ما يحدث في محيطنا القريب استثنائي وتاريخي بكل المقاييس، ويكفي أن رسائله تتدفق دون انقطاع، وهي تؤكد للمرة الألف أن الأنظمة التي راهنت على الخبز قبل الحرية سقطت، لأنها بالأساس فشلت في توفير الخبز والحرية معا. تبدو الصورة من حولنا واضحة، والمطلوب هو المضي في الإصغاء الجيد لتلك الرسائل البليغة التي تصلنا من هنا وهناك، وهي تدعونا إلى أن ننتبه بكل قدراتنا على الانتباه وأن نستمر في تحقيق الاصلاحات السياسية، التي هي مهمة لا تحتمل التأجيل. إن الجزائر تشهد حالة سياسية نادرة، إذ فيها عشرات الأحزاب ولا توجد فيها حياة سياسية، إلى درجة أن هناك زعماء أبديين على رأس تلك الأحزاب الميتة، وفيها انتخابات تشريعية ومحلية، مع ذلك فإن المشاركة السياسية ضعيفة. لنا أن نتساءل في هذا السياق عن غيرة الناس على الصالح العام وهي المفقودة، تقول الاحصائيات إن الجزائر عرفت في السنة قبل الماضية إحدى عشر ألف احتجاج على المستوى الوطني، مما يؤكد أن العديد من الفئات تنتفض وتلجأ إلى الإضراب لكي تضغط على السلطات العمومية دفاعا عن مصالحها، إلا أن الملاحظ في هذا الحراك هو أن الشأن الخاص يطغى على الاهتمام بالشأن العام. يجب الإقرار بأن السياسة في بلادنا كادت تحتضر، لذلك وجدت الأحزاب نفسها تبحث عن وظيفة، ووجد الشباب أنفسهم في حالة استقالة من الشأن العام وبكل ما له علاقة بالسياسة والانتخابات. إذن، هناك مهمة عاجلة تقتضي إرساء دعائم مشهد سياسي وإعلامي مفتوح وخلق مساحات للتعبير وفضاءات للحوار، تعيد الحياة للسياسة وتوفر شروط انخراط المجتمع فيها وتسهم في قطع الطريق أمام أية محاولة لإشاعة الفوضى. إن إعادة بناء الثقة هي من أولويات المرحلة الجديدة، وهي لا تأتي بقرار ولا تقرض بأمر، بل هي ثمرة إرادة سياسية، وهي في النهاية إحساس عميق لدى المواطنين بأن الجزائر هي حقا لأبنائها جميعا، الموالين والمعارضين، وليس للبعض دون البعض. ولا تتحقق الثقة إلا بشعور الجزائريين بأنهم أحرار في وطن حر، يشعرون بالأمان، لا يرهبهم "رقيب" مجهول ولا تخيفهم سطوة ظالم مستبد. ولن تتحقق الثقة بادعاء السلطة أنها معصومة وأن المعارضة على خطأ وضلال، بل تتحقق برضى الجزائريين واحترام كرامتهم، ذلك أن المواطن المقهور في إحساسه ب "أمومة" الدولة هو قنبلة موقوتة، إذ لا انتماء للدولة إلا إذا انتمت هي إلى مواطنيها. لقد سقطت حالة الطوارئ، مما يعني دخول الجزائر مرحلة جديدة، يجب أن تكون فيها الاستجابة قوية وسريعة لآمال الشعب في تكريس حريته وكرامته، ذلك أن شعار "دولة قوية ومواطن ضعيف" لم يعد له مكان، لأنه في نهاية المطاف لن يؤسس إلا لأزمات قادمة، وهو أشبه ما يكون بالجمر تحت الرماد. إن الشروط الموضوعية ناضجة للقيام بإصلاحات عميقة، فنحن أمام طلب واضح وشروط مساعدة وإرادة سياسية فعلية أكدت تجاوبها مع مطالب الشارع في الكثير من القضايا، من خلال اجراءات متسارعة باتجاه الشباب والمجتمع، ويبقى أن تتواصل تلك القرارات الشجاعة لدعم ما تحقق، وبما يضمن الاسهام بقوة في تحرير المبادرات السياسية، رفع سقف الحريات، تعزيز حرية التعبير، محاربة ثقافة الحقرة، وضع حد للفساد وتحقيق العدل. قرأت مرة عن "القاضي الذي يتحدى السلطة" - وهو بالتأكيد في دولة هناك- وقلت بيني وبين نفسي، لماذا لا يكون لدينا نحن أيضا ذلك القاضي، النزيه والشجاع وغير المرتشي، الذي يتناول "الملفات الساخنة" بشجاعة وصرامة والذي يقول:"لا" عندما يقتضي الأمر ذلك، لا يجامل ولا يخضع إلا للقانون. بالتأكيد هناك قضاة شرفاء، يرفضون أن يلوثوا مهنتهم النبيلة، لأنهم يؤمنون حقا بأن "العدل أساس الملك"، وكذلك هو الشأن بجهاز الأمن، إذ يجب أن يصبح الشعار المرفوع هو " الشعب والشرطة في خدمة القانون"، وكذلك هو الأمر بحماية المال العام إذ هناك، في الدول التي يخاف مسؤولوها من شعوبهم ويخضعون للحساب والمساءلة، يضفون على المال العام حرمة تكاد تبلغ حد التقديس. ماذا لو ألقينا السؤال على كل من تولى منصبا وخرج منه بغنائم لا تحصى، كيف تكون النتيجة؟ أليس المطلوب هو تفعيل تقاليد لممارسة الرقابة الشعبية على أوجه الانفاق العام، التي تعد الضرائب المدفوعة من الناس أحد المصادر الأساسية له، بكلام آخر، لا ينبغي أن يكون هناك من هم أكبر من القانون وفوق الحساب. إن الجزائريين، كل الجزائريين مع الدولة القوية عندما تضع قوتها في خدمتهم وتكرسها للسهر على أمنهم وحماية حريتهم وتشجيع طموحاتهم، ومن هذا المنطلق فإن هيبة الدولة يصنعها رضى المواطنين وهي تنتزع انتزاعا، ليس بالقوة بل بالجدارة. لقد رفعت حالة الطوارىء - وتلك خظوة إيجابية - والمأمول هو إعلان طوارىء من نوع آخر، تستدعي التفكير بصوت عال في قضايانا المصيرية بهدوء ورزانة، وهو ما يقتضي، في المقام الأول، استدعاء المجتمع لكي يقوم بدوره كاملا وبعث الحياة في السياسة، من خلال فتح أبواب ونوافذ الحرية بلا حواجز ولا حدود. إن الهدف الأهم هو الإقدام عل مزيد من الاصلاحات السياسية، إذا شئنا تجنيب الجزائر هزات وويلات والعبور بسلام من حالة القلق بأهوالها إلى رؤية المستقبل بأحلامه. أول الكلام " غّير نفسك تغيّر التاريخ"