كان كل ما ضمناه الحلقات السابقة محاولة لتلخيص مختلف جوانب الشرط الأول الذي يجب أن يتوفر عليه كل من يريد أن ينعت نفسه بالنوفمبري. أما الشرط الثاني فيتمثل في الإيمان بضرورة العمل، بكل الوسائل" على تحقيق ثلاثة أهداف أساسية بالنسبة لنجاح الثورة في فترة الكفاح المسلح، وتواصلها مظفرة بعد استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة. وتلكم الأهداف، مشروحة بإيجاز، هي: أ - التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي، والقضاء على جميع مخلفات الفساد وروح الإصلاح. وبديهي أن النهج الحقيقي للحركة الوطنية إنما هو الكفاح بكل معانيه، وجميع أشكاله من أجل استرجاع الاستقلال الوطني. ومن حيث مفهوم الحركة الوطنية، فإن أطرافها، في الجزائر، ترى أنه ظهر بمجرد وقوع العدوان الفرنسي سنة ثلاثين وثمانمائة وألف، وهو يشمل، بكل بساطة، سائر أنواع المقاومة العسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ولقد ظل النضال بهذا المفهوم متواصلا إلى أن كان وقف إطلاق النار في التاسع عشر مارس سنة 1962. أما كتابات مدرسة التاريخ الاستعمارية التي تقرن بدايات الحركة الوطنية الجزائرية بقرارات الإصلاح الكولونيالي سنة 1919 ، فإنها نوع من تزييف التاريخ، وواحدة من وسائل تشويش الذاكرة الجزائرية، ومنع الوطنيين الجزائريين من إعادة الربط مع واقع دولتهم المعتدى عليها خاصة بعد التنكر للمعاهدة المبرمة في الخامس يوليو سنة1830. من هذا المنطلق،يكون القول:إن الحركة الوطنية الجزائرية إنما ولدت في فرنسا، في أوساط المغتريين هناك وبمساعدة الحركات الشيوعية المختلفة، ضرب من التزييف، كذلك، لأن العمل، بجميع الوسائل، من أجل استرجاع السيادة والاستقلال الوطنيين، بدأ مع بدايات العدوان الفرنسي، ولم يكن مقتصرا على النشاط السياسي، الذي كان مكثفا ومتنوعا ومتواصلا، ما في ذلك شك، لكنه شمل، وهو الأهم، الجانب العسكري الذي جعل أمثال المارشال بيجو يعترفون بشجاعة المقاتل الجزائري، وتمكنه من فنون الحرب، واستعداده للتضحية عندما يقتضي الأمر ذلك. وشمل،أيضا، الجانب الاجتماعي والفكري والثقافي والحضاري والاقتصادي، حيث أن العدو، الذي ظل، طيلة أكثر من قرن وربع، يوظف كل إمكانياته المادية والبشرية قصد تجنيس المجتمع الجزائري وإبادته، لم يتمكن سوى من تحويل جزء ضئيل من الجزائريين عن دينهم وعاداتهم وتقاليدهم، كما أنه لم يتمكن من منع سائر شرائح المجتمع من إرسال أبنائهم، في سن مبكرة، إلى الكتاتيب لحفظ القرآن الكريم . وأكبر دليل على ذلك أن الإحصائيات الفرنسية الرسمية لم تسجل، سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف، سوى خمسة وستين ألف جزائرية وجزائري " مؤهلين للحصول على الجنسية الفرنسية" حسب المعايير الكولونيالية. وحيث أن المناسبة لا تسمح بالتوسع في الموضوع، فإننا نكتفي بالتأكيد، اعتمادا على الوثائق، على أن الحركة الوطنية الجزائرية، بكل جوانبها، لم تتوقف عن النشاط الفعلي. ولولا ذلك لما وجدت الظروف ولما توفرت الشروط الموضوعية والضرورية لتكوين أمثال الحاج مصالي، وحسين لحول، ومسعود بوقدوم، وحسين عسلة ،وعبد الرحمان ياسين، وبلقاسم راجف، محمد بلوزداد، وفرحات عباس، والأمين دباغين، ومصطفى بن بولعيد، ومحمد العربي بن مهيدي، ومراد ديدوش، وحسين آيت أحمد، وأحمد بن بله، ومحمد خيضر، وبلقاسم كريم ، ومحمد بوضياف، ويوسف زيغود، وأحمد بوده، وبن يوسف بن خده، وما أطول القائمة. كل هؤلاء المسئولين الوطنيين المعاصرين تعلموا اللغة الفرنسية بدرجات مختلفة، لكنهم لم يكونوا، أبدا، فرنكوفونيين لأنهم كانوا، في تعاملهم مع الجماهير الشعبية الواسعة في المدن وفي الأرياف على وجه الخصوص، لا يستعملون اللغة الفرنسية. وكانوا، في برامجهم السياسية، يؤكدون على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وعلى أن الهدف الرئيسي من الكفاح الوطني إنما