فهرست الصفحات المفاهيم والحدود والمتطلبات الصفحة 2 الصفحة 1 من 2 1 بين عقبة الفاتح وبيجو السفاح لا بد في البداية من التذكير بأن أهل هذه المنطقة الشاسعة سواء أكان إسمها القديم نوميديا أو آكال أومازيغ في تعبير الحسن الوزان المعروف باٌسم ليون الإفريقي أو البربر، لم تخضع أبدا لجحافل الغزاة من الرومان والوندال والبيزنطيين، فلم يجد بول بالطا في خاتمة مقاله في الذكرى الثلاثين لاٌستعادة الحرية والسيادة 1992 سوى العبارة التالية23 : قرنا من الكفاح... دائما لا للغزاة، وكتب جاك بيرك في دراسته عن المغرب بين حربين وهو يعلق على اٌحتفاء فرنسا بمئوية الاحتلال ''لقد بقي الإسلام طيلة قرن هو المصباح الوحيد الذي أضاء سماء الجزائر، إن الوجوه العابسة في هذه البلاد تقول الكثير.'' لقد تقبل أجدادنا القدماء الإسلام بعد أن أدركوا أنه يختلف في مبادئه السامية وروحانيته النقية عن جبروت واٌستعلاء الرومان الذين فرضوا على معظم العالم القديم ما يعرف بهيمنة روما (axa Romanaِ)، وتمرد الدوناتيون على خداع بيزنطة المسيحية، ولكنهم أقبلوا على اٌعتناق الدين الحنيف عن اقتناع، وليس خوفا أو طمعا، وتجندوا للدفاع عنه ونشره على الضفة الأخرى من المتوسط وفي العمق الإفريقي، وساهموا في تنوير الإنسانية وتشييد الحضارة وأضافوا إليها الكثير من علوم المنقول والمعقول واٌشراقات التصوف الروحاني الذي يطهّر النفس من الوسواس الخناس ويرقى بها إلى عليين. لم يكن أولئك الرجال الذين هزموا القوتين الأعظم إمبراطورية فارس وغريمتها إمبراطورية بيزنطة اللتين اقتسمتا عالم ذلك الزمان بما يشبه إمبراطورية السوفيات السابقة والتكتل الأطلسي إلى اليوم، لم يكن المسلمون ثلاثة عقود بعد الهجرة أكثر عددا وعدة فقد كانت قوتهم أساسا روحية وذخيرتهم التي ألهبت الحماس وغذت الإرادة تتمثل في 114 سورة من القرآن الكريم وسيرة خاتم الأنبياء علية أزكى الصلاة والتسليم. من يصدق اليوم مثل الأمس أن الفتح الإسلامي للجزائر وجوارها المغاربي كان غزوا واٌحتلالا مثل ما سبقه وما جاء بعده، كما أشاع منظرو الإيديولوجية الكولونيالية الاستيطانية الأكثر شرا على الاٌنسان وفسادا في الأرض، ولذلك فإن عقبة الشهيد معلم في ماضينا التاريخي، وليس السفاح بيجو وخلفائه القتلة من نوع ماسو وبيجار. لقد جاء عقبة لينشر دين العدل والأخوة والمساواة فما هو سجل الغزاة الآخرين في الجزائر وبقية العالم الإسلامي؟ من الباحثين القلائل الذين اٌحترموا الحقيقة وأنصفوا التاريخ المستشرق السويسري الألماني آدم ميتز A.Metz)) في دراسته عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري .. وصف فيها الفاتحين الأوائل بالمؤمنين وسماهم فرسان الله ((les cavaliers de dieu اٌنطلاقا من تعاليم دينهم التي تحث على الاقتراب من المثل العليا في النوايا وبالعمل لصالح المجموعة ويقول ميتز تتميّز تعاليم الإسلام عما سبقها من أديان سماوية أو وضعيّة ففي هذا الدين لا يعلو الفرد على الجماعة كما هو الشأن في الرأسمالية الليبرالية غير العادلة، ولا تعلو الجماعة على الفرد كما هو الحال في الشيوعية