منذ سنوات مضت، رأينا دستورا لبلد عربي يتم تعديله في ساعات قلائل حتى يتمكن الإبن الشاب من الصعود إلى منصب الرئاسة ليخلف أباه المتوفى، ودار في الأذهان حينئذ سؤال حول قيمة الدستور؟ وما الداعي لكل هذه التمثيلية· وهكذا نجد أنفسنا أمام وضع يتسم بالمفارقة، فإذا كان الدستور مجرد تمثيلية أو ورقة في يد سلطة الدولة يمكنها أن تمزقها أو تدون فيها ما شاءت من مواد، في حين أن الدستور من حيث المبدأ الأساس الناظم للكيان السياسي لمجتمع ما، وبهذا المعنى يمكن القول بأنه طالما هناك سلطة سياسية، فهناك دستور بصرف النظر عن طبيعة هذه السلطة، وبالتالي يمكن أن يكون هناك دستور استبدادي أو قمعي، ولكننا لو وقفنا عند تصور الدستور بهذا المعنى الذي يجعل منه البنية الخفية لأي نظام سياسي لفَقَدَ المصطلح نفسه كل دلالة ولأصبحت المطالبة بالدستور في أي نظام سياسي عملا عبثيا· أما الدستور الحديث، فالحداثة مسار تاريخي بدأ غريبا وانتهى عالميا، وكان للحداثة تأثيرها البالغ على العلوم والمعارف وعلى أنماط الإنتاج وطرق العيش، وعلى السياسة والأخلاق، ولقد دخلت بنا الحداثة إلى ما يمكن أن نسميه النموذج الإرشادي الدستوري الجديد· ولكن كان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك من أوائل الفلاسفة الذين وضعوا الأساس السياسي للسلطة الدستورية· أما تحقيق الدستور الحديث في الواقع العملي، فقد بدأ في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأثناء حروب الاستقلال، حيث ظهر لأول مرة واستجابة لأفكار توماس بين (1737 1809) الدستور المكتوب في وثيقة مستقلة· أما العنصر الثاني الذي ساهم في وضع أسس الدستور بمجموعة من المبادئ الفلسفية التي كانت حصيلة فكر عصر التنوير، وهكذا بدأت تتبلور ملامح الدستور الليبرالي الذي يقوم على كفالة الحرية الفردية وتقييد سلطة الدولة، كما لا ننسى بأن القرن التاسع عشر في أوروبا عرف بأنه قرن تدوين الدساتير حيث احتذت الدول الأوروبية حذو الولاياتالمتحدة، وشرعت في تدوين دساتيرها في وثائق مرجعية معروفة ومحفوظة، وحفلت حركة التدوين هذه بأشكال عديدة من النسخ والنقل والتعديل والابتكار، والتقت جميعها على اختلاف تجاربها عند مجموعة من المهام التي يختص بها الدستور الحديث منها· 1 تنظيم أداء السلطات العامة للدولة عن طريق تحديد مجال الاختصاص· 2 - حماية حقوق الفرد ضد أي تعدٍ محتمل من جانب السلطة· 3 - تقييد السلطة عن طريق تنظيم الفصل بين السلطات· 4 - أن يفرض الدستور نفسه بوصفه قانونا فوق كل قانون آخر، ويكون معيارا لشرعية ما يستحدث من قوانين· وهكذا ينتهي الدستور الحديث إلى نوع من الازدواجية البنيوية أو الجوهرية الملازمة له، وهذه الازدواجية لها جذر واحد، ولكنها تتجلى بصور شتى يمكن لنا تحديد بعضها فيما يلي: - الدستور يشتمل في آن واحد على قيم مثل صيانة الحرية والكرامة وعلى إجراءات مثل سن الانتخابات ومدة الدورة البرلمانية· - الدستور له جانب وضعي يحدد ما هو موجود وجانب معياري يحدد ما ينبغي أن يكون· - الدستور يشتت المواطنين بإعلانه لقيمة الحرية الفردية ويجمعهم باعتباره رمزا لوحدة الشعب· الدستور يوجد انفصاما لدى الفرد بين وضعه كإنسان ووضعه كواطن· ويمكننا الاستمرار في تعديد الأوجه الكثيرة لهذه الازدواجية في فكرة الدستور، ولكن السؤال المهم اليوم هو: هل هناك ضرورة لتجاوزها أم لا؟ يوجد في تاريخ الفكر محاولتين إثنتين أساسيتين لتجاوز هذه الازدواجية، المحاولة الأولى تأتي من جانب القانون الوضعي الذي يريد أن يجرد الدستور من كل سمة سياسية ويعتبره سجلا لمجموعة من القوانين الأساسية التي تشتق منها قوانين أخرى، وكذلك يريد أن يجرده من كل سمة معيارية تربطه بقيم الحرية والكرامة، وما ينبغي أن يكون عليه العيش الاجتماعي المشترك وتجعل من الدستور مجرد رصد لواقع الحال· والمحاولة الثانية يمثلها تيار في الفلسفة السياسية يمكننا أن نطلق عليه التيار الشمولي، يبدأ من هوبزالي هيغل إلى كارل سميث، وهي تعارض الربط بين الدستور وضمان حرية الأفراد، وترى أنه لا يجوز التضحية بالدولة على مذبح حرية الفرد، ومهمة الدستور هي توفير كافة الإجراءات التي تضمن للدولة التدخل بفاعلية، كما أنه ليس تعبيرا عن حقوق الفرد وإنما عن روح الشعب، وبالتالي يختلف من شعب إلى آخر، والدستور في نهاية الأمر أداة في يد الدولة تتحقق من خلالها إراداتها، وبالتالي لا ينبغي أن تشعر مصلحة الدولة العليا بأي حرج أمام حريات الأفراد أو حقوقهم أو حتى أمام القاعدة القانونية نفسها· ويحمل هذان الاتجهان الوضعي والشمولي في طياتهما خطر تفريغ الدستور من أي فعالية سياسية أو تحويله إلى لعبة في يد استبداد الدولة، ولذا تمسك التيار الغالب في الفكر السياسي بالدستور كما هو، واعتبر هذه الازدواجية مصدر حيوية للدستور لأنها تستدعي على الدوام ابتكار حلول وسط مُرضية وحافظة لوحدة الكيان السياسي والحرية الفردية في آن واحد· كانت الديمقراطية عند أرسطو نظاما للحكم ضمن أنظمة أخرى لكنها الآن أصبحت أفقا لكل نظام سياسي شرعي، لقد تحوّلت من صيغة للحكم إلى مثل أعلى معياري، فلم تعد تضم مجموعة من المؤسسات والآليات فحسب، بل تنطوي على مجموعة من القيم تتمثل في الحرية والمساواة وكافة حقوق الإنسان، ومن هذا المنظور يمكننا تقييم التجربة الدستورية العربية، ويمكن لنا أن نصفها ونحن مرتاحون بالتخلف، فنحن لدينا دساتير وفقهاء دستوريون ومحاكم دستورية عليا، لكننا ندرك أن الدستور لا يؤدي دورا فعالا في تنظيم الحياة السياسية وتتعدد مظاهر التخلف في التجربة الدستورية لدينا فنجد منها: الدستور في بلداننا العربية هدفه الأساسي هو زيادة سلطات الحاكم وليس حماية حرية المحكومين، كما لا ننسى بأن الدساتير مليئة بالمواد المتناقضة التي صيغت لإرضاء أطراف متعددة مما يبطل فاعليتها، فالحدود ليست واضحة بين اختصاصات الحاكم وحريات الفرد التي لا يجب أن تُمس، وبين حرية الاعتقاد وحماية الأديان وبين مساواة المواطنين جميعا والتمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق· فالحاكم يتحدث عن احترام الدستور فقط عندما يكون في صالحه، ولكنه يستهين به عندما يتعارض مع ما يرمي إلى تحقيقه ويترك ذلك انطباعا لدى المواطنين بأن الحاكم يمثل سلطة أعلى من سلطة الدستور· ومع هذا، فقد يعرض على الاستفتاء العام، ولكن لا يسمح للمفكرين والقوى السياسية نقد مواده بصورة علنية أمام الجميع قبل إقراره، هذا مع علمنا بأن أغلب الدساتير العربية قد صيغت في فترة تغيب عنها التعددية السياسية، فتميل معظمها إلى نمط الحكم الأحادي، ولهذا لا نندهش من الإمكانيات الهائلة المتاحة أمام الحكام العرب لأن يفعلون بمعارضيهم ما يشاءون، وبدلا من الاسترسال في مظاهر التخلف الدستوري العربي التي لا تنتهي، يجدر بنا أن نتساءل هل النضال من أجل الفوز بدستور ديمقراطي أمر مجدي في مسيرة المواطن العربي لاسترداد حقوقه أم لا؟ فالجدال الدائر الآن في الأوساط السياسية العربية حول الدستور، وما يجب أن يتم فيه من تعديلات هو إشارة إلى تقدم إيجابي في الحركة السياسية العربية وعامل من عوامل تفعيلها ينبغي إذا كنا نسعى لمنح المواطن العربي المزيد من الحقوق أن ندعم هذه المطالب الدستورية بكل ما نستطيع، فالدساتير العربية ليست مجرد قناع وتمثيلية مكشوفة، ولا يكفي أن تدوّن فيها الحقوق حتى تكتسب وتصان، وهذا يتوقف على فاعلية الحركة السياسية العربية النابعة من المجتمع وليس من الدولة، هذا من جهة· ومن جهة ثانية، فإن الدستور الحديث لم يبدأ مكتملا ولم ينته عند حد أخير بل تمده مسيرته بالكثير من الشمول والعمق والترسخ والمعيار في ترسخه وجدواه هو دفاعه عن حرية البشر في إطار من العيش المشترك·