إن الدكتاتورية والتسلط وفرض الوصاية وفساد الحكم في الوطن العربي جعلت الشعوب لا تبالي بتهديم المعبد على المصلين. عندما سقط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بشكل سريع وغير متوقع، وتلاه سقوط سريع آخر للرئيس المصري حسني مبارك بفعل انتفاضة الشارعين .. سارعت معظم الشعوب العربية إلى الانتفاضات ، لتغيير الأنظمة التي تعتقد أنها بائدة وفاسدة وغير شرعية ولم تعد لديها القدرة على التكيف مع المستجدات وتلبية احتياجات الأمة .. فانتفض الناس في البحرين واليمن وسوريا وليبيا والأردن والمغرب والجزائر وغيرها من البلدان العربية .. لأن السقوط الحر والسريع لبن علي ومبارك جعل الناس يعتقدون أن »حكامهم من ورق« وأنهم يذوبون بسرعة مع أول قطرة مطر. لكن ومنذ أشهر من انتفاضة الشارع لم يسقط الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ولم يسقط الزعيم الليبي معمر القذافي. والسقوط الذي أعنيه هنا هو مغادرة الحكم .. أما »سقوط الرمز أو الصورة« فهي أصبحت تحصيل حاصل، إذ لم يعد ممكنا التصور أن القذافي على سبيل المثال سيبقى »رئيسا لليبيا« ولا علي عبد الله صالح سيبقى رئيسا لليمن .. وأن بقائهما إذا حدث لن يكون أبدا مثلما كان عليه في السابق وهذا تحصيل حاصل أيضا. السؤال الذي يمكن طرحه بخصوص الشأن الليبي الذي أصبح مشهدا معقدا وأكثر دموية هو لماذا »تأخر« سقوط القذافي ؟ أو لماذا فشلت »المعارضة« في إسقاطه بطريقة دراماتيكية مثلما حدث مع بن علي ومبارك ؟ بدون شك هناك فروق جوهرية بين التجارب العربية لتغيير الرؤساء أو أنظمة الحكم : تجربة الإطاحة بمبارك وبن علي وتجربة العمل على الإطاحة بالقذافي أو صالح أو الأسد، لكن هناك قاسم مشترك وبالغ الدلالة، هو أن التغيير السلمي للسلطة أو التداول السلمي على الحكم بطرق ديمقراطية لم يحدث في الوطن العربي ، كل ما في الأمر أن هناك »تفرد« بالحكم وتنظيم انتخابات شكلية في بعض البلدان تسوق إلى الخارج أكثر من الداخل .. أي أن هناك احتيال للبقاء في الحكم باستغلال السلطة نفسها. ولما فشل العمل الديمقراطي في حل مشكلة الحكم، مع ما صاحبه من تعسف العائلة أو الجماعة الحاكمة، لجأ الناس إلى الشارع ، ونجحت تجربتان لحد الآن : التجربة المصرية والتونسية. أما التجارب الأخرى وخاصة الليبية واليمنية والسورية فلكل منها خصائص تحكمها وتجعلها غير شبيهة بالأخرى . بخصوص ليبيا ، تم اللجوء بشكل سريع وغبر مبرر إلى استعمال القوة ومن الطرفين، تم تعطيل الحلول السياسية منذ البداية من طرف الليبيين بشكل غير مفهوم ، وفضل الطرفان اللجوء إلى تصريحات استفزازية أكثر منها تطمينية وتهديئية.. وقد حدثت في الجزائر مثلا أحداث قبل ليبيا يومي 4 و5 جانفي 2011 ، وبشكل سريع ومفهوم لجأ بوتفليقة إلى احتواء الوضع بإجراءات اجتماعية وسياسية ولم يلجأ إلى القوة البوليسية ، وكذلك تعاملت المغرب التي أقرت دستورا جديدا، وبدرجة ممماثلة تعاملت الأردن مع الأحداث وغيرت الحكومة ورئيس الوزراء