التي تلغي الفرد، وكذلك فإن الإسلام هو دين الوسطية بين مختلف النظم الاجتماعية التي عرفتها البشرية. إن اٌعتبار القائد عقبة بن نافع معلم في المتصل التاريخي لبلادنا الذي لا يقبل الحذف والتقطيع لا يعني تقديس الأشخاص فليس في الإسلام قديسون أو أساقفة يتوسطون بين الله سبحانه وتعالى وعباده ويصدرون صكوك الغفران أو الحرمان من جنة الرضوان كما هو الحال في المسيحية المحّرفة فقد رأينا قبل بضعة أيام مئات الآلاف من الشباب ذكورا وإناثا يزحفون ويركعون في البرتغال أمام تمثال فاطمة) -ليست هي لالا فاطمة نسومر بطلة الجزائر-( التي قال اثنان من الرعاة أنهم رأيا مريم العذراء في نفس المكان وذلك بحضور قداسة البابا بنيديلت ةضظ والمفارقة أن لا أحد يقول أن مثل ذلك المشهد تطرف أو مسيحوية كما يصفون ما يختلف عن طقوسهم بالأصولية في التعبير الانغلوسكسوني أو أنتقرية في التعبير الفرنسي ويرفعون في نفس الوقت شعارات الحق في الاختلاف وحريّة المعتقدات والحق في التنوع الثقافي. وعلى أي حال لا يحتاج ماضينا القديم والحديث إلى أساطير مؤسسة (mythes fondateurs) بسبب الفراغ أو انعدام الماضي أصلا كما هو الحال في شمال أمريكا وأستراليا وحتى بعض بلدان القارة العجوز، ففي تاريخ الجزائر سلسلة ذهبية من القادة الأبطال والنساء والرجال الأعلام وشعب واجه الشدائد في أغلب مراحل تاريخه، أليس من المحن الشديدة تولد الشعوب العظيمة؟ 2 ثلاثي الوحدة الوطنيّة: التلغيم والاٌستقطاب بعد هذه الكلمات التي يفرضها هذا المقام المهيب بجوار ضريح عقبة الفاتح، ويدعو إليها كذلك توضيح بعض المفاهيم المدسوسة التي روّج لها أساطين الكولونيالية وتسربت إلى أذهان شرائح من النخب في الجزائر وفي البلاد العربية والإسلامية بدون الانتباه إلى أنها عملة مزيفة هدفها تشويه الذاكرة الجماعية وهدم الهوية بأقطابها الجامعة والموحدة وهي الإسلام عقيدة التوحيد واسمنت الوحدة الوطنية والعربية لسانا وثقافة وليس عرقا أو سلالة والأمازيغية لغة وتراثا تعتز بذلك المزيج الأغلبية الساحقة من الجزائريين وليس من حق أي طرف أن يحتكر أو يخوصص أركان ذلك المثلث فالإسلام والعربية والأمازيغية ملك جميع الجزائريين. تبدو المقولات السابقة عند البعض من نخبنا من البديهيات ومن خلاصات التجربة التاريخية لمجتمعنا فهي مسلمات لا تحتاج إلى برهان، بينما يرى فيها البعض الآخر مجّرد مقدمات طوطولوجية أو كما يقال في المنطق الصوري مصادرة على المطلوب، أي أن تبدأ بالتسليم بالمقدمات وتقبل بالضرورة النتائج، وبالنظر إلى الموقفين السابقين فإن مسألة الأمن الفكري تطرح جملة من القضايا العويصة والتي لا تقبل الإجابات الجاهزة في اٌتجاه إرضاء الذات والمفاخرات العنترية أو رثائها والسخط عليها والهروب إلى الآخر. ولنتساءل ماذا يعني الأمن الفكري؟ هل هو عودة إلى تراثنا المنقول والمعقول لإحيائه وإثرائه؟ وكيف يحدث ذلك بمعزل عما طرأ على العالم من حولنا من تحولات معرفية وجيوحضارية وصراع على مناطق النفوذ الاقتصادي الثقافي؟