لروابط أسرية التقيت به، وهو العائد في التو من دراسته ما بعد التدرج، استدرجته في الحديث عن الفساد مستهلا كلامي بسؤال تقليدي عن وضع البلاد التي كان بها، ثم رحت أتطرق إلى إعلان رئيس الجمهورية الجزائري الحرب عن الفساد صائفة هذا العام والذهاب إلى إنشاء جهاز لمكافحة هذه الظاهرة الفتاكة، معتبرا أن المبادرة تدخل في خانة الإرادة السياسية الشجاعة التي كثيرا ما افتقرنا إليها . بكل رزانة وبثقة كبيرة في النفس، وبمنطق العارف رمقني بنظرة لها من اللطافة ما يبعث على أن لصاحبها إلمامًا بالموضوع، ثم قال : أي نوع من الفساد تقصد؟ قلت: فيكن كلامنا اليوم عن الفساد السياسي. ابتسم ثم قال: الفساد مسألة عويصة وشاقة لتشعبها وصعوبة التحكم فيها لما للفساد من علاقة وطيدة في حياة الناس اليومية، وبالأخص الفساد السياسي الذي يعني رج وهز أركان أي أمة كونه يلتصق التصاقا مباشرا بالأخطاء الإدارية وعيوب الأنظمة، بمعنى أنه التعسف في استعمال السلطة، والسعي لتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة، إنه الرشوة، المحسوبية، ابتزاز الآخر، الاحتيال، المحاباة، بل أنه كذلك ما ينتشر في المجتمع من الانحرافات والموبيقات كاستهلاك المخدرات والاتجار بها، الدعارة، الجريمة المنظمة، غسيل الأموال، التطرف في الرأي، الغلو في استخدام السلطة، وكل ما يخضع لرغبات جماعات المصالح التي تبنى أساسا على الأموال المشبوهة، التي من الضرورة أن تخلق لها ظروف ملائمة، وتوفر أجواء مناسبة ومعايير للتحكم في دواليب الحياة والسيطرة على كل حركة فيها . ثم أردف وإذا ما عمت مثل هذه الظواهر، ووجدت مناخا لتناميها بسبب احتضانها من جل الناس الذين وإن اختلفت ممارساتهم لها، فإن نتائج تحصيلهم توحد بينهم، وهم يعملون متضامنين متعاونين متماسكين، وفي سرية تامة يصعب المسك برؤوس خيوطها لتعفن المكان والزمان الذي يهيأ لأداء طقوس تعريض سيادة القانون للانحراف، وفساد الإدارة، وإضعاف القدرات المؤسساتية العمومية، وإضعاف الجهود الصالحة، وكل ما يبذل من أجل المصلحة العامة التي يجب أن تبقى فوق كل اعتبار، وعلى أي حال فالفساد يبقى هو البرنامج الحاضر الغائب عند كل الحكومات . ولما أراد أن يكتفي بهذا القدر ويتوقف عن الكلام، اقتحمته قائلا: إذا كانت أنواع الفساد ومقاييسه في المجتمعات معروفة، والظروف المواتية التي يعشش فيها واضحة، فما هي تأثيراته على النما الاقتصادي . الفساد أخطبوط خطير إذا ما حل بمجتمع أتى على كل شيء فيه فيلبسه رغما عليه لبوس الانكسارات كونه يحتوي على كل جراثيم وفيروسات الانحلال والعطب فيصيب بآفاته الأفراد والمؤسسات، ما هو خاص، وما هو عام . ومن ثمة يؤدي إلى تقويض أركان الاقتصاد، فيشوه صورته بالزيادة في التعقيدات التي تعتبر الممر الرئيسي لتفشي ظاهرة الرشوة كتعاملات إضافية غير مشروعة تحسب على تقديرات المشاريع ومقدرات العاملين على الإنجاز . يسود الغش فيهوي بعصاه الغليظة على البرامج فيطيح بفعالياتها، وينزل من شأنها فتهوى صروحها وتسقط أسوارها، فتظهر على السطح مقاولات غير مؤهلة وتبرز تضخمات النفقات التجارية، إنه بصفة عامة الوجه الحقيقي للتردي، والضاغط الذي لا يرحم الميزانية العامة للأمة . قبل أن يغادر قلت: والحل، قال: إن فات مات و " الوقاية خير من العلاج" يجب أن نعمل على حماية ما بين أيدينا، قبل أن يهلكه نخر سوس الفساد، فيقضي عليه بصفة نهائية، وذلك بالبحث عن جذور الفساد في المجتمع، والقيام بحفريات معمقة من أجل اجتثاثها من أصولها، حتى لا تعود إلى النبت من جديد لمجرد مرور مسؤول، أو إعلان مقاومة، أو شن حرب ظرفية. إن الحرب على الفساد تتوجب الحكمة والإخلاص والنزاهة ومراقبة دائمة وتقويم مستمر، والقاعدة الصلبة لذلك هي وضع الأمور في نصابها والأشياء في مواضعها، وتطابق العمل مع القول وتجاوب الإنجاز مع التخطيط، وحماية ذلك من المفسدين، فالاستعانة بالمجتمع، الذي يجب أن يتحمل مسؤوليته كاملة إذا ما أراد فعلا وبجدية أن يبني مستقبلا زاهرا مرتكزا على قناعته المستمدة من أصوله الأولى، التي تتحلى بتكاثف الجهود والتضامن والتآزر، ويتوج ذلك بالتمسك بالعدل الذي لا يتحقق إلا بالإستقامة ... !؟