اتخذ الرئيس أنور السادات قراره بفتح قناة السويس للملاحة البحرية بعد تطهيرها، وبدون أن يحصل من الغرب على مقابل لهذه العملية التي كان الأوربيون ينتظرونها بفارغ صبر، ويقول وزير الخارجية المصري أن السادات طلبه هاتفيا ليطلب منه الاتصال بالأمريكيين طالبا منهم إرسال سفينتين حربيتين أمريكيتين للاشتراك في القافلة (..و) ظل يصْرخ معربا عن مخاوفه ((..بدون السفن الأمريكية لا أستطيع العبور، إنهم سوف يطلقون عليّ النار، إنك لا تعرف الإسرائيليين يا إسماعيل)) (..) ويواصل فهمي قائلا أنه اتصل بالسفير الأمريكي (( لأنقل له رغبة السادات، ولم يستطع هيرمان أيلتس أن يُخفي ردّ فعله وبدأ يضحك ( ص 111) ... كان خوف السادات من الإسرائيليين ورغبته في العظمة الشخصية يكشفان عنه كزعيم يبعث على الضحك، وإلى حد ما ..على الشفقة (..) هذا الرجل المُضحك أوقع الكثير من الضرر بمصر)) وهكذا افتتح السادات قناة السويس تحت حماية السفينة الأمريكية : ليتل روك. ويُقرر كيسنجر لقاء السادات في أسوان للتفاوض المباشر معه، والتخلص من مسرح جنيف بما فيه الأممالمتحدة والمؤتمر الدولي والقوى العظمى والأصدقاء والأعداء. وواقع الأمر أن لقاء جنيف حقق أهدافه بالنسبة لواشنطن وتل أبيب، فقد تم لقاءٌ علنيّ على مستويين سياسي وعسكري بين العرب وإسرائيل، وهذا معناه، كما يقول هيكل، أن ثغرة كبيرة قد فتحت في جدار الرفض العربي، وكان عقدُ اللقاء قبل الانتخابات الإسرائيلية، بما حققه من نجاح لإسرائيل، دعما لحزب العمل وفقا لتمنيات كيسنجر، وأدت عملية جنيف إلى عزل الدور السوفيتي عن التسوية. وكانت العثرة الرئيسية التي توقف عندها المؤتمر مسألة الانسحاب المتبادل، حيث رفضت إسرائيل تمسك مصر بخط المضايق كحدّ لا يُمكن التنازل عنه، وكان هذا هو ما جعل وزير الخارجية الأمريكي يقرر تجاوز جنيف، فأمله في انتزاع مواقف مصرية ترضي إسرائيل مضمون بحكم علاقته مع السادات وتأثيره عليه. وفي أسوان يُمارس كيسنجر خبثه المعتاد، فيطلب من السادات، ومقابل انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية للقناة، أي منطقة الثغرة وطريق السويس، أن تقوم مصر بسحب متوازن في حجم القوات من الضفة الشرقية، التي عبرت إليها القوات المصرية بأداء رائع متميز وبتضحيات كبيرة من الدماء والأشلاء والمُعدّات. ويقول وزير الخارجية الأمريكية موضحا ذلك بأن ((الخطوط المصرية سوف تبقى في مواقعها، وهو ما يعني أن موقف السادات سيظل قويا أمام شعبه وحلفائه، وكل ما سيحدث هو تخفيف في الكثافة بالنسبة لحجم الأفراد وكمية السلاح ونوعيته، ولن يعرف أحد على الإطلاق بكل ما سوف يحدث داخل الخطوط المصرية، وهو (كيسنجر) يتعهد بأن يظل الأمر سرّا، ولن يعرف به إلا القوات العسكرية المصرية، وبالتالي فإن الأمر سهل جدا، اللهم إلا إذا كان الرئيس السادات غير مطمئن لقبول الجيش المصري قراراته)) !!??. وكان فخا خبيثا وقع فيه السادات، الذي لا أسمح لنفسي هنا، احتراما للشعب المصري، أن استعمل الوصف المناسب له، وهكذا ردّ على الفور، وقد حركته الكبرياء