، إنّ التراكم المعرفي ومنتوجه من الثروة والقوّة لم يكن منذ أمد بعيد لصالح بلادنا وكل العالم الثالث باٌستثناء دول قليلة تسمى منذ نهاية العقد الماضي بالصاعدة مثل الصين التي هي الآن في طريقها إلى أن تنتقل من قوة ناعمة soft power إلى قوة كونية global power في نهاية العقد القادم، كيف نتعامل مع التدفق المتواصل للعلوم والفنون والآداب والذي تزايدت سرعته مع طوفان الشمولية Globalisme بدون أن نفقد مرجعتنا الروحية وخصائصنا الحضارية؟ أليس ذلك هو ما فعلته أروبا أثناء قرونها الوسطى المظلمة؟ فقد نقلت ابتداء من القرن 11 ميلادي علوم المسلمين وآدابهم من بغداد وقرطبة وبجاية وغيرها من حواضر العلم والعرفان وأخضعتها لمرجعيتها المشتركة المتمثلة في المرجعية اليهودية المسيحية (judéo chrétienne) وحضارتها الإغريقية الرومانية Greco - Romaine)) ولم تتحول شعوبها إلى مسلمة أو عربية، فهي اليوم أكثر أروبية ومسيحية من الأمس لقد كانت إستراتيجية نخبها المفكرة كما لخصها الفيلسوف البريطاني فرنسيس بيكون في أوائل القرن السابع عشر في كلمتين العلم قوة (Knowledge is power) وكما رتب الفيلسوف ميشيل فوكو تلك الإستراتيجية على النحو التالي: معرفة - ثروة ؟ قوّة (savoir- avoir -pouvoir) وإسقاط أحد عناصر هذه المعادلة أو قلبها يؤدي في رأيه إلى قوّة وهميّة وثروة زائلة أو مهدّدة. لا يسمح المقام بتفصيل القول في القضايا المشار إليها وهي تعتبر من المعضلات أو الدايلاما التي يكثر حولها الجدل في ساحتنا الفكرية بين دعاة الحداثة إلى درجة رفض التراث والموروث الاجتماعي جملة وتفصيلا واليأس من تطويره واللجوء إلى الغرب بحسناته ومساويه، وبين دعاة آخرين إلى ما يعتبره البعض مدخلا تلفيقيا (éclectique) على طريقة نعم...ولكن... وهناك موقف ثالث يرى أن العودة إلى الأصول كما هي في الكتاب والسنة هو الموقف الوقائي الذي يضمن لشعبنا وللأمة العربية الإسلامية حبل النجاة من الضلال والاحتواء. لكل من الفصائل السابقة أدبياته وحتى مناضلوه الذين حمل بعضهم السيف ونصبوا أنفسهم مراقبين على مدى تدين الناس في عقيدة لا تعترف بالقساوسة وكرسي الاعتراف، وهناك أيضا من سخر من تخلف مجتمعه وسعى إلى الانسلاخ من جلده ليرى فيه الغرب صورة طبق الأصل من ديباجاته الإشهارية عن الحرية والإخوة والمساواة وما يسمى قيم الجمهورية التي أصبحت تعني القيم العالمية valeurs universelles) وكثيرا ما يجد نفسه في ساعة الفرز في قائمة الهوية الطاردة التي تميز بين الأصلي والمغترب كما حدث مؤخرا في المناظرات الرسمية حول رسم حدود الهوية الفرنسية. 3 نماذج من التحريك والتأثير إنّ التوصيف الجزئي السابق لما يظهر في ساحتنا من أفكار وخطابات لا يعني أن مصادرها كلها من الداخل ومن أجل التأسيس والتغيير إلى الأفضل، فالكثير منها مجرد صدى واستنساخ لما يحدث فيما يسمى بلاد المركز الأروبي الأمريكي التي تتكوّن فيها أعداد متزايدة من نخب العالم العربي والإسلامي وتخصص منذ حوالي قرن أو يزيد مراكز لدراسة قضايا المنطقة مشرقا ومغربا من إيكس إن بروفانس والسوربون إلى مخابر البحث في جامعة جورج تاون وهوبكنز ومعهد الدراسات الإفريقية والشرقية في لندن ومئات الباحثين الملحقين بالوزارات والمنظمات المتخصّصة في شؤون بلداننا. يكفي أن نذكر عينة من عناوين الأبحاث التي تهتم بها بعض المؤسسات المتخصّصة في شؤوننا وشجوننا بمشاركة باحثين من العالم العربي والإسلامي ومنه الجزائر وصل مجموع الميزانيات المخصصة لتلك الأبحاث مبلغا يتراوح بين 53 من الميزانيات الإجمالية للبحث العلمي 14) مليار في الولاياتالمتحدة.