هو استرجاع السيادة الوطنية وإعادة بناء الدولة المعتدى عليها سنة 1830. وإذا كانوا يستعملون اللغة الفرنسية في التعبير عن آرائهم، فإن أفكارهم كانت وطنية ومناهضة لكل أنواع العبودية والتبعية، نستشف ذلك من افتتاحية العدد الأول للمجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، حيث جاء بقلم الشهيد رمضان عبان: إن النظام الاستعماري،حين عجز عن إبادة الشعب الجزائري، فإنه تكالب على نهب خيراته واستغلالها إلى أقصى حد، وعلى إبقائه مكبلا، إلى جانب الاعتداء على لغته ودينه وتقاليده. وفي وثيقة وادي الصومام ورد أن شمال إفريقيا كل لا يتجزأ بفضل الجغرافيا والتاريخ واللغة والحضارة والمستقبل. أما فيما يخص رواد الحركة الوطنية الجزائرية، فإن أقلام مدرسة التاريخ الاستعمارية لا تجهل أنهم كانوا جميعا مثقفين ثقافة عالية متمكنين من اللغة العربية، ومتشبعين بالحضارة الإسلامية، وكان من بينهم من يجيد لغات أجنبية أخرى كالإنكليزية والفرنسية. هؤلاء غير معروفين لدى أبناء الشعب الجزائري ومعتم على سيرهم لأن التاريخ الوطني لم يدرس ولم بدرس إلا من خلال ما أنتجته مدرسة التاريخ الكولونيالية. وللإشارة وتعميم الفائدة، لا بأس أن نعدد الأسماء التالية: الحاج أحمد باي بن محمد الشريف بن أحمد القلي، والحاج عبد القادر بن محي الدين الجزائري، وحمدان بن عثمان خوجه، ومحمد بن محمود المشهور بالعنابي أو ابن العنابي(1775- 1851 ) الذي هو من مواليد العاصمة والذي كان، كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن محمد الجيلالي شجا في بلعوم الاستعمار الفرنسي الجشع، ومصطفى بن محمد بن عبد الرحمن الكبابطي (1771 – 1860 ) الذي هو كذلك من مواليد العاصمة، وعلى غرار حمدان وابن العنابي، استفاد من النشاط الثقافي والفكري الذي ميز عهد الداي محمد عثمان، وأخذ عن علماء أجلاء أمثال ابن عمار وابن الشاهد والمفتي المالكي علي بن عبد القادر وغيرهم ، وإبراهيم بن مصطفى باشا الذي حكم الجزائر من شهر أكتوبر 1798 إلى شهر أوت 1805 والذي ترك بصماته واضحة خاصة في مجالي العلم والعمران. يكفي للتدليل على ذلك الرجوع إلى تلك القصور الفاخرة التي من بينها ذلك الذي يتربع حوله المستشفى الذي يحمل اسمه، مع العلم أن مصطفي بن إبراهيم هو أول روائي عربي على الإطلاق . هذه عينة، فقط، إذ لا نستطيع التعرض إلى جميع رواد الكفاح الوطني، فذلك يتطلب دراسات معمقة وبحوثا مطولة نتمنى أن تجد بعض العناية لدى المشرفين على البحث العلمي في بلادنا، خاصة وأن جل المثقفين الجزائريين المهجرين بكيفية أو بأخرى، سياسيين كانوا أم عسكريين وما أكثرهم، قد تركوا مخطوطات عديدة هي الآن مكدسة على رفوف مراكز المحفوظات العربية والأجنبية على حد سواء. وإذا كنا، اليوم، لا نستطيع التدخل في شؤون البحث العلمي لتوجيه الدراسات الأكاديمية الوجهة الصحيحة، وإذا كنا ندرك أن الذين بيدهم حق التوجيه، في الوقت الراهن، هم، في أغلبهم، من نتاج المدرسة التي تتنكر لجزائر ما قبل العدوان الفرنسي، وتباعا فهم، عن جهل أو عن خبث، لا يؤمنون بضرورة إعادة بناء الدولة الجزائرية المغيبة بموجب معاهدة الخامس جويلية سنة ثلاثين وثمانمائة وألف، فإننا لا نقوى على السكوت أمام المفاتيح المزورة، ونظل ندعو إلى بذل الجهود المكثفة لتقويمها، لأننا نعلم علم اليقين أنها، على ما هي عليه، لا تفتح أبواب الفهم الصحيح، ولا تساعد على كتابة التاريخ الوطني ولا على إعادة كتابته. أما فيما يخص القضاء على مخلفات الفساد، فإن النوفمبريين الجدد لا يمكن أن يكونوا من المؤمنين بهذه الفكرة، لأنهم، اليوم، يسيطرون على معظم المناصب الحساسة في الدولة بينما ألسنة الناس، في جميع أنحاء الجمهورية، لا تلهج إلا بمساوئ الرشوة التي عمت، والمحسوبية التي عادت تنخر جسم المجتمع بعد أن كانت الثورة قد قضت عليها نهائيا، والسرقة التي صارت ثقافة تميز سلوك المسيرين على