أن يأتي التغيير اليوم أفضل من ألا يأتي أبدا وأن يكون هذا التغيير بإرادة الدولة القوية أفضل من أن يفرض عليها بالعنف والإكراه. تلك هي الرسالة القوية التي تصلنا من مصر، وقبلها من تونس، تؤكد علينا في كل حين أن الشعوب العربية قد كسرت كل الحواجز ووضعت الخوف وراءها وقررت ألا تعود إلى القيد من جديد. من منا لا يتذكر صرخة ذلك المحامي التونسي، الذي اخترق حظر التجول ووقف وحيدا في عز الليل في ذلك الشارع الموحش وهو يهلل بأعلى صوته: « بن علي هرب.. بن علي هرب..»، إنها النهاية المخزية لأولئك الذين اختطفوا أوطانهم وسرقوها، فإذا هم مهزومون وهاربون من شعوبهم. وهل هناك ما هو أسوأ من ذلك السقوط المدوي لرئيس مصر، الذي – كما يقول الكاتب حسنين هيكل- « سواء سقطت رئاسة حسني مبارك أو لم تسقط، فإن هذه الرئاسة انتهت بأي معيار، لأنها ببساطة فقدت أي بقايا للشرعية، ذلك أن للشرعية علامات وأمارات: مكانة وهيبة، وهذه تداعت أمام جماهير الداخل وأمام المنطقة وأمام العالم، لم يعد في مقدور أحد أن يقدم نفسه للناس ممثلا لمصر ورمزا لها.. « . لقد أسقطت ثورة المحرومين والمضطهدين القناع عن أنظمة يتحالف فيها الفساد مع الاستبداد، ثورة أيقظت الشعوب وكسرت القيود وأرهبت الحكام، حيث امتدت رياح الغضب والسخط إلى أكثر من منطقة في عالمنا العربي، لإحداث تغيير يمس الجذور والأصول. بعد تونس ومصر، الكثير من الأنظمة العربية مرشح وبنفس الدرجة لثورات التغيير، مادامت الأسباب قائمة.. استبداد بلغ الذروة، دول اختصرت في أشخاص، تكميم لكل الأفواه، لا رقابة ولا محاسبة، فساد جعل رغيف الخبز وجرعة الماء وفرصة العمل غاية وأمل الملايين، برلمانات لا تحتمل وجود صوت معارض، أنظمة معزولة لا ترى ولا تسمع ولا تشعر بأنات الجياع والمظلومين والقابعين في سجون القهر. إن حالة مصر هي التي تتصدر واجهة الحدث، لكنها بالتأكيد لا تنفرد بتلك الصفات، فهي تنطبق أيضا على أقطار عربية أخرى، فالأزمة تكاد تكون واحدة في أغلب تلك الدول، ولكن تفاصيلها مختلفة في كل منها، أزمة الحريات واحدة وكذلك احتكار السلطة وتفشي الفساد وتفاقم المشكلات الاجتماعية، من البطالة إلى السكن إلى الفقر الذي يطحن الناس ويخنق فيهم الأنفاس. إن الذي لاشك فيه هو أن أحدا لا يتمنى أن تواجه الأنظمة العربية ذات المصير الذي واجهه رئيس تونس الهارب من شعبه ورئيس مصر الذي تدعوه الملايين إلى الرحيل، لكن الأمنيات وحدها لا تكفي، حيث أن طريق الأمن والاستقرار معلوم، وهو لا يكون إلا من خلال الإصلاح السياسي الحقيقي، ومن خلال الالتزام بمبادئ الممارسة الديمقراطية، ومن خلال الرضا والقبول الطوعي من الشعب، ومن خلال تطبيق العدالة في توزيع الثروة وإرساء دعائم دولة الحق والمواطنة والقانون. قد يقول قائل إن ما يحدث هناك لا يمكن أن يتكرر في الجزائر، وإن الذين يتحدثون عن احتمال انتقال العدوى إلى بلادنا يعبرون عن أمنياتهم الخاصة، وذلك صحيح، لكن الصحيح أيضا هو أن الإقرار بنفس الأوضاع هنا وهناك ينطوي على مغالطة كبيرة. إن الجزائر وبما تعرضت له من امتحان قاس منذ نهاية الثمانينات، وبما حققته من استقرار ومن إصلاح تلو الإصلاح، سواء على مستوى هياكل الدولة أو العدالة أو المنظومة التربوية، أو بواقع التنمية المتوازنة والتعددية الإعلامية والحريات وحقوق الإنسان وتوزيع الثروة الوطنية، كل ذلك يجعلها تعيش أوضاعا نوعية تختلف في الكثير من تفاصيلها وجزئياتها عن كثير من الدول العربية. إن الأحداث التي تعرفها بعض الدول العربية، تؤكد أن الأنظمة الفاسدة، حين تمعن في إغلاق الأفق السياسي أمام شعوبها فإن لغة الشارع تصبح هي الخيار الوحيد. إن الذين يرفضون الاعتبار من هذا الحدث التاريخي، الذي تصنعه الشعوب، هم خارج التاريخ، لأنهم أبعد ما يكون عن نبض الشارع ولأنهم قد أغلقوا العيون وصموا الآذان، وبالتالي فهم يخطئون دوما في قراءة الأحداث قراءة سليمة واستخلاص دروسها الصارخة، ولذلك فإن الذي يحدث في مصر يبعث برسالة واضحة إلى عدة دول عربية ويجب أن تقرأ بعناية بالغة: تقول الرسالة: لقد أفلست تلك الأنظمة ووصلت إلى الطريق المسدود وإن الاستبداد قد يطيل من عمر هذا النظام أو ذاك، لكنه لا يضمن له البقاء والاستمرار. الرسالة تقول: إن هذه الأوطان لها شعوب وأن هذه الشعوب تتجدد وتتغير وأن هناك اليوم جيل المعلوماتية قد استعاد الحلم الذي سرق منه منذ سنوات طويلة، وهو اليوم يطلب الحق في الحرية والكرامة والعدل. تقول الرسالة: إن الوطن، شعبا وتاريخا وروحا وهوية وطموحا، أكبر من أن يتحول إلى ملكية خاصة، حتى لو تفرد الحاكم بالسلطة عشرين أو ثلاثين عاما. وتقول الرسالة: إن التفرد بالحكم يولد الفساد وإن الفساد يولد الثورة الشعبية وإن الثورات الشعبية توّلد الرؤساء الهاربين والمطاردين، ولذلك فإن نادي الرؤساء المخلوعين ما يزال مفتوحا أمام الذين يخونون الأمانة ويتنكرون لشعوبهم التي قدمت التضحيات العظيمة للتحرر. هل وصلت الرسالة إلى من يهمهم الأمر، نتمنى ذلك ونرجو أن يكون ذلك الرئيس العربي المخلوع آخر الهاربين وأن يكون السقوط المدوي لذلك الرئيس العربي آخر سقوط، وإن كنا ندرك أن المشكلة تكمن في أولئك الذين لا يصغون إلى شعوبهم ولا يتعلمون من دروس التاريخ. أول الكلام « شعبك هو حصنك .. «