( نذكر من تلك الأبحاث العناوين التالية: - الأصول العرقية في المجتمعات العربية. - الصراع بين التيارات العلمانية والتيارات السلفية. - التنبؤ بحركات التمرد في المنطقة العربية. - المؤثرات في الأقليات في البلاد العربية. - النساء في المجتمعات العربية. - السعودية كمجتمع متفجر. - لغات الأقليات في الجزائر )باريس.I.L.M ( تعطينا مجالات البحث السابقة صورة عن مصاعب الأمن الفكري وخاصة إذا نظرنا إليه من زاوية التعاون وتحويل المعرفة والتكنولوجيا من الطرف الأكثر حضورا في ساحتنا الثقافية وتأثيرا في شرائح من النخبة القريبة من القرارات المتعلقة بالتدبير والتسيير أو المشاركة فيها. نجد في الحصيلة التي قدمتها وزارة التعاون والفرانكوفونية الفرنسية أن 50 ألف من الطلبة والإطارات والباحثين من البلدان المغاربية الثلاثة نسبة عالية منهم من الجزائريين تتوجه إلى التكوين والتأهيل لفترات طويلة أو متوسطة أو قصيرة المدى منها نسبة تختلف من سنة إلى أخرى تفضل البقاء هناك وإذا عادت إلى مواطنها الأصلية يبقى قسم كبير منها متأثر بالنموذج الفرنسي في فن الحياة L'art de vivre)) وبالقين الاجتماعية والثقافية السّائدة هناك فضلا عن أكثر من مليون من مواطنينا في المهجر حوالي نصفهم من مزدوجي الجنسية الذين سيتعرضون لاٌمتحان حول مدى اٌندماجهم في مجتمع الهجرة. إن طلب العلم والتقانات الحديثة- وهي في حقائقها كونية وبلا جنسية- لا ينقص من وطنية إطاراتنا وطلابنا فتيانا وفتيات، فقد أوصى رسولنا الأكرم بطلب العلم ولو في الصين، ومن البديهي أن التحصيل العلمي هناك يكون باللغة الصينية، ولكن السؤال الحقيقي هو هل أن نخبنا المغاربية والجزائرية بوجه خاص تنقل المعرفة بالجزائر إلى الآخر بتمويل من بلدانها الأصلية؟ أم أنها تنقل كل ذلك إلى بلدانها؟ مثل هذا التساؤل المزدوج مشروع إذا عرفنا أن الجزائر بالذات كانت في حقبة السبعينيات في المستوى التنموي لكوريا الجنوبية. أين الخلل؟ وما هو الحلّ؟ الجواب: إنّ الخلل في العلاقة اللأخلاقية بين الأقوى والأضعف الذي ينبغي أن يبقى ضعيفا ويزداد ضعفا، وهي وضعيّة وصفها الشاعر في البيت التالي: تعوي الذئاب على من لا كلاب له*** وتخشى صولة المستأسد الضاري أما الحل فيتمثل في دراسة الإستراتيجية اليهودية قبل إغتصاب فلسطين وبعدها في علاقتها بالعالم عن طريق الدياسبورا وشبكة علاقاتها مع الانتليجانسيا اليهودية التي تسيطر على المال والعلم والإعلام وتحول العلم والمال إلى إسرائيل ولا تحوّل منها إلى الخارج أي شيء. 4 من عوامل إضعاف الحصانة الثقافية نذكر من بين عوامل ضعف حصانتنا الفكرية )والحصانة الثقافية على أي حال نسبية لدى كلّ الأمم( العامل