يعترف الدكتور مصطفى بيطام مدير المتحف الوطني للمجاهد بوجود نوع من التقصير في عملية التأريخ للثورة التحريرية المجيدة، ويتحدث في هذا الحوار المطول مع »صوت الأحرار« عن تحد كبير يواجه الأسرة الثورية والمؤرخين فيما يتعلق بغرس قيم الثورة لدى أجيال المستقبل، في ظل وجود ما أسماه أطرافا داخلية وخارجية تسعى إلى تدمير ذاكرة الشعب، كما يؤكد ضرورة التعجيل في تسجيل شهادات المجاهدين التي اعتبرها بمثابة المصل الذي يلقح به المرضى، من أجل الحفاظ على مآثر الثورة وتخليد بطولاتها. تحرص إدارة المتحف الوطني للمجاهد على تسجيل شهادات المجاهدين، من خلال تنظيم لقاءات دورية مع من عايشوا الثورة التحريرية، هل يمكنكم إعطاؤنا أرقاما رسمية حول تقدم العملية؟ 60 ألف شهادة حية، ولقد انطلقت العملية بقوة في سنة 2000 وهي تزداد وهناك إقبال مستمر للمجاهدين الراغبين في الإدلاء بشهاداتهم، ولقد اهتدينا إلى طريقة جديدة للتعجيل في تسجيل الشهادات فبعد أن كانت العملية تتم سابقا بين الصحفي أو المحقق والمجاهد في أستوديو المتحف وهي عملية تتم يوميا في أستوديو المتحف، لكن نحن الآن في سباق مع الزمن فقررنا تنظيم لقاءات كل أسبوع نستضيف خلالها ما بين 15 و20 مجاهد للتطرق إلى موضوع معين، أحيانا نخصص النقاش بين عسكريين مختصين في الجانب الحربي للحديث عن المعارك والاشتباكات، ومرات مع مختصين في التموين أو آخرين كانوا عرضة للتعذيب في السجون لاستعراض المعاناة والويلات التي كانت تسلط عليهم، وآخرون في الجانب الدبلوماسي يعني في مختلف جوانب الثورة، ونفتح المجال أمام المجاهدين لرواية ما عايشه، وبالتالي يمكننا القول إننا انتقلنا من جمع الشهادات الفردية إلى تسجيل الشهادات الجماعية. هل يمكننا القول إذن أن زمن الشهادات الفردية انتهى، وكيف تشرحون عملية توثيق الشهادات؟ بالنسبة لعملية التوثيق، نحن نأخذ المعلومات الشخصية الخاصة بكل مجاهد ( اسمه ولقبه الثوري تاريخ التحاقه بالثورة شأن ذلك شأن الكتاب الذي يجب أن يبرز دار النشر ودار الطباعة لتوثيق المعلومات)، كل هذه المعلومات لا بد أن تكون لصيقة بالشهادة حتى يتمكن كل باحث من أخذ المعلومات من مصادرها وهي الشهادة الحية المسجلة لأحد المجاهدين، كما أن الشهادات الجماعية التي نقوم بتسجيلها تتواصل لنصف يوم سواء في الصباح أو المساء، ونسميها »شهادة جماعية«، نقوم بتوثيقها ووضعها في أشرطة ثم نقوم بترقيمها وبرمجتها وتصبح مرجعا بالنسبة للباحثين، ويتكلف مختصون من باحثين وصحفيين بإدارة هذه اللقاءات، ونحن لا نفرض منهجية صارمة على المجاهدين فنحن نأخذ بأيديهم في بعض الأحيان ونستدرجهم بأسلوب يسهل عليهم العملية حتى ولو جاءت معلوماتهم غير ممنهجة وغير مرتبة لأن المجاهدين يختلفون من حيث المستوى وظروفهم الصحية وتبقى عملية الفرز والتصنيف متروكة للباحثين. تحدثتم عن ظروف صحية غير ملائمة قد تحول دون توثيق كل الشهادات، ما هي الحلول التي تضعونها لتسهيل عملية جمع شهادات المجاهدين؟ في حال ما كانت هناك عوائق تحول دون استقدام كل المجاهدين إلى المتحف، فواجب علينا كوزارة وكمؤسسة تعمل تحت الوصاية أن ننتقل إليهم أو نوفر لهم الوسائل للقدوم إلى الأستوديو، وهذا أنا أعتبره شخصيا واجبا علينا ولا شكر على واجب، فيجب التعامل مع المجاهدين بكل لطف واحترام كامل بصفتهم رموزا للوطن ويجب أن تكون الدولة بصفة عامة ووزارة المجاهدين والمؤسسات تحت الوصاية في خدمتهم، ولهذا أتوجه عشية اختتام الاحتفال بالذكرى الستين لاندلاع الثورة التحريرية بالدعوة إلى ضرورة التعجيل في نقل شهادات المجاهدين وتكاثف الجهود لإنجاح العملية وهنا أقول أنه إذا كان الشعب الجزائري بكل أطيافه قد ساهم في صنع ملحمة القرن ال19 فعليه المساهمة في تخليد مآثرها، لأن البعض يرى بأن هذه المسؤولية متروكة لوزارة المجاهدين والمنظمة الوطنية للمجاهدين، وهذا خطأ، صحيح أن المسؤولية الأولى للوزارة الوصية والمؤسسات تحت الوصاية تكمن في العمل على تخليد مآثر الثورة التحريرية، لا يمكن لنا أن ننكر واجب القطاعات والمؤسسات الأخرى، فمن العار بعد مرور أكثر من 50 سنة تمر علينا مرحلة وفي مناسبة من المناسبات لا نجد أثناء زياراتنا مثلا للترحم على أرواح الشهداء، لا أساتذة ولا طلبة، فمن العار أن تبقى زيارة هذه المعالم والأماكن الرمزية موقوفة على بقية من المجاهدين فقط، فعلى الشعب الذي ساهم في تفجير الثورة أن يساهم في عملية تخليد وحماية مآثرها، بأن يكون متواجدا في كل المناسبات والأعياد، وعلينا نحن الأولياء أن نعوّد أبناءنا على شد الرحال نحو هذه الأماكن والوقوف عند مراكز التعذيب ومقابر الشهداء والسجون والمعتقلات وعليهم أن يستمعوا بوعي إلى أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة، أما أن تبقى المسؤولية محصورة فقط على وزارة المجاهدين فهذا خطأ فعلى الشعب المساهمة في تخليد مآثر الثورة كما ساهم في تفجيرها، خلاصة القول عمل الوزارة بمعية منظمة المجاهدين والمؤسسات يتلخص في العمل على حماية وتخليد مآثر الثورة والمقاومة الوطنية وإثراء الذاكرة الوطنية وتبليغ الرسالة للأجيال، والتاريخ سيسجل أن ثمة ثلة قليلة أداروا ظهورهم للثورة ولم يكن لديهم إيمان بانتصارها وعندما استرجعت الجزائر سيادتها بدؤوا يعضون أناملهم وكان من الأجدر بهم أن ينصهروا في بوتقة الثورة فعليهم الالتحاق بالقافلة التي انطلقت منذ سنوات من أجل حماية وتخليد الثورة. حسب قولكم، هل يمكننا الحديث إذن عن وجود تقصير في غرس قيم الثورة لدى أجيال المستقبل؟ أعترف بوجود تقصير في عملية جمع الشهادات الثورة التحريرية، فلا وزارة المجاهدين ولا المنظمات تستطيع تخليدها لوحدها لذلك لابد من مساهمة الجميع، قبل سنوات لم يكن بحوزتنا وسائل تساعدنا على تسجيل هذه الشهادات بكيفية علمية وبمنهجية محكمة، اليوم وزارة المجاهدين وفرت كل الوسائل المادية والبشرية لتسهيل العملية، وعلى مستوى المتحف الوطني للمجاهد نحن نعمل على إصدار سلسلة تاريخية ثانية باسم »من ذاكرة المجاهدين«، بعد تلك التي سبقتها في 2010 والتي حملت اسم »من أمجاد الجزائر«، وهي عبارة عن سلسلة تاريخية قصصية موجهة للأطفال في الطورين الأول والثاني ابتدائي والتي تركز على الفترة ما بين 1830 و1962 وتخص رموز المقاومة، ولقد تم تحريرها بأسلوب سلس وسهل وهي مشكولة وعدد صفحاتها يتراوح ما بين 15 و20 صفحة، ولقد تم إصدار قرابة 400 قصة تاريخية حول رموز الثورة طبعت منها 93 قصة بمعدل 100 ألف نسخة لكل قصة، تحت إشراف الوزير شخصيا، ولقد وزعت على 24 ألف مؤسسة تربوية، وكان المتحف الوطني للمجاهد قد شكل لجنتين علميتين لتولي عملية تصحيح هذه القصص التي يكتبها كتاب وتتولى اللجنة عملية التصحيح، وبالموازاة مع ذلك، أصدرنا سلسلة ثانية سمعية بصرية، وهي عبارة عن عملية إخراج لسلسلة الشهادات المسجلة