ولمن يتأمل اليوم واقع المجتمع الجزائري، جيدا،فإنه يلحظ بكل سهولة، أن الجزائر انقسمت بالفعل إلي قسمين متمايزين، بشعبين مختلفين كل الاختلاف:فمن جهة هناك جزائر التغريبيين المتمسكين بقشور الثقافة الفرنسية والعاملين بكل ما لديهم من إمكانيات على ترسيخ الفرنسة بواسطة تدعيم اللغة الفرنسية في مجالات التربية والتعليم والثقافة والإعلام ، وإسناد جميع المناصب الحساسة في الدولة إلى ذوي التوجه التغريبي، وتهميش المعربين خاصة وذوي التوجه الوطني بصفة عامة . وفي جزائر التغريبيين، فإن الفرد ممسوخ تماما، إذ يزعم أنه جزائري لكنه يتنكر للغته الوطنية وللعروبة والإسلام معتقدا أنه يستطيع التموقع في المجتمع الفرنسي الذي يرفض استقباله خاصة وأنه جرب عملية الإدماج مع “الحركة والقومية وأيقن أنها غير مجدية”• وفي جزائر التغريبيين سعي حثيث لتغليب العربية الدارجة الممزوجة بالفرنسية على العربية الفصحى في الإذاعة خاصة، لا يبالي المسئولون على ذلك بأن جماهير الشعب الجزائري الثاني، وهو الأغلبية الساحقة، لا تفهم تلك اللغة وهي ترفضها باعتبارها لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي الاجتماعات الرسمية وفي الملتقيات والندوات التي تتحدد فيها مصائر البلاد تتم المناقشات بلغة فيكتور هيجو ، و ذلك يعني أن الذين لا يجيدون الفرنسية وهم أبناء المدرسة الأساسية غير معنيين بتسيير شؤون البلاد الذي يصبح عمليا، من اختصاص المستلبين الإمعيين المعمعيين المقتلعة جذورهم من حقل الحضارة والتاريخ• وفي الجزائر التغريبية، أيضا، دعوة إلى لائكية بلا معنى، وديمقراطية بلا أساس وتعددية سياسية شكلية وليبرالية اقتصادية فوضوية، كل ذلك لأن اللائكية في الجزائر المسلمة لا تجد التربة الملائمة لها، ولأن الديمقراطية التي ترفض الحوار وتدير ظهرها للمصالحة الوطنية ولا تعير وزنا لصناديق الاقتراع إنما هي فاشية وككل الفاشيات سيكون مصرعها على يد الطلائع الحرة في هذه البلاد ولأن التعددية السياسية والليبرالية الاقتصادية ستظلان حبرا على ورق ما لم تكن هناك حياة فكرية ونشاط ثقافي يترتب عنهما وجود سياسي• أما الجزائر الثانية فهي جزائر الأصالة، أي جزائر العروبة والإسلام، وهي الجزائر التي بشرت باسترجاعها جبهة التحرير الوطني ليلة أول نوفمبر 1954، وقبل ذلك كانت أطراف الحركة الوطنية تدعو إلى تحريرها وإعادة بنائها بوسائل مختلفة• وفي جزائر العروبة والإسلام تتموقع جماهير الشعب الجزائري في أغلبيتها الساحقة وبإطاراتها المتشبعة بإيديولوجية الحركة الوطنية الرافضة لجميع أنواع الهيمنة الأجنبية. ولأن هذه الجزائر تدرك أن السلطة الفعلية بيد التغريبيين، ولأنها تدرك ،كذلك ،أن إمكانياتها المادية خاصة لا تسمح لها بالمواجهة في الوقت الحالي، فإنها لجأت إلى المقاومة السلبية أي إلى الاعتزال عن السلطة التي لا تمثل طموحاتها في الحرية والسيادة والتي هي شبه جسم غريب يخدم فقط مصالح أطرافه ومصالح المحتل السابق• هكذا يعيش في الجزائر، اليوم ، شعب قزم قد لا تتعدى نسبته 15% لكنه يملك السلطة ويتصرف في الخزينة ، وشعب عملاق، يمثل الأغلبية لكنه مغلوب على أمره، يدفع الجزية ويعاني وضع المستبد به والمبعد عن التسيير بجميع أنواعه• ومما لا شك فيه أن جزائر الشعب القزم هي التي ما تزال فرنسية في كثير من جوانبها بدءا بنمط الحياة وانتهاء بالدفاع عن اللغة الفرنسية والعمل بجميع الوسائل على إبقائها في الجزائر، لغة الطبقة الراقية التي يختار من بينها المسئولون، ولغة التخاطب الرسمي رغم أن الدستور يمنع ذلك وينص على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية. والجدير بالملاحظة أن أغلبية أفراد الشعب القزم متجنسون بالجنسية الفرنسية دون أن يحرموا من الجنسية الأصلية التي يحتقرونها والتي لم يتخلوا عنها إلا لأن سلطات الضفة الشمالية لم تطلب منهم ذلك، وعندما يثار هذا الموضوع المزري أمام المسئولين في أعلى الهرم، فإنهم يحاولون إضفاء طابع الايجابية عليه زاعمين أن هؤلاء المتجنسين، حينما تضم أصوتهم إلى أصوات المتجنسين المقيمين في فرنسا، يصبحون قوة سياسية يمكن اللجوء إليها كورقة ضاغطة عندما يستلزم الأمر ذلك. وينسى هؤلاء المسئولون أن السلطات الفرنسية مؤهلة أكثر من السلطات الجزائرية لتوظيف تلك القوة لأغراض سياسة وغيرها.