والعنجهية التي استثارها كيسنجر عمدا : ((إن جيشي يطيع أوامري، وقيادتي سوف تنفذ أي أمرٍ أصدرُه لها)). ويلاحظ أن محاولات الجانب العربي إخفاء ما يعرفه العدو من تنازلاته والتستر عليها أمام شعبه الذي يلتف حوله ويهتف له يجعله رهينة لابتزاز الخصم المرابي، فيطالب بتنازلات جديدة، مهددا، بشكل أو بآخر، بفضح موقف المسؤول العربي، وهو ما كان المفاوض الأمريكي يعرفه ويحاول استغلاله بكل وسيلة ممكنة وفي كل ظرف مُتاح. وهكذا ينتهز كيسنجر الفرصة فيسجل قبول السادات لتصوره ويقول له بأنه ((يلتزم بأن يحصل الرئيس المصري على ثمن كافٍ لهذا التنازل الضخم الذي يرجو أن يعتبره تنازلا له وليس لإسرائيل)) ثم يخرج من حقيبته وثيقة كانت معدة للتوقيع، وتتضمن أساسا تجريد الجيش المصري من قوته الضاربة التي يمكن أن تهدد إسرائيل أو تلزمها بأي انسحابات لا تريدها، وكان من بين ذلك حظر وضع قوات مدفعية وصواريخ دفاع جوي ( أكرر ...دفاع جوي، وليس صواريخ هجومية) في المنطقة التي تمد 30 كيلومترا غرب القناة، أقول...غرب القناة. وكان هذا هو ما قبله السادات، وصُدم به واحد من أبرز الأبطال الحقيقيين لحرب أكتوبر، وهو الفريق عبد الغني الغمسي عندما بلغه نبأ اتفاق لم يُستشر فيه، وافق عليه البطل الزائف المتعجل لركوب سيارة مكشوفة يتلقى فيها هتاف الجماهير، تماما كما تنبأ دايان. انزعج الفريق، وسالت دموع الكبرياء من عينيه وهو يسمع مع آخرين، في حين أنه المعني الأول، عن الاتفاق الذي قبِله الرئيس السادات مع كيسنجر بدون استشارة القيادة العسكرية أو القيادة الديبلوماسية أو حتى القيادة الإعلامية التي كان يتولاها كل من عبد القادر حاتم من الجانب الإداري ومحمد حسنين هيكل من الجانب السياسي، وشعر الجنرال المصري العظيم بأن شرفه وشرف الجيش المصري قد تعرضا لإذلال شديد، فقد نزل الاتفاق بالقوات المصرية، التي عبرت القناة بنجاح رائع وبحجم بسيط من الخسائر في الأرواح، حيث لم تتعد الخسائر، كما يروي محمود رياض، 280 شهيدا، في حين كان تقدير القيادة عند بدء التخطيط للحرب سقوط عدة آلاف، وكان العبور بقوة جيشين من 150 ألف رجل و 1200 دبابة و 2000 قطعة مدفعية، وضاع هذا كله بقبول السادات لمشروع كيسنجر الذي هبط بالقوات المصرية شرقي القناة، كما يقول هيكل ويؤكده إسماعيل فهمي (ص 102) إلى 7000 رجل و 30 دبابة (وكان كيسنجر يتوقع ألا يقل عدد الدبابات التي يصر عليها الرئيس المصري عن 250 دبابة) وستة بطاريات مدفعية لا يزيد مداها عن 12 كيلومتر، وجرى تجريد منطقة المواجهة الفاعلة في الضفة الغربية للقناة من صواريخ الدفاع الجوي ومدفعية الميدان الثقيلة. ويقول الرواة أن الفريق الغمسي قام على الفور من مقعده وتراجع إلى ركن قصي أطلق فيه العنان لدموع كبرياء لم يستطع أن يكبحها، فقد جاءته الضربة من رئيسه والقائد الأعلى لقواته العسكرية، الرجل الذي سيرتدي زي الماريشالية ويحمل عصاها، وكأنه روميل أو مونتغومري، وهو زي استلهم السادات في تصميمه الزي الألماني، ليكون زيّاً متناسبا مع لقب بطل الحرب، الذي سيضاف له فيما بعد