، أما الإضعاف والإقصاء فكان نتيجة مخطط التجهيل المبرمج أثناء ليل الاحتلال، مصحوبا بسياسات فرّق تسد التي انتهجتها فرنسا الكولونيالية وسخرت لها خبراء في اللسانيات وعلوم المجتمع وخاصة الاثنوغرافياوالإثنولوجيا، وهناك تراث ضخم في فروع المعرفة المتصلة بماضي الجزائر قبل الاحتلال الروماني وبعده، لم يكن له تأثير على عامة الجزائريين الذين لم يكونوا يميزون بين الإسلام والعربية بسبب اقترانها بالشعائر الدينية، وكأن كل المسلمين هم من الناطقين بالعربية وذلك لعدة سنوات بعد الاستقلال، وهو ما أشرنا إليه تحت عنوان القيم الغالبة Valeurs dominantes التي يتحول بعضها كما هو في تلك الفترة العصيبة إلى قيم ملجأ Valeurs- refuges ، ولعله من المفيد أن نشير في هذا السياق إلى أن الذين لغتهم الأم Mother language أمازيغية قدموا خدمات جليلة للعربية وعلومها، أما الذين لغتهم الأم هي العربية فليس لهم أي جهد يذكر فيما يتعلق بالأمازيغية بمختلف لهجاتها، وتركوا الميدان بين أيدي الفرنسيين قبل الاستقلال وبعدهللاهتمام به لأهداف علمية وأخرى سياسية، وهو ما حدث طيلة ثلاث آلاف سنة من تاريخ الجزائر، قبل اٌنتشار الإسلام ومعه العربية بعهود طويلة.
حدث صراع خطير في أواخر الأربعينيات من القرن كادت تكون له أثار خطيرة على قواعد الحركة الوطنية التي كانت تستعد لإعلان الثورة بعد سنوات قليلة (1947-1954)، ولكن الأغلبية الساحقة من سكان منطقة القبائل كانت من أنصار مصالي الحاج وبقوا على العهد حتى انطلاق الثورة، ولم يسأل أحد منهم عن أصل مصالي ونسبه، وهو ما بقي من ثوابت الثورة التحريرية كما جاءت في بيانها المؤسس، فقد كان القادة يتنقلون ويقودون جيش وجبهة التحرير في الشرق أو الغرب أو الوسط أو الجنوب، ولا يُسأل أحد عن الجهة التي أتوا منها، وهو ما يظهر عبقرية بيان الأول من نوفمبر 1954 الذي قام على المطلب الدائم المتمثل في الحرية والعدالة والتقدم لكل الجزائريين أينما كانوا.
أثناء الثمانينيات ظهر في الخطاب السياسي والثقافي التقليل من شأن العربية وتجاهل أو رفض للأمازيغية، مع تبادل للاٌتهامات حول أيهما الأصل والأقرب للانتماء والهوية الوطنية، سرعان ما تحول إلى حركات اٌحتجاجية حاول بعض النشطاء في الأحزاب ومنظمات المجتمع المحلية تجذيرها شعبيا وخاصة تحت عنوان الديمقراطية وتأييدها بحجج من التاريخ وما قبل التاريخ، بينما ذهب آخرون إلى أن كل لغات العالم مشتقة من جذع اللغة العربية. (أنظر دراسة للكاتب بعنوان: المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية 2003).
نذكر في هذا السياق أن الشعر الشعبي أو الملحون يحتوي على خزان كبير من القيم تظهر في صورة حكم وأمثال ترد في الخطاب اليومي للناس مثل ما نجده مثلا في أشعار لخضر بن خلوف وأسفرامحند أومنحد، وقد تتحول مقاطع من تلك الأشعار إلى تعبير عن القيم ونصائح لتربية الأطفال والشباب وتتردد في المواسم والأعياد في صورة أغاني، أو أذكار تخصّص لمدح الرسول (ص)، وبالنظر إلى القيم المحافظة في المجتمع فإن أغلب الأغاني بما فيها الغزلية تبدأ بالصلاة على نبينا الكريم (ص).
نترك الجانب التاريخي العلمي لهذه المسألة للمختصين في علوم اللسان والفيلولوجيا، وبينهم الكثير من العلماء الموضوعيين، غير أن الذي يهمنا هو أن اللغتين العربية والأمازيغية بشكليهما الشفوي والمكتوب مع الإسلام تمثل مجتمعه قاعدة مثلث الهوية الوطنية قبل وبعد تأسيس الدولة الوطنية إن ما تنقلانه من قيم تعبر عن الخصوصية المحلية وفيهما ما هو مشترك بين المواطنين الجزائريين،وهو كله منا ونحن منه، فيه نشأنا وبه تعايشنا منذ القدم وإلى اليوم، ونؤكد هنا أن اللسان وحده ليس دليلا كافيا على الوطنية والتقدمية والرجعيةفقد كان في الجزائر عملاء للكولونيالية الفرنسية من الناطقين باللغتين، كما هو الحال بالنسبة لبعض الزوايا المتحالفة مع الإدارة الفرنسية، ولا ننسى أن العناصر الإرهابية ودعاة الفتنة لم تكن عندهم اللغة ولا الدين سوى أداة للاٌستقطاب والتضليل، كما أن هناك الكثير من الوطنيين الجزائريين الذين دافعوا وضحوا في سبيل القضية الوطنية كانت لغة الخطاب عندهم هي الفرنسية.

وبوجه عام يمكن القول بأن قيما راسخة وواسعة الانتشار قد تمرّ بفترة سبات في مرحلة تاريخية من حياة الأمة، وبالتالي يقلّ الرجوع إليها من طرف النخب العالمة والسياسية، بينما يظهر بدلها أو إلى جانبها قيم أخرى للتأثير على عامة الناس في الداخل أو لغرض الاستقطاب خارج الحدود، يمكن أن نلاحظ ذلك عند مقارنة الخطاب الذي ساد في الجزائر في فترة السبعينيات من القرن الماضي والشعارات التي سادت في فترة التسعينيات من نفس القرن، في الحالة الأولى كان التطوع والثورات الثلاثة والحوار الحضاري وفي الحالة الثانية ظهر شعار لا ميثاق لا دستور قال اللهقال الرسول والإسلام هو الحل، وتغير كبير في لباس النساء والرجال ما زال متواصلا إلى اليوم، وفي المنطقة اٌنتشرت فكرة القومية العربية والوحدة بين أقطار المنطقة وتردد صداها في الفنون والآداب من منتصف خمسينيات القرن الماضي وأصبحت قيمة مركزية قبل أن تتراجع وتفقد تأثيرها بين النخب والجمهور وتأخذ مكانها القيم والمسلكية المنسوبة للإسلام وخاصة في صورته الأفغانية الأكثر تشددا، ويمكن ملاحظة ذلك أيضا في القيم المرتبطة بالليبرالية والاشتراكية قبل وبعد تسعينيات القرن الماضي وقد يحدث تعايش غير صراعي كما هو الحال في النظام القيمي الحالي في الصين الشعبية، التي يحكمها حزب واحد ونظام اشتراكية السوق أي تعايش بين القيم الليبرالية وقيم الأحاديّة الإيديولوجية.
...يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.