وجه الخصوص، بل إن السرقة قد أصبحت عملة سائدة حتى في الأوساط الجامعية يمارسها معظم الطلبة والأساتذة على حد سواء. ويتحدث الناس، كذلك، عن انعدام الثقة بين المواطنات والمواطنين، واختفاء روح التضامن الذي كان، في يوم من الأيام، واحدة من الركائز المتينة التي ينبني عليها المجتمع خاصة في الأرياف. لقد أصبح الفساد، في بلادنا، شرا لا بد منه، فالمواطنون في كل المستويات، يتحدثون عن انتشاره في جميع الميادين، وعلى كافة الأصعدة.. يقولون إنه لصيق بسلوك أغلبية النافذين، ولم ينج منه حتى قطاع التربية والتعليم الذي مفروض فيه التحلي بكل ما هو حميد، لتوليه الإشراف على تكوين الأجيال المسئولة على بناء المستقبل الأفضل. إن النوفمبريين الحقيقيين ما زالوا أوفياء لما تضمنه أول بيان أصدرته جبهة التحرير الوطني، لكنهم لا يملكون الحول ولا القوة لمحاربة الفساد الذي يمارسه النوفمبريون الجدد متدثرين ببرنس التعددية الحزبية التي ليس لها من التعددية سوى المظهر. أما في الواقع، فإن النظام أحادي في القمة وفوضى في القواعد التي يحكم علاقاتها قانون الغاب المتأتي من روح الإصلاح الذي حل محل الثورة والذي هو صنو الذي دعا البيان إلى محاربة روحه. فالإصلاح المعني في بيان أول نوفمبر، والذي تسببت روحه في تخلف الحركة الوطنية الجزائرية، هو ذلكم الانسياق وراء القوانين الفرنسية التي كانت الإدارة الكولونيالية تصدرها من حين لآخر، ابتداء من سنة 1919، والتي كانت تهدف إلى زرع الشقاق في أوساط الوطنيين وجعلهم يجرون وراء السراب بدلا من الاستعداد للكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لتقويض أركان الاحتلال، وذلك عملا بمقولة: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. إن الإصلاح بهذا المفهوم قد استهوى عددا من مناضلي الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية ممن كان لهم مستوى عال من التمدرس وجامعي في بعض الأحيان، فاعتقدوا أن التعاون مع من كانوا يسمون بالفرنسيين المتحررين، والمشاركة، إلى جانبهم، في الانتخابات البلدية والجهوية والبرلمانية، تحت مظلة السيادة الفرنسية، تشكل طريقا إلى التخلص من الهيمنة الاستعمارية. ومع مر الأيام والشهور تضاعف عدد أولئك »الإصلاحيين«، وأصبح لهم تأثير خاصة في اللجنة المركزية والمكتب السياسي لحزب الشعب الجزائري، واستطاعوا، بعد أن وضعت الحرب الإمبريالية الثانية أوزارها، أن يدفعوا إلى الخيار الانتخابي والابتعاد، مؤقتا، عن خيار العنف الثوري، متسببين بذلك في تقهقر الحركة الوطنية بمعناها الضيق الذي كان، قبل الانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح، يعني، فقط، حزب الشعب الجزائري بواجهاته الثلاث. وإذا كانت روح الإصلاح، في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، قد تسببت، فعلا، في تأجيل إشعال فتيل ثورة التحرير الوطني، فإن الإصلاح الذي رفع شعاره بعد مؤامرة أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف، بدافع من نفس التيار التغريبي الذي كان في أساس تفجير حزب الشعب الجزائري، قد تسبب في إجهاض ثورة نوفمبر، وإن روحه، اليوم، هي التي تواصل العمل قصد توفير الشروط الموضوعية لعودة الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر بألوان جديدة يأتي في مقدمتها المسخ الثقافي والاستلاب الفكري والتبعية بكل أنواعها. لكن الذي يحز في النفس أكثر من كل شيء هو أن يلحظ المرء تقهقر الحياة السياسية في مستهل القرن الواحد والعشرين، وعجز المسئولين عليها عن الارتقاء إلى مستوى القياديين السياسيين في جزائر الخمسينيات حيث يقرأ الدارس، في بيان" هورنو" الصادر بتاريخ السادس عشر جويلية عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف: " إننا إذ نرفض الإصلاحات إنما نحارب الاستعمار الجديد الذي يمارسه " جاك شوفلي" بكثير من الليونة والذكاء"...وللحديث بقية