لقب بطل السلام، وهو ما سوف أتحدث عنه في حينه. ولم ينس كيسنجر وهو يغادر أسوان أن يطلب من السادات سرعة الحركة في رفع حظر البترول عن الولاياتالمتحدة، لأن ذلك سوف يُشجع الرئيس نيكسون ليكون أكثر حزما مع إسرائيل، كما طلب منه أن يرتب جدّيا لإعادة تعمير مدن القناة، وهنا طلب السادات من الوزير الأمريكي أن يساعده في تعميرها، وطلب منه أيضا أن يزور دمشق لتهدئة الرئيس الأسد، حتى لا يثير ضجة تؤدي إلى التشويش على ما وصلت إليه اجتماعات أسوان (أي أن خلفية السادات لم تكن مساعدة حليفه، موسوليني كما كان يسميه، لانتزاع بعض حقوقه، وإنما تفادي حدوث ضجيج يؤثر على ما أدّت إليه إملاءات الوزير الأمريكي على الطرف المصري في أسوان) وهكذا، والقول دائما لإسماعيل فهمي (( تنازل السادات عن كل المكاسب التي حققها الجيش المصري (..) وخضع لما فرضته إسرائيل من تخفيض الوجود العسكري في شرق القناة إلى حجم غير ذي قيمة، وأصبح بإمكان غولدا مائير أن تدّعي بأنها أعادت الوضع تقريبا إلى ما كان عليه قبل العمليات العسكرية التي انطلقت في السادس من أكتوبر عام 1973، ولم تكن تلك التنازلات تعكس مقدرتنا العسكرية، بل تعكس خوف السادات من أي قتال جديد، فهو لم يكن مستعدا بأي صورة مهما كانت لكي يصطدم من جديد بإسرائيل (وهذا يؤكد ما أشار له محمود رياض) وقد دفعه الخوف من تجدد القتال إلى الموافقة على مطلبين إسرائيليين غير مدرجين في الاتفاق الأصلي، وهما إعادة فتح قناة السويس وتعمير المناطق التي دمرت غرب القناة، وكانت هذه كلها ضمانات إضافية لإسرائيل، حيث أن استثمار مصر أموال وجهد لإعادة فتح القناة وإعادة بناء مدنها سوف يجعلها تتردد قبل أن تستأنف أي عمليات عسكرية (..) كما أن مكانة السادات الدولية سوف تتأثر بصورة سيئة إذا أعيد غلق القناة (..) وهكذا يكون من الأسهل لإسرائيل أن تشعر ببوادر الحرب في فترة مبكرة)) (وأرجو أن يكون هذا في الأذهان عندما نستعرض تراخي النظام المصري في تعمير منطقة سيناء والذي كان سيكون بالنسبة لمصر، لو تم إنجازه، حاجز كثافة سكانية تواجه أي محاولة إسرائيلية وتثبط عزيمة الغزاة، وإنذارا مبكرا بأي عدوان أرضي محتمل لن يكون في حاجة لأجهزة إنذار إلكترونية لأنه سيعتمد على العين المجردة للمواطن) ويقول هيكل (ص 281) بأن كيسنجر كان يقول لكل من يُقابله أن ((السادات يملك مرونة هائلة في اختيار مواقفه، فهو غير مقيد بتوجهات الرأي العام العربي، وإنما يهمه الرأي العام المصري، وهو يستطيع التحكم في توجهاته بوسائل الإعلام المحلية)) ولعل مما ساعده على ذلك إلى أقصى حدّ عنصران رئيسيان، أولهما قوة الإعلام المصري الحكومي والتزامه المطلق بتوجهات السلطة، وهو ما يجعل منه أحيانا أكثر ملكية من الملك، أما الثاني فهو عنصر الوفرة الكبيرة للمادة الإعلامية المحلية التي تجعل المواطن المصري يكتفي بها ولا يبحث عن وجهات نظر مخالفة، وبهذا لا يسمع إلا صوتا واحدا هو صوت أبواق السلطة. وسنجد عبر التاريخ أن هذين العنصرين سيتحكمان إلى حد كبير في وضعية العلاقات المصرية مع الوطن العربي.