الأول داء التخلّف وفيروس الفتن وهما معا من الأسباب التي مهدت الطريق للكولونيالية وفرض الوصاية على بلاد المسلمين وأخرجا منطقتنا العربية والإسلامية من موكب المقدّمة ودفعا بعض النخب إلى صراعات هامشية حول أيّهما أهمّ وأسبق العروبة أم الإسلام وكأن العروبة بلا إسلام تعني شيئا في حضارة اٌشتركت في اٌزدهارها نخب وشعوب من كل قارات العالم القديم وقد ساهم ذلك الضياع في إضعاف حصيلة إرهاصات النهضة في مستهل القرن الماضي وخروج النموذج أو المثال الحضاري من بلاد العرب والمسلمين واستفحال التبعيّة فيما نأتي ونذر، فقد تحوّل عالمنا المسكين والمظلوم من بعض نخبه إلى مفعول به يكتفي في أحسن الأحوال برد الفعل وتتفاخر بعض بلدانه بالخدمة التابعة (Sous-traitance) وقبول هيمنة القوى الكبرى عن طواعية ودفع الأجر مع الشكر والامتنان. يضاف إلى ذلك إشعال فتيل التعارض والتمايز بين دوائر الانتماء الثلاثة الوطني )الدولة الأمة( والإقليمي )المغاربي ؟ الخليجي مثلا( والأعم القضاء العربي الإسلامي واٌنتظار المهدي المنتظر، على العكس تماما بين تجربة الاٌتحاد الأروبي التي أقنعت أعضاءه بأن قوة دولة واحدة منه هي من قوة كل دولة فيه، ولا أحد ينكر اٌنتماءه إلى وطنه الأصلي أو اٌنتماءه الأروبي تاريخا وثقافة أما العامل الثاني فهو ضعف العناية في جامعاتنا ومعاهدنا بعلوم الإنسان والمجتمع وتأخر الاٌهتمام بعلم الاجتماع الديني فقد تصور مخططو السياسات منذ اٌستعادة السيادة الوطنية أن التقدّم والتطور يتطلب أولوية الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا أما المجالات المتصلة بالفرد ومجتمعه فهي من الأدبيات التي ليس فيها قيمة مضافة ولا مردودية مثل الصناعة والتجارة فهي كما قال البعض ''تفلفيس'' أو من الكماليات على أحسن تقدير وقد أدى هذا الإهمال إلى إضعاف فهمنا للتحولات الجارية في مجتمعنا واٌستشراف الغد القريب والبعيد فمن تنبأ بأحداث أكتوبر 1988؟ ومن توقع أن تدخل الجزائر مضيق العواصف وتصبح على شفى حرب أهليّة قد تعيدها إلى ما قبل 1962 في عالم لا يرحم، وجيران على الضفة الأخرى لهم قوات جاهزة للتدخل السربع من أجل التهدئة كما حدث في العراق وأفغانستان والصومال وغيرها؟. إننا في انتظار أن يكون لدينا العديد من الأطباء من طراز د.عروة الذي أنجبته هذه الديار وهو الباحث المتخصص أيضا في علوم الدين ومهندسين من أعلى طراز مثل الفيلسوف مالك بن نبي المنظر المرموق داخل وخارج الجزائر، ولماذا لا يكون لدينا أئمة من حملة الليسانس وما بعده في علوم الفلك والفيزياء والالكترونيات؟ ففي حضارة الإسلام لا فرق بين اللاهوت والناسوت. لقد فتح مشروع المصالحة الوطنيّة الذي بادر به رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في بداية عهدته الأولى باب المصالحة أمام كلّ الجزائريين الذين يجمعهم وطن واحد، والمصالحة تعني أيضا مصالحة مع ذاتنا الحضارية ومع عصرنا وليس في طرفي هذه المعادلة أي تناقض فقد ناضلت وجاهدت أغلبية الجزائريين من أجل العودة إلى التاريخ واٌستعادة موقعها الفاعل في جغرافيا العالم وتوجت كفاح الأجيال