وقد حصل ذلك بالفعل ويمكن لمس بعض نتائجه في عملية فرنسة المحيط خاصة في الجزائر العاصمة وفي المدن الكبرى حيث لا يخفى نشاط القنصليات الفرنسية . ومن جملة النتائج أيضا عودة اللغة الفرنسية بقوة في دوائر السلطة الفعلية ببلادنا ومحاولة زعماء الشعب القزم فرنسة المدرسة الأساسية وقطاعات العدالة والأحوال الشخصية والإعلام والثقافة .كل ذلك ، في النهاية، يعطينا في أبسط تعبيره أقلية من التغريبيين في الحكم ميزتها الأساسية محاربة العروبة والإسلام في إطار من "العصبية العمياء" المبنية على حب الغرب الإمبريالي والتفاني في خدمته، وأغلبية ساحقة من أبناء الشعب المغلوبين على أمرهم بفعل الانتكاسة التي تعرضت لها ثورة نوفمبر 1954• وعلى الرغم من أن هذه الأغلبية تعاني اليوم سلبيات الحكم المفروض عليها بواسطة التخويف والتزييف، فإنها تضم في صفوفها طلائع من الإطارات الواعية التي ترفض الاستكانة وهي تعمل بكل ما لها من إمكانيات على تحقيق التغيير الذي يكون من شأنه إعادة قطار الثورة إلى سكته الطبيعية الآمنة . وقبل إقرار الفرنسيين أنفسهم بهذه الحقيقة ، فإن المتفرنسين الجزائريين لم يكونوا يقبلون مجرد اتهام "الاستعمار" بالإساءة لتاريخ الجزائر وبكونه في أساس الويلات التي يعيشها الشعب الجزائري حاليا وخاصة منها ما كان متصلا بالثقافة والدين والاقتصاد. كانوا وما زالوا يقولون ،كلما أتيحت لهم الفرص :"إن الاستعمار قد انتهى بمجرد وقف إطلاق النار في التاسع عشر من شهر مارس 1962،فلماذا تحملونه إفلاس مشاريعكم ؟ أم إنكم مثل الذين قيل فيهم قديما : "وقادرين متى ما ساء صنعهم أو قصروا فيه قالوا الذنب للحطب ". لقد كان الاستعمار الفرنسي في الجزائر احتلالا استيطانيا، لكنه لم تحتل، كغيره من الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية، أرضا مواتا في مناطق قليلة السكان ، بل إنه اختلق الأسباب لطرد قبائل بأكملها ليستولي على أراضيها الخصبة ثم سن القوانين الاستثنائية لنقل ملكيتها إلى الأوربيين . وبهذا الصدد،كتب الأستاذ غريد، نقلا عن السيدين " Chaliand et Minces في كتابهما " الجزائر المستقلة": إنه لا يوجد في العالم إلا مجتمعات نادرة جردت مثل المجتمع الجزائري اقتصاديا وسياسيا وثقافيا بحيث أتى الهدم ، فيما بعد ، على جميع المنشآت الحيوية ..كانت الجزائر هي فرنسا ، ولكن فرنسا التي أغلبية سكانها مواطنون من الدرجة الثانية ". أما السيد " Leroy Beaulieu " فإنه ذكر في كتابه "l'Algérie et la Tunisie " أن فرنسا ،سنة 1830، قد استولت على أرض كانت آهلة ومزروعة ومحمية بسكان كثيرين ومحاربين أبطال وعنيدين لهم حضارة متقدمة ". كل هذه الإقرارات من بعض الباحثين الفرنسيين المعاصرين، رغم ما تتسم به من فظاعة، تبقى بعيدة جدا عن الحقائق التي أوردها المعاصرون من أبناء الجزائر أمثال حمدان بن عثمان خوجه في عرائضه العديدة التي كان يرفعها تارة إلى وزير الحرب، المارشال سولت ، وتارة إلى ملك الفرنسيين نفسه . فإلى هذا الأخير،مثلا، كتب مستنجدا :"إن الجنرال كلوزيل لم يحط نفسه إلا باليهود الذين لا يستحون ولا يترددون أمام أي شيء ثم أطلق العنان للنهب واغتصاب الأملاك وسفك الدماء، وارتكاب الجرائم..تلكم هي الأعمال التي تتم في الجزائر..يا له من دستور ويا لها من قوانين ويا له من ميثاق هذا الذي يسير شؤوننا" . أما إلى المارشال"سولت"، فقد كتب بتاريخ الثالث من شهر جوان 1833 :" إن أول فعل بادرتم بارتكابه ظلما وعدوانا هو إيقاف القاضي والمفتي ونفيهما من أجل الاستيلاء على أوقاف مكة والمدينة وعلى المؤسسات الخيرية التي قد سعى في تأسيسها آباؤنا وجعلوها وقفا في سبيل الله وليكون مدخولها خاصا بالفقراء والمساكين واليتامى والأرامل حسبما يقتضيه نظام شريعتنا .. ولقد استوليتم على مساجدنا ومعابدنا ولم يبق للمسلمين من تلك الأماكن المقدسة سوى الربع فقط. أما الثلاثة الأرباع الأخرى، فإن بعضها قد سلم إلى كبار التجار الأجانب فحولوها إلى مخازن لبضائعهم ومستودعات لسلعهم واحتفظت السلطة بالباقي. ومن جملة ما هدم "جامع السيدة" وقد أخذت إلى فرنسا أبوابه الخارجية وأعمدته المر مرية ولوحاته الزجاجية الصينية وأبوابه الداخلية الرقيقة المصنوعة من خشب الأرز...