وهكذا. وبشكل سريع أيضا تدخلت القوى الخارجية ممثلة في القوى الإستعمارية التقليدية فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأمريكا في الشأن الليبي وتم جر الأممالمتحدة ومن بعدها الناتو تحت ذريعة »دعوة الجامعة العربية« الأممالمتحدة لحماية المدنيين. من البداية كان واضحا أن عمرو موسى قدم ليبيا والقذافي »هدية« للغرب كمقايضة لقبوله »رئيسا« لمصر خلفا لحسني مبارك، ومن البداية كان الحديث عن التدخل الأجنبي في ليبيا بسبب النفط أي من أجل المصالح المادية. لكن لحد الآن لا الناتو تمكن من تنحية القذافي ولا من يسمون »ثوارا« تمكنوا من الإطاحة به. وحاليا بدأ يولد تخوف من أن أجندة الغرب الخفية لم تكن تسعى للإطاحة بالقذافي، لأنها لو أرادت أن تفعل ذلك لفعلت، فهي خرقت عمليا قرار مجلس الأمن 1973، فما الذي يمنع مواصلة خرقه بالدخول البري لقوات الناتو ؟ قد يكون للغرب أجندة خفية تتمثل في خلق حرب »أهلية في ليبيا« طويلة الأمد، حيث أصبحت جماعة بن غازي مسلحة ومدربة، وأصبح نظام القذافي محاصرا ومجروحا ومن الصعب عليه تسيير شؤون البلد في ظل الحصار الدولي .. وهذا هو السر الذي جعل الغرب يتحدث اليوم عما يسميه حلولا سياسية أو عن فشل الناتو في مهمته بليبيا. الناتو لا يمكنه مواصلة الحرب في ليبيا هكذا، لأنه كلما طالت المدة الزمنية كلما تزايد الضغط الشعبي في دول الناتو ضد الحرب، وربما سينسحب من الميدان الليبي أو يبقى شكليا مثل الحالة الأفغانية والعراقية. وجماعة بن غازي تبدو رهينة للقوى الغربية حتى تصريحات المسؤولين هناك تبدو مقززة وغير مفهومة ومثيرة للإستنكار أحيانا مثلما يحدث مع الجزائر عندما أرادت جماعة بن غازي أن تجرجر الجزائر في حرب ضد القذافي. هذا فيما يعيش القذافي وضعية صعبة مع اعتراف عدة دول بالمجلس الوطني الليبي. في تونس لم تصل عملية التغيير إلى مبتغاها .. وهناك تجاذبات سياسيات يعلم الله مستقبللها، وكذلك في مصر، وهناك تدخل خارجي مفضوح من قبل الإتحاد الأوروبي وأمريكا، هذه الأخيرة أصبحت تموّل ماديا ما تسميه منظمات المجتمع المدني، ومنحت لحد الآن نحو 30 مليون دولار لتونس، وخصصت نحو 150 مليون دولار لمصر . وفي اليمن هناك حرب أهلية وشيكة .. وفي سوريا أيضا .. والدول العربية الأخرى جميعها تعيش على أعصابها حتى لو كانت تدعي أنه لا تشبه تونس أو مصر أو ليبيا أو سوريا أواليمن وفي التجارب العالمية لم يحدث أ، نجحت ثورة شعبية في اقل من 10 سنوات كحد أدني، وهي المدة الزمنية التي استغرقتها الثورة الفرنسية والثورة الصينية على سبيل المثال. فإذا صح التحليل بأن أجندة الغرب هي إشعال حروب أهلية في مختلف البلدان العربية أكثر من نصب أنظمة موالية .. فإنه يمكن فهم لماذا تأخر سقوط القذافي وصالح وغيرهما. ولكن علينا أن نؤكد أن العامل الخارجي يأتي في المقام الثاني بعد مشكل »فساد الحكم« في الوطن العربي، فالدكتاتورية والتسلط وفرض الوصاية جعلت الشعوب لا تبالي بتهديم المعبد على المصلين.