بثورة حملت مشروعا حضاريا واٌنسانيا ورفعت لواء إسلام الحرية أعاد لشعوب الأمة العربية والإسلامية بأسرها بارقة أمل في النصر على الطغيان، ولذلك أيدتها تلك الشعوب بالإجماع وتغنّت بملحمتها وأشادت بها فوق المنابر ولعل ذلك كان آخر إجماع في المنطقة مع شعب برهن على اٌستحقاقه للتأييد والتضامن. أثمرت تلك المصالحة مع ذاتنا الحضارية بالمادة الثالثة مكرر من الدستور التي تنصّ على أن تمازيغت هي كذلك لغة وطنيّة سنة 2002 وبتعديل المادة السادسة من الدستور سنة 2008 الخاصة بالعلم الوطني والنشيد الوطني كاملا باٌعتبارهما من رموز الثورة والجمهورية البنت البكر لثورة التحرير واٌحترام أرواح الشهداء ورموز الثورة وترقية كتابة التاريخ وتعليمه وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أليس ذلك من الشروط الأولية للحصانة الفكرية؟. هل نسيت فعاليات المجتمع السياسي والمدني أن الجزائر كانت على حافة التلاشي والهلاك بسبب الانقسامات والصراعات التي سبقت النجدة العثمانية فكثير من مناطق الوطن كانت أشبه بالكانتونات المتحاربة وأنياب الأعداء تنهشها من كل جانب: الإسبان غرب البلاد والفرنسيون في شرقها وجزء من بلادنا تمّ ضمّه إلى جارنا من الشرق وجزء من الغرب مطالب بالولاء للسلطان أمير المؤمنين. ومثلما كان الفتح الإسلامي للمغرب الأوسط إحياء لجزائر جديدة فإن النجدة العثمانية جعلت جزائرنا قوّة في المتوسّط يخشاها الغزاة ويعترف بسطوة أسطولها الطامعون طيلة ما يناهز ثلاثمائة عام. إن البند الأوّل في مناعة الجزائر بكلّ معانيها هو وحدة الجمهورية شعبا وأرضا مهما كان التنوّع والاختلاف في الاجتهادات إذا صدقت النوايا وأيدتها الأقوال والأفعال. اٌنطلاقا من المعاينات السابقة فإنّ المصالحة الوطنيّة مع ذاتنا الحضاريّة ومع متطلّبات عصرنا ليست مشروعا لفض الاشتباك المأساوي وتضميد الجراح فحسب بل هو اٌستراتيجية لبناء جزائر اليوم والغد، جزائر تنتصر على تناقضاتها الثانويّة وتتفرّغ نخبها ومجتمعها لتفعيل ثوابت قوتها بالجهد والاجتهاد في تثمين تجربتها التاريخيّة والاستفادة بذكاء من علاقاتها بجوارها القريب والبعيد. 5 وجهة نظر نوجز الآن وجهة نظرنا في النقاط السبعة التالية: 1 من الناحية الإجرائية ليس من السهل في عالمنا المعاصر التمييز بين ما هو فكر وطني محض وما هو عالمي أو معولم، وبين ما هو ثقافات فرعية (Subcultures) من جذع مشترك للثقافة الأم أو ثقافة الأم . Mother cultur or culture of mother 2 إن الرهان الحقيقي على ما أسميه الحد الأدنى من الأمن الفكري الثقافي قياسا على الحد الأدنى للأجور SMIG)) يعود أساسا لمنظومة التربية والتكوين، التي ترسم ملامح الشخصية القاعدية Basic personaly أو أرضيتها المرجعية مكَمْمنمْ مٍفْئ فلا توجد مؤسسة أخرى بعد الأسرة باٌستثناء الخدمة الوطنيّة تقوم بعمليّة التطبيع لجيل كامل وترسخ في سن الطفولة المرجعية الثقافية والروحية والوطنيّة وأساسيات اللغة الجامعة أو الموحّدة غير المدرسة وتقع المسؤولية في المرحلة التالية على الجامعة التي يتخرّج منها ما يعرف بالأنتليجنسيا أو