سيدي القاضي: يبدو أن القراء قد اكتشفوا فيك ما استأنسوا له فرغبوا المزيد، وأقحموني كوسيط بينك وبينهم في تحمل مسؤولية إدارة الحوار مجددا بينهم وبينك الأمر الذي أرغمني على مواصلة المهمة. وأنت الذي كنت قد حدثتهم عن اخلالات الدستور، وحدثتهم عن أنواع الأنظمة الديمقراطية، أرجوك أن توضح لي ولهم ماذا أخذ دستور النظام الجزائري من كل من دستور النظام الرئاسي، ومن دستور النظام البرلماني ؟ تأفف ثلاثا وقال: إنّ الدساتير الجزائرية الشمولية منها والانفتاحية، اتخذت في تعديلاتها تطورا ذي منحى سلسا عجيبا، حيث أنها تتالت وتلاحقت متممة لبعضها بعضا حتى في حالة اختلاف النظامين القديم والحالي وتباينهما. وهي ميزة الانتقال المرن من مرحلة إلى أخرى، ومن نظام سياسي إلى آخر التي طبعت المسار السياسي الجزائري لمدة خمسين عاما، ذلك أن تغيير الذهنيات وتطور المؤسسات وتحيين النصوص متواصل، ويحصل بين الفينة والأخرى. أمّا أسلوب التدمير، ومسعى إثبات وجود نظام على انقاض آخر فقد ظل مرفوضا ولاغيا، ومن يرى غير ذلك فهو بذاكرة سريعة الذوبان. يلتقي الدستور الجزائري مع الدستورين المذكورين آنفا في أن الشعب مصدر كل سلطة، وأن السيادة الوطنية ملك له وحده وكذلك السلطة التأسيسية، يمارسها بواسطة ممثلين له منتخبون من قبله محليا ووطنيا. وهو واحد من الدساتير الديمقراطية الثلاثة التي تقوم على الفصل بين السلطات مع الاختلاف الحاصل بينها في الفرق بين الفصل المرن للسلطات الذي ينتهجه النظام البرلماني، والفصل المطلق لها الذي ينتهجه النظام الرئاسي، وفي هذا الفرق مربط الفرس الذي أعد منه الدستور الجزائري ما استطاع من قوة. إذن فالنظام الجزائري الحالي قد أخذ من النظام البرلماني المثالي "البريطاني" ازدواجية السلطة التنفيذية التي تتشكل من رأسين، وإن شئت قل: من مؤسستين، حكومة مسؤولة أمام البرلمان، ورئيس دولة في منأى عن هذه المسؤولية، أي لا مسؤولية له أمام البرلمان. وإن في التقاطع بين المسؤوليات بعلاقات متكاملة، ورقابة متبادلة، فالبرلمان له سلطة الرقابة على الحكومة، وحق المساءلة والاستجواب، وملتمس الرقابة، وتشكيل لجان التحقيق، والأسئلة الشفوية والمكتوبة، والمبادرة بمشاريع القوانين والمشاركة في مختلف مراحل إنضاجها، هي من خصائص النظام البرلماني التي تبناها الدستور الجزائري. ومن جهة أخرى، فالسلطة التنفيذية مجسدة في شخص رئيس الجمهورية، لها الحق في حل المجلس الشعبي الوطني، ودعوة البرلمان إلى الانعقاد في جلسة استثنائية وتحديد جدول أعماله، وحق الاعتراض على القوانين، وحق التشريع بأوامر. أمّا من بين ما استمد الدستور الجزائري من النظام الرئاسي، فإنه يتمثل على وجه الخصوص في الصلاحيات الواسعة التي يضطلع بها رئيس الدولة ويسود في مجالات عديدة وكثيرة واردة حصرا في الدستور، وغيرها مما لم يرد. وأن التنافي بين العضوية في البرلمان، والعضوية في الحكومة هي أيضا من خصائص النظام الرئاسي التي أخذ بها النظام الجزائري، وهذا يُعد مبدأ من مبادئ الفصل المطلق بين السلطات عكس ما يأخذ به النظام البرلماني الذي يقوم على الفصل المرن بين السلطات، وعلى التكامل بينها، حيث أنه يسمح بتحمل مسؤوليتين في منصبين منتخبين من شخص واحد في زمن واحد. وعليه، فإنّ الأركان والخصائص التي أخذ بها النظام الجزائري، هي مزيج من خصائص وأركان كلا من النظام البرلماني والنظام الرئاسي، وهو ما يشبه الخلط المجسد في النظام الفرنسي الحالي، الذي كان نتيجة للصدام السياسي بين ممارسي النظام البرلماني في فرنسا اذاك وبين مجموعة الضغط المؤمنة بالنظام الرئاسي التي كان يرأسها شارل ديغول. ذلك هو مشرب المشرع الجزائري ومنهله بدءا من أيام الاستقلال الأولى تحت ظل حزب جبهة التحرير الوطني، عبر مجلس تأسيسي سنة 1962، ومجلس وطني سنة 1964، في بناء دولة المجالس الشعبية، ومرورا بالعهدات البرلمانية، وانتهاء بتجسيد الدولة الديمقراطية الحديثة في الجزائر، بإعادة صياغة دستور البلاد سنة 1989 أيضا برعاية حزب جبهة التحرير، وإن تم ذلك على صفيح ساخن وأدى إلى مأساة وطنية دفعت في سنة 1997 إلى تعديل ذات الدستور .. . !؟