بأستوديو المتحف في شكل شريط لمدة 13 دقيقة، من أجل خلق الرغبة لدى باقي المجاهدين للتقدم والإدلاء بشهاداتهم، حيث يقوم المتحف الوطني للمجاهد بتحضير الفيديوهات وتقديمها لوزارة المجاهدين ومن ثمة يتم بثها عبر القنوات التلفزيونية لتحفيز باقي المجاهدين فلا يوجد أحسن من الوسائل السمعية بصرية أو ما يعرف بالإعلام الثقيل لنقل هذه الشهادات والتعريف بها. ماذا عن أصدقاء الثورة، هل سجلتم شهاداتهم أم تكتفون بتصريحاتهم الرسمية خلال الملتقيات والندوات الدولية؟ هي موجودة، وزارة المجاهدين حرصت على نقل شهادات كل أصدقاء الثورة أينما وجدوا، لأن الوزارة سبق لها وأن نظمت ملتقيات دولية وكانت حريصة كل الحرص على عدم إغفال تسجيل كل الشهادات من أفواه أصدقاء الثورة سواء كعرب أو غير ذلك، وبالتالي فإن هذه الملتقيات تعد في عداد الشهادات خاصة وأنه قد تم تنظيمها بأسلوب أكاديمي علمي لا تعتريها أي شائبة بأن الشهادات موثقة وبالتالي هذا الرصيد من الملتقيات التي تمت تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية واشتراك وزارة المجاهدين يعتبر عملا له أهمية. على ضوء حديثكم عن أوضاع صحية غير مناسبة للمجاهدين ألا تعتقدون أننا في سباق مع الزمن وأن الوقت قد حان للتفكير جديا بتسجيل الشهادات، أو بعبارة أصح هل تأخرنا في ذلك؟ أريد أن أوضح أننا اليوم (الحوار أجري 10 أيام قبل 1 نوفمبر) نتحدث عن اللقاء الجماعي الثالث الذي كان وليد تفكيرنا بأنه يجب علينا أن نعجل، فاللقاء الجماعي الذي باشرناه منذ قرابة 20 يوما فقط يسمح بتسجيل عشرات الشهادات في الوقت الذي تعرف فيه اللقاءات التي تتم في الأستوديو باللقاءات الفردية والتي يتم خلالها تسجيل شهادة لمجاهد واحد فقط، وفي الأول كان اللقاء الجماعي يجمع ما بين 40 و50 مجاهد ليوم كامل مما تسبب في شعور الكثير من المجاهدين بالإرهاق إلى جانب صعوبة نقل كل الشهادات، ولذلك قمنا بتقليص العدد إلى 15 مجاهد بمعدل ربع ساعة لكل واحد لنصف يوم فقط، وهو ما توازيه الحصة الأسبوعية »موعد مع التاريخ« التي تنظم على مستوى الجامعات عبر الوطن وهي عبارة عن موعد مع مجاهد أو مشاهدة معرض أو فيلم تاريخي، وتتم اللقاءات الجماعية 4 مرات في الأسبوع وتجمع حوالي 60 مجاهد، وتتناول موضوعا معينا ومن ميزات هذه اللقاءات أن كل مجاهد يذكر زميله ويصحح مما يساعد على تقديم الشهادات بطريقة علمية وممنهجة لتسهيل العملية على المؤرخ، وبالمناسبة أدعو المجاهدين إلى الإدلاء بشهاداتهم فكل »من كتم الشهادة فهو آثم«، والعملية متواصلة ومن المحتمل أن يتم تعميمها من طرف الوصاية على باقي المتاحف والمركبات التاريخية في الوطن، لا يجب أن ننسى أننا ضيعنا الكثير لكن هذا راجع إلى الظروف التي مرت بها البلاد منذ الاستقلال أين كانت الأولوية آنذاك لإعادة بناء الوطن ولم نركز على جمع الشهادات بل على الأولويات كنا نعيش مجاعة، خراب ودمار حينها، أما الآن فلا بد من تحسيس الجميع مسؤولين أو غير ذلك من خلال وسائل الإعلام بضرورة كتابة التاريخ. بحديثكم عن وسائل الإعلام، ما هو تقييمكم للدور الذي تؤديه الصحافة والأحزاب السياسية في نقل رسالة التاريخ؟ لا بد من مساهمة الجميع في كتابة التاريخ من الصحافة، الأحزاب والمجتمع المدني الممثل في حوالي 70 ألف جمعية، كل هذه الهيئات لا بد أن تساهم وتتحول إلى منابر، كلما ابتعدنا عن تاريخ أول نوفمبر كلما زادت محاولات تكريهنا في تاريخ الثورة، ما يعني أن هناك من يسعي إلى تدمير ذاكرة الشعب، ويجب ألا ننسى ما قاله ديغول حين توعد بأن فرنسا ستعود يوما إلى الجزائر، ولهذا لا بد من تلقيح الأجيال بالتاريخ، وأوضّح هنا أنه إذا كان الجميع يلقحون بالمصل للحفاظ على صحتهم فلا بد من تلقيح الشباب الجزائري بالتاريخ للحفاظ على بلاده، أقول أن هناك تيار يسعى إلى تدمير الذاكرة الوطنية من الداخل والخارج، ولهذا لا بد أن نكون يقظين فهم يحاولون البحث عن أي منفذ يدخلون منها لتدمير الجزائر، وبالتالي لا بد من الحفاظ على تاريخنا لتحصين أنفسنا، ففرنسا لا تستطيع أن تهضم هزيمتها لحد الآن، وبالنسبة لدور الصحافة، لقد استبشرنا خيرا بالنظر للنهضة والصحوة التي حدثت في مجال الإعلام لكن لا بد من وضع عامل الزمن في الحسبان فنحن في سباق معه ويجب أن نعجّل في جمع الشهادات لأننا نملك الإمكانيات البشرية والمادية والوسائل، وعلى وسائل الإعلام أن تقوم بعملية التحسيس، لا بد من المساهمة ولابد من تنظيم حملات وطنية أو ما يعرف بالتيليطون لجمع الشهادات والوثائق، وأدعو الأسر التي تملك أشياء مادية من أسلحة ووثائق تعود لفترة الثورة إلى تقديمها وإيداعها لدى المتاحف المخولة بحفظ هذا التراث، أو على الأقل المحافظة عليها في حال فضلت الاحتفاظ بها للذكرى. هل لكم أن تحصوا لنا عدد زوار المتحف خلال الأشهر الماضية؟ بالنسبة لعدد زوار المتحف، لا بد أن نشير إلى أن المتحف الوطني للمجاهد يعد المتحف الوحيد في العالم العربي الذي يفتح أبوابه يوميا ومنذ أكثر من 20 سنة مضت، كما أنه ومنذ السنة الماضية وبالتحديد ماي 2014 وتطبيقا لتعليمة معالي وزير المجاهدين السيد الطيب زيتوني، تم تمديد فترة فتح المتحف إلى العاشرة ليلا، حيث تم تجنيد فرقتين للتناوب على أبواب المتحف المفتوحة من الثامنة إلى الرابعة مساء وأخرى من الرابعة إلى العاشرة ليلا، ولقد أحصينا 350 ألف زائر خلال السداسي الأول من 2015، مقابل 150 ألف مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية، لكننا نعتبر أن هذا الرقم يبقى غير كافيا انطلاقا من زخم التاريخ وعظمته فكان من المفروض أن نسجل ملايين الزوار يوميا، ربما يكون رقم 350 ألف مقبولا في باقي الدول لكنه مرفوض في الجزائر لأن الثورة الجزائرية هي الثورة الوحيدة في العالم، ولذلك لا بد من العمل على رفع هذا العدد وليس مضاعفته والقفز به إلى الملايين، وذلك عندما يتوفر الوعي والتحسيس، وتكون هناك اتفاقيات وبرامج مع المؤسسات التعليمية، ونحن نعمل ونحرص على أن يكون الإقبال كبير جدا . يضع المتحف في متناول الزوار سجلا لتدوين ملاحظاتهم وتعقيباتهم، هل تأخذون ما يتم تدوينه بعين الاعتبار؟ كل أسبوع وإن لم أقل كل يوم نحرص على تصفّح ما يسجله الزوار سواء كانوا مختصين أو غير ذلك في السجلّين الذين خصصتهما إدارة المتحف لزواره، وصدّقيني أننا نتلقى ملاحظات في المستوى وانطباعات الزوار نأخذها بعين الاعتبار، فالبعض يلفت نظرنا إلى بعض الأخطاء وهناك بعض الاقتراحات فيما يتعلق بأسلوب تجسيد المعلومات التاريخية، ونحن نحرص على إثراء المتحف، وهو متعارف عليه في جميع متاحف العالم، حيث نعمل على أن يظهر دائما بحلة جديدة وأنا اعتبرها ضرورة فلا يمكن أن تبقى معروضات المتحف جامدة وبشكل معين فيجب أن يتم إثراؤها وكل متحف في العالم لديه مخازن لتجديده، ونحن نعمل على عصرنة قاعات العرض.