ما يسمى في بلاد العم سام القيادات الفكرية Think Tanks)) ولا شكّ أن الجامعة وقيمتها المضافة المتمثلة في البحث العلمي هي المطالبة بإنتاج الأفكار والعمل على المدى الطويل على تقديم مشاريع وبدائل حضارية ثقافية عندما تتمكن من توطين المعرفة وتمثلها ونشرها في المجتمع بلغتنا العربية الجميلة تمهيدا لإنتاج أنساق فلسفية ومدارس في العلوم والتاريخ والمجتمع تتضمن نظريات جديدة حول الإنسان والطبيعة والعلاقة بينهما. 3 إن طوفان العولمة وثورة الاتصالات القائمة على قدم وساق ليست لا نعمة ولا نقمة إذا أدركت القيادات الفكرية وتنظيمات المجتمع المدني بأنه لا مناص من القيام بجراحات موضعية لحذف العديد من القيم الموروثة من عهود التخلف والكولونيالية، وأنه من المستعجل أن نسرع في تطبيق الاٌستنتاجات الثابتة في العلم الحديث والمعاصر. 4 إن الحذف لا يقتصر على قيمنا التي فقدت وظائفها المفيدة بل ينبغي أن يشمل قيم الحداثة التي ينبغي أن تخضع لفحص إجرائي فهناك على العكس مما يبدو من إغراء في مفاهيم حداثة وعصرنة الكثير من العادم الشبيه بالدخان الناجم عن الاحتراق تشكو منه المجتمعات التي صنعت تلك الحداثة وما بعدها. 5 قام مشروع حداثة الغرب الراهنة على فكرتين أولاهما أن العالم في حركيّة دائمة وهو قابل للتطوّر والتقدّم بلا حدود أما الفكرة الثانية فقد ألغت التصور الدائري للزّمن ووضعت مكان الكمال الثابت تصورا مغايرا يرى أن المدينة الفاصلة أو اليوتوبيا غاية متحركة وليست منفصلة عن إرادة الإنسان. 6 إن ذاتنا العربية الإسلامية وخصائصنا المحلية ينبغي أن تبقى ناصعة وجلية في حداثة منتجه وليس حداثة اٌستهلاكية تكون في النهاية مجرّد سوق جانبية لحداثة معولمة واثقة من نفسها وهجومية. 7 إننا على يقين بأن التواصل والحوار مع الغرب الأروبي الأمريكي والقطب الجديد في جنوب شرقي آسيا، لن يؤدي إلى إضعاف عقيدة التوحيد في أوطانها وحتى خارج حدودها على الرغم من تزايد ظواهر الإسلاموفوبيا واٌستبدال الخطر الأحمر بما يسمى الوبال الأخضر Peril vert فالبحث عن عدو جديد يرجع إلى عصور غابرة أشار إليه المؤرخ كاتن وهو يعدد أعداء روما في القرن الثاني قبل الميلاد بفخر في مقولته المأثورة ماذا تكون روما بدون أعدائها .َّQue serait Rome sans ses ennemi إذا اٌستعادت مجتمعاتنا عافيتها الروحية وأخذت العقلانية مكانها فإنها لن تكون عقلانية متجبرة وعليها غشاوة من الماركنتيلية المادية وعبادة العجل الذهبي، بل ستستعيد سيرتها الأولى في عصرها الذهبي وتبشر بني الإنسان في كل مكان بأن للكون إلاها رحيما بعباده يدعوهم إلى التراحم فيما بينهم وأن بين العقل والمادة روحا تحث على التضامن والتسامح والغفران. فالإنسان في فطرته الأولى ليس ذئبا لأخيه الإنسان كما رأى بلوتوس الروماني Homo hominit Lapus فقد جاء في الآية 4 من سورة التين ''لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم'' وهو أيضا ليس ذئب يمشي على رجلين كما وصفه فيلسوف المذهب الحسي البريطاني هوبز، إن القرآن الكريم يدعو إلى وحدة الإنسانية في المبدأ